فقه الخديعة

 

د. جعفر العاني/استاذ جامعي عراقي

jafaralani@yahoo.com

تتوالى الكوارث على رؤوس العراقيين من كل حدب وصوب، وكأنما عقود من الضيم والظلم والقسوة والتخلف التى ارتبطت بنظام الحكم الديكتاتوري البائد غير كافية. وما حصل من تغيرات كبرى في 9 نيسان من عام 2003، يوم سقوط الصنم (وليس سقوط "بغداد"، كما يحلو لايتام النظام تسمية ذلك اليوم الخالد) سرعان ما نسيت، اثر اخطاء فادحة عجلت بظهور ذلك المسلسل الارهابي الذي لا يريد ان يتوقف والذي غطى العراق بدمويته من اقصاه الى اقصاه. وهذا "المسلسل" رافقته جملة "تنظيرات" و"فتاوي" مختلفة المراجع، همها ايجاد ذرائع له وادامته والرفع من سقف "دمويته" . وكلما هدأت الامور نوعا ما، يسارع حماة الارهابيين في النفخ "بمزمار" الفتاوي المظللة وخلق الاكاذيب الباطلة وتقديم المشاريع المشبوهة، وكلها تبتغي صب زيت الكراهية والحقد على نار الارهاب المشتعلة لمزيد من القتل ومزيد من الخراب بحيث تظل حياة العراقيين التعساء نهبا للخوف والدمار والخراب .

ويندرج تقديم الحزب الاسلامي لمقترحه الاخير المسمى "بالعقد الوطني" ضمن المشاريع التى ترمي الى اضرام نار الفتنة مجددا وزرع نبتة الارهاب عندما يدعو علانية الى وأد العدالة وطمس الانصاف والمناداة بالسكوت عن الجرائم التى ارتكبها النظام السابق بحق العراقيين وبلدهم قبل التغيير وكذلك بعده التى نفذتها عصابات القاعدة وايتام العهد المباد ومجرمي الجماعات الاسلامية الاصولية ومسلحي ميليشيات جيش المهدي المنفلتة وكل من حمل السلاح وقتل العراقيين وعمل على الانتقاص من حقوقهم غير القابلة للمساومة كما تطالب الدعوة اياها بحصانة كل من شارك او ساهم في الترويج لثقافة الارهاب والموت المعلن في ربوع الرافدين . فجوهر "المبادرة" التى طرحها الحزب تتمحور حول هدف اساسي يتضمن "القاء السلاح مقابل عفو عام يقوم على مبدأ" عفا الله عما سلف " !!. اما البنود الاخرى التى ضمنتها المبادرة والخاصة في التأكيد على سواسية العراقيين جميعهم وحرمة دمائهم ونبذ الغلو والتطرف والتكفير، وتلك المعنية في توصيّف الوظيفة العامة ونوعية حكم العراق والاقرار بالتعددية وقبول الاخر والتداول السلمي والالتزام بشرعة حقوق الانسان وغيرها، هي في الواقع بنود مقبولة ومرحب بها ومتفق عليها . واذ كان ثمة احد من لا يعترف بتلك البنود ويعلنون صباح مساء عن رفضهم لها وعدم الاعتراف باجراءتها وتبعاتها فهم حلفاء وانصار الحزب الاسلامي ذاته وحتى بعض رجالاته ووزراءه (هل يتعين التذكير بقصة وزير "الثقافة" اسعد الهاشمي الهارب من وجه العدالة لارتكابه جرائم عدت خارج المفهوم الثقافي والمفهوم "الاسلامي" الذي يمثل الوزير حزبه في وزارة المالكي الحالية؟) .

اذن، المسألة تكمن في "عفا الله عما سلف!"، وإن غُلفت بتعداد جملة من بنود راجت في القاموس السياسي المحلي وشرع الحديث بها على نطاق واسع منذ واقعة 9 نيسان وسقوط الصنم، ولو ان بنود المبادرة تناست بتعمد حقوق المرأة والاقليات وتغاضت عن اهمية الفنون والثقافة المفترض وجودها ورعايتها وغيرها من البنود الاخرى التى لم يستطع الحزب الاسلامي "هضم" اهميتها ودلالاتها بعد، ولكن القضية تبدو ليست هنا، فالقضية الاساسية هي "عفا الله عما سلف"، هذا هو بيت القصيد، كما يقولون. وهذا المفهوم الذي يبدو مسالماً وبريئاً وخيرأً، فانه بالواقع مفهوما مخادع ولئيم وتعسفي، والمهم غير عادل ولا منصف. واجراءات تطبيقه بالشكل الذي ينادي به طارق الهاشمي وحزبه الاسلامي، سوف يرهن مستقبل العراق بيد القتلة ويعمل لمزيد من موجات ارهابية قادمة اكثر ضراوة وقسوة.

انه مفهوم يعتمد الخديعة، ويسعى الى تسويغ الارهاب وطمس العدالة وفتح الابواب مشرعة اما من هب ودب لتحطيم حياة العراقيين ومستقبلهم القريب والبعيد . ان المطالبة بالعدل والانصاف هو الذي يحمي العراق، وهو الذي يخلق مناخاً مواتيا لطموحات العراقيين واحلامهم في مستقبل واعد، كما يحلم به الاخرون. ان الطلب من ضحايا النظام البائد وضحايا الارهاب طيلة السنين الماضية بنسيان معاناتهم والتعتيم على حقوقهم ومكافأة، نعم مكافأة المجرمين (اذ ماذا يمكن لنا ان نسمي مشروع "عفا الله عما سالف"؟) عن افعالهم الشريرة وفضائعهم المرتكبة بدم بارد ضد اناس عزل ابرياء؛ هو في الاخير يقف الى جانب الارهابيين ويعاضد مشروعهم التدميري.

نحن نعتقد بان ليس ثمة تقادم لتلك الجرائم التى ارتكبت بحق الشعب العراقي، وليس لاحد الحق المطالبة بنسيانها، انها حقوق عادلة ومشروعة ضمنتها مدونات حقوق الانسان وكل المواثيق الدولية فضلا على انها معترف بها اخلاقيا وقانونيا ؛ انها غير قابلة للتجزئة او النسيان او التصرف . كما انها تظل تنشد حلولا منصفة لضحاياها وقصاصا عادلا لمرتكبيها لتكون درسا حاضرا ومطلوبا لاي كان من اؤلئك الافاقين والموتورين والمجرمين القتلة وما شابههم، والذي يسعى الحزب الاسلامي الى حمايتهم بخديعة واضحة المعالم، تستحضر في الذاكرة حالات الخداع والتضليل والمخاتلة التى فوتت على المستضعفين نيل حقوقهم المشروعة، انها تعيد بشكل وباخر خديعة عمرو بن العاص في "صفين" برفع المصاحف على اسنة الرماح وغيرها من المكائد والخدع الكثيرة التى اطمئن البسطاء لصدقية ما يدعو اليه الاشرار الذين سرعان ما ماينقلبون على وعودهم، ولكن بعد فوات الاوان.

ايها العراقيين، احذروا الفتنة، احذروا الخدعة!.

انها واحدة من الفتاوي القذرة التى تسوغ للقتلة جرائمهم النكراء، وتحرص على حمايتهم من القصاص العادل؛ انها جزء من فقه الخديعة المنتشر واسعا، مع الاسف، عبثها وضلالها في العراق الجريح.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com