صدر إلى الأسواق ديوان جديد للشاعر العراقي المغترب ذياب مهدي غلام، حمل عنوان(حياة الأيام) ضم بين دفتيه قصائد رائعة حملت في طياتها النجوى والحب والحنين والعشق الأزلي لتراب عراقي بلله ندى السماوات ففاحت روائحه، لتبث الدفء والحنين، ويضمخ رياها كل المسامات، لينغرس عميقا ويمدها بنسغ الحياة، وتتهادى نسمات الحب بين كلمات القصائد ومقاطعها بنشيج صامت وآهات، لمرابع ما كان لها أن تغادر ذاكرته المثقلة بالكثير من العوالم، فكان "عنبر الشامية" يمر عبر لهاث الكلمات، ليعطي صورة رائعة لحنين المغترب إلى سماءه الأولى التي ما عاد يلاءم ذائقته إلا ظلالها الهادئة التي طرزت كل شيء.

أنه ديوان حب، حب زاوج بين المرأة والوطن، والمرأة لديه ليست امرأة عمر أبن أبي ربيعة، أو نزار قباني، بعشقهما الذي ينظر إلى جسد المرأة دون أن يلج إلى عوالمه، ولا عشق العذريين الذي يتسامى عن النظرة غير البريئة، أنه ينظرها كإنسانة لها وجودها وكيانها كشريك فاعل في المجتمع، تساهم فيما يساهم الرجال، وتعمل إلى جانب الآخرين على قدم المساواة ، أنها الأخت والأم والرفيقة، والزوجة ، والحبيبة، وليست من نساء شعراء الغزل الذين يطوفون عوالم جسدها بحثا عن لذة جامحة، أو نظرة تبطن في داخلها ما يتطلبه النساء من الرجال، لذلك ترى صوره وأن بدت في ظاهرها موحية بما يعتمل في نفوس العشاق، إلا أنها تعبر عن عشق آخر، فالمرأة لديه رمز للنماء والحياة والوطن والحضن الدافئ الذي يمتلك أكسير الحياة.

وفي طيات الديوان ترى آثار الماضي بما تحمل في داخلها من أساطير تتزاحم لتأخذ حجمها في ذاكرته، فيكون لأشور حضوره، ولنفر شموخه، ولسومر القه، ولنخيل البصرة ظلاله الحانية التي احتوته بأفيائه، وشبعاد بعزها وشموخه، وعروس الفرات تتهادى ناهدة عن صدره، فكان يستوحي منها التراث العبق بشذى التاريخ، ولا ينسى جذوره ومرابع صباه، فالشامية ذات التاريخ الآسر، والنضال المجيد لعقود من السنين، تتمثل في ذاكرته بأجوائها المعطرة بروائح العنبر الذي أخذ أسمها فأصبح علامة دالة عليه، ولا ينسى معشوقته النجف التي عاش فيها سنوات فتوته، وأيام نشأته الأولى، وعرف فيها شاعرا فنانا له وجود ملحوظ بين مثقفيها:

عيوننا تطوف إليك.. تختصر المسافات

 رافعة أياديها بالدعاء

ترتل في شبكات الانترنيت

تبحث عن الذات السليبة

ضاع الوشم من صدغ الجبين

وسيماء الوجه

 تلاشى أثر السجود

وكفت عن البوح مناقير القطا

ورغم بعده عنه، وتغربه عن أجوائه، إلا انه لا زال يناجي آثاره، ويتابع أخبارها ، ويتلمس ما يجعله يعيش في أجوائه، فهو يختصر المسافات في طوافه الروحي ليكون في صميمه، يتنسم عبيرها عبر الشبكة العنكبوتية التي تدني البعيد:

ستعود السنونوات

تقيم زقورتها

من طين دجلة

وعلى زخارف القباب

تغفو...

ويحلم بالعودة إليها كما تعود(الطيور الطايرة الديرة هلي)لذلك ترى عشقه الأبدي يطوف في ثنايا قصائده، ويلوح بكبرياء وشموخ آثار حب جارف، ما كان له أن يكون لولا بصمات تركت آثارها في ذاكرته، ليس للأيام أزالتها مهما طال الزمن وبعدت المسافات:

 تتفتح أزاهير الذكرى

حين يكون المنفى شحيحا

هل أكون سوى

حرف ضاع بين طلاسم شفتيك

ويأسوا في (خمره الأخضر) على الضياع الذي لف غموض عراقه الحبيب، فيستنطق التاريخ ليصف الهجمة الشرسة بكلاب الحوأب في تضمين للمأثور العربي، بقيام كلاب الحوأب بالنباح على الخارجين عن الإجماع الوطني، في تمييز واضح لهم، بأنهم يمثلون الجانب السيئ في العراق الجديد، وإشارة واضحة إلى الأعمال المشينة التي يمارسها نفر ضال في سرقة الوطن والمواطن:

نسغ هو القلب

تلعقه كلاب الحوأب

مسكين قمري الأخضر

يسرقه الغجر

قلائد يصلب

لطرق أبواب الصدر

تيه في أزقة بغداد

ويستخلص من الموروث الشعبي صور معبرة عن واقع مر يمثله التشظي، وضياع المقاييس، ليستعير من عالم ألف ليلة وليلة عوالم السحر، صور يضفيها على الواقع لتبدوا أكثر إيحاء من الكلام بما تحمل في داخلها من تجسيد حي:

خرز تناثرنا

عرافة رمت تميمتها والحصاة

مسالك للتائهين.. الصابرين.. المنفيين...

 الخونة.. البغاة... التفات....... مسالك للضمائر

ويرى العراق في كل شيء، في صحوه ومنامه، في ليله ونهاره، لم تصبيه متاهات الحضارة الغربية بصخبها وضجيجه، فما زال كالراهب المتبتل يغني سماوات العشق الأبدي، يراها ماثلة في عيون الحبيبة وهمساته، بين جنبيها حيث يترامى القلب في الجانب الأيسر من جسدها الذي ينظره الآخرون بعيون تلتهم الظاهر منه، فيما يرى كيف يتربع الوطن داخله، بين شغافه، وفي سويدائه:

تحت نهدك الأيسر

لا شيء يرف سوى عراق

ويرى أسراب النساء يتلمسن طريقهن نحو شواطئ الدفء، ليوقدن (شموع الخضر) نذورا لعودة الغائب، ليمخر قلبه في العباب الزاخر ، يرسوا في عينيها اللتين يمثلان شواطئ الأمان في سفره المضني في هذه الحياة:

حينها ستعود الأمهات

لعتبات الشواطئ

فيوقدن للخضر.. شموعه المرتقبة

حينها سيغدو قلبي زورقا

وعيناك شاطئين

أما (نرجسية أرض السواد) فهي استذكار لأيام سلفت، كان فيها في صلب الأحداث، عندما كان يرسم بريشته الغد الزاهر، لتعلوا الرايات، وتتقدم المواكب، ويرى الحلاج مصلوبا في مدن البؤس، فيما يغفوا الذين لا يشعرون بحجم المعانات:

يا جذوة العناق في الضفاف

يا حسرة لمسيرة الرايات

تصلب بينهم الطغاة

كم حلاج في الصدر

سمروه بالخواتم.... والنرجسية تغفوا

ويرى في أسراب الأمهات المتوجهات إلى حيث الملاذ الروحي، الذي يجدن فيه الخلاص، متوسلات بعودة العابرين إلى الشاطئ الآخر، يرفعن أكفهن بالدعاء تحت(ميزاب الذهب) صارخات من قلوب ثاكلة(وينك يداحي الباب)وأستطاع هنا توظيف الحس الشعبي بتقديمه صورة تحمل في طياتها الكثير من الأيحاآت لما مر به العراق من سنين عجاف، كان اليتم والثكل والحزن والأسى يخيم بظلاله السوداء على كل شيء، فلا يجد الإنسان مندوحة من التعلق بأوهن الأسباب، ليجد الراحة النفسية، والخلاص من واقعه المأساوي:

حزانى... يتوافدن مبرقعات بثياب الحداد

شهقات الثكالى..تحت (ميزاب الذهب)

تعرج الأفئدة كبراق التوسلات

(وينك يداحي الباب)

وفي حمأت هذا الطوفان الروحي في عالم السحر والذكريات وطيوف الأحبة وأسراب الثاكلات، وشواطئ الدفء والحنين التي أضطر لفراقه، ومن بين أنقاض التداعي تبرز الذكرى الحبيبة رافعة رأسه، لتبث في داخله الأمل والذكرى والمستقبل، ليغني بعنفوان المناضلين، ذلك الألق الزاهي في سماوات العشق، والمارد الذي خرج من بين الأنقاض ليعلن البداية الجديدة، ويسجل تاريخا وضاء، معمد بدماء الشهداء، وأنات المعذبين، ويرسم صورة زاهية(لحلمه) فتكون الذكرى نافذة للحلم بمستقبل جميل وضاء:

حين حلق النرجس... من سماوات العيون

هرب البحر من زرقته...لفضاء الحب..للوسن المجنون

هناك انتشرت فراشات ..الضوء وغرد الحسون

حين يستيقظ وطني من قمعه

يغطي(من السما) والحلوى

ختى يعم وطني حلم الطفولة

حين يكون الناس في طواف أرضهم

وطني حر للجميع..وشعبي يغني

هناك تعزف الشفاه.. للكون... (هلهولة)

 وفي (كلمات على رصيف الغربة)نتيه في متاهات الغربة، ففي أويقات الغروب يستذكر النائي وطنه، الذي أبتعد عنه، ليطوف نع الطيور المهاجرة التي تتخذ من الغسق الساجي دليلا في سفرها إلى عوالم الأحبة، فيما يبحر هو نحو وطنه ليرى المعادلة العجيبة، والحيرة الكبرى، في من يركب من، هل يركب السلطان حمار، أم حمارا يمتطي الآخرين:

يأتي الغروب

تنأى الطيور بعيدا

غسق كخد الغجرية

يلطخ بالاحمرار

ركب السلطان الحمار

أم ركبنا الحمار

ولنتركه في حيرته بين الحمير ، فسواء أركبنا الحمار أم ركب علينا الحمير، فالحمار أثمن رأسمال في الجبل، ولعله أجدى لصاحبه من حمير ناءت بأثقالها ولكنها تبحث عن عصا الجلاد.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com