يبدو أن وزارة الثقافة أصبحت في المقام الأول بين الوزارات العراقية في تفاقم مشاكلها وكثرة التداعيات فيه، ورغم أنها وزارة تعتبر في منظور القادة الجدد عديمة الجدوى قليلة الفائدة، لعدم حاجة العراق إلى الثقافة بقدر حاجته إلى الجهل الذي هو مفتاح الوصول للسلطة والهيمنة على مقاليد البلاد، إلا أنها في الجانب الآخر تحضا باهتمام اللصوص ورعايتهم لما فيها من الثغرات التي يستطيعون النفاذ إليه، وقد تعاقب على أدارتها وزراء (عدى مفيد الجزائري) وزراء لا علاقة لهم بالثقافة من قريب أو بعيد، ولم يسمعوا بكل ما أسمه ثقافة في حياتهم المليئة بالمغريات، فالوزير الأول على ما نعلم من خيرة ضباط الشرطة وأصحاب (الواشرات) والعنجهية والغطرسة والممارسات المشبوهة التي عرف بها هذا السلك، ثم تحول للأعمال التجارية فصار من خيرة تجار الأعلاف، فكان يتصور الثقافة علف للدواجن، لا زاد للآدميين، فتعامل معها بطريقة حيوانية، جعلت شرفاء المدراء العامون يغادرون الوزارة غير آسفين عليها نأيا بأنفسهم عن الغرق في مستنقعها الآسن بعد أن حولها الوزير الجديد إلى ثكنة عسكرية على الجميع التعامل فيها بمنطق السيادة والعبودية والإذلال الذي عليها المؤسسات العسكرية أيام الطاغية المقبور، ومن هؤلاء أستاذنا الفاضل إبراهيم الخياط الذي نأى بنفسه وقلمه أن يكون في وزارة لا تحمل من مقومات الثقافة شيئ، فأختار الحفاظ على كرامته بالبقاء أديبا على أن يصبح شرطيا آخر الزمان.

 وكنا نتوقع أن يخلفه وزير يعرف قيمة الثقافة وأهميته، ولكن السيد رئيس الوزراء أختار لها مؤذن الجامع الهاشمي، الذي حولها إلى تكية للدراويش وحفلات الأذكار وضرب الدر باشة، وبدلا من أن تكون وزارة للمثقفين أصبحت وزارة للمهرجين والناقرين على المزاهر والدفوف، لتعلق فيها الدرباشات العربية، ويجول بها أصحاب الدشاديش القصيرة، وتصبح مقرا للقتلة والأرهابين، حيث وضعت فيها المسالخ لذبح وتعليق الجثث التي يتكرم السيد الوزير بذبحها على الطريقة الإسلامية، ويطرز فيها أكوام النفايات، ويمسك بالجرم المشهود وهو يقوم بجرائمه، فيهرب إلى حيث الملاذ الأمن بين صناديد القاعدة وكبار التكفيريين، وتتخذ اليونسكو قرارها بأن تكون بغداد عاصمة الثقافة في القرن الواحد والعشرين لما تميزت به من ثقافة أصيلة قائمة على الذبح والموت والدمار، وكنا نأمل أن ينسب لها وزير..وزير ينهض بالثقافة العراقية من المستنقع الآسن الذي وضعها فيه الوزراء الميامين، ولكن لعدم أهميتها تركت سائبة يلعب في أروقتها فرسان الثقافة الجدد ممن لا يعرفون الشفق من الغسق، ولا الفرق بين الظاء والضاد، وتعشش فيها النفوس المريضة التي لا تعرف معنى الثقافة والمثقفين.

 ويبدوا أن التأثيرات في بنية الوزارة وافتقارها إلى الأكفاء، جعلها تنحدر أكثر إلى مهاوي الفساد، فقد تواترت الأنباء لاحق، عن حدوث سرقات وهمية لرواتب الموظفين، ورغم أن هذه الظاهرة لا تشمل الثقافة وحدها بل عمت جميع الدوائر، التي يقوم اللصوص بسرقة رواتب منتسبيها في وضح النهار، لتتكرر المشاهد يوميا دون أن نجد الأجراآت الكفيلة بإنهاء هذه الظاهرة المؤسفة، إلا أن الثقافة تميزت بحدوث الكثير من السرقات غير المبررة، ومنها سرقة رواتب موظفي دائرة الفنون الموسيقية التي أفتى بسرقتها المؤمنون الجدد لأن ما يقوم به منتسبين الدائرة من المحرمات والكبائر في عزف الموسيقى وأعداد الألحان، فكان أن سرقت رواتبهم حتى يضطروا لترك مهنتهم والعمل في مجال آخر، وجاءت سرقة رواتب موظفي الأعلام المنحلة، من غرفة مدير مكتب الوزير!!! تصور من غرفة مدير مكتب الوزير خفضه الله ورماه وأنعم بها من وزارة يسرق من غرفة وزيره، وللقارئ تصور نوع الحماية، وحسن الإدارة في هذه الوزارة، فقد قام مجموعة من اللصوص بكسر باب السيد المدير وسرقة ثمانية ملايين دينار من أصل (800) مليون دينار، وهؤلاء اللصوص الظرفاء يبدوا أنهم من طراز آخر ولا يأخذون أكثر مما يحتاجون إليه، ما يدل على أنهم من أصحاب المبادئ والقيم التي يفتقر إليها لصوص هذه الأيام، وقيل أن الحراس شاهدو عدد من موظفي مكتب صاحب المعالي السيد الهاشمي يتواجدون في المكتب قبل السرقة بساعة، مما دفع المحققين إلى توجيه التهمة لهم، ولكن الأجراء الغريب الذي اتخذته الوزارة يدل دلالة قاطعة على نوعية العقليات المهيمنة على الوزارة، فقد صدرت الأوامر السامية أن يستقطع من كل موظف من الموظفين (المنحلين) مبلغا قدره عشرة آلاف دينار، لمعالجة النقص الحاصل في رواتبهم، وبما أن عدد هؤلاء هو 1500 موظف فقد استقطعت الوزارة مبلغا قدره 15 مليون دينار وبذلك وفرت الوزارة سبعة ملايين دينار لأن المبلغ المسروق هو ثمانية ملايين دينار، للاستفادة منها في التموين الذاتي لأركان الوزارة التي يبدوا أنها أنفقت ميزانيتها في أعمال البر والإحسان، وتستطيع عن طريق السرقة توفير أموال أضافية تنفعها في هذا الشهر الكريم لإقامة مأدبة إفطار كبرى للأدباء والشعراء الصائمين منذ سنوات بسبب الحصار المفروض عليهم من الوزارة العتيدة، ويبدو أن الوزارة تهتم بالفولكلور العراقي وتستفد من أمثاله الشعبية فتحاول تطبيقه، لذلك فقد (جملت الغركان غطه) وأخذت من المنحلين لتعطي إلى قادتها الميامين. أن الأجراآت المرتجلة التي دأبت عليها الوزارة تظهر مدى التسيب الحاصل في أروقته، حيث لا يمر شهر دون أن تحدث سرقة فيه، لتقوم الجهات التحقيقية بلفلفة الموضوع وتقييد القضية ضد مجهول، ولا ندري ما هي حجم السرقات التي تقوم بها الوزارة من ميزانيتها التي لم يصرف منها شيء لإقامة مهرجان أو احتفالية، ويبدوا أن الوزارة عازمة على الاستحواذ على الميزانية ورواتب موظفيه، لأنهم لا يؤدون أي عمل، وقد لا يداومون في الوزارة لعدم وجود وزير أو مدير فيه، وكونها باقية أسم بلا مسمى، ويبدوا أن هناك شراكة بين الحارس والحرامي في ظل غياب واضح للقانون، وانعدام أي أجراء لإيقاف مسلسل السرقات في رواتب الاعلام المنحل، ويدل بصورة واضحة على أن هذه الأمور مقصودة ومبيتة مسبقا.

أن الوكيل الأقدم للوزارة، الذي يقوم بمهام الوزير حالي، مدعوا لاتخاذ الأجراآت الكفيلة بكشف المستور ووضع النقاط على الحروف، ورفع الستار عن ما يجري في كواليس الوزارة ومسارحها من مسلسلات إجرامية، طالت الكثيرين، وعسى أن يكون الوكيل بمستوى مركزه، ويستطيع كشف الخفايا والأسرار والواقفين خلف هذه الأعمال وتقديمهم للعدالة لينالوا جزائهم العادل على ما اقترفت أيديهم من سرقات، وبما أنه شاعر عسى أن تكون شاعريته مدعاة لأن يكون بمستوى الشعراء الذين وقفوا بوجه الطغاة، وأن لا يرتضي لنفسه أن يكون مجرد رقم في وزارة فاحت روائحها الزكية وملئت أجواء العراق.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com