السُلْطة ُ تجترُّهم تباعاً

 

 

باسم السعيدي

لم يزل التأريخ يبحث عن إجابة شافية.. هل يسمح العراق بإلتهامه من دون غصّة لآكليه؟

تسرد لنا كتب التأريخ أن جميع من تحكَّم بمقادير أمور شعب العراق جاءهم اليوم الذي وقفوا فيه مع أنفسهم في لحظة ندم، قد لا يعلن الطغاة والمنتفعون عن دواخلهم لكنها الحقيقة التي ليس بإمكانهم إخفاؤها عن أنفسهم، ولا عن شعب العراق.

هذه الحقيقة واجهها يوماً كل من كسرى والحجاج وأبو العباس السفاح وصولاً الى أباطرة السلاجقة والصفويين وولاة العثمانيين .. كما مرَّ بهذه اللحظات القائد البريطاني لجمان.

أكاد أجزم أن صدّام حسين مرَّ بهذه الأفكار يوم سقوط بغداد ، لكنه أنكر على الملأ مسؤولية إلقاء العراق في مثل هذه الغيبوبة ، كما مرَّ بها يوم ألقي القبض عليه، يوم سمع نطق الحكم بإعدامه.

يمرُّ بوش يومياً بهذه اللحظات، كلما وصلت إلى يديه التقارير التي تتحدث عن الواقع المخزي في العراق .. صنيعة أيدي بوش وجنرالاته .. ودبلوماسييه.

يوم سقوط بغداد كان ساسة الفوضى غير الخلاقة يتبادلون التهاني، لم يكن يخطر ببال أحدهم أنهم سيمرون تحت شفرة التأريخ التي لا ترحم، ذاتها التي مرَّ تحتها كل الجبابرة الذين تحكَّموا بالعراق.

لحظة "النصر" ممتعة، تنسي (مقترفيها) التبعات التي سينظرونها بأعينهم في لحظة حقيقة لا يمكن ابتلاعها وشرب قدح ماء لتمريرها من وراء الضمير.

لم يدر في خلد أحدهم "ساسة الفوضى غير الخلاقة" أنهم سيكونون شهوداً على المثل الشهير (ماشافوهمش وهمه بيسرقوا .. الإسلاميون.بيتقاسموا) أي أنهم ربما أظهروا الكياسة اللازمة لحظة الشعور بنشوة الإطاحة بنظام صدام "ولو على حساب وطن" ولكن حين حان وقت اقتسام الكعكة "العراق" ظهر كلٌّ منهم على حقيقته من دون رتوش أو ملمعات الوجوه التي تستخدمها حسناوات المواخير الليلية.

جمعهم مؤتمر لندن بكل أشكال عقائدهم السياسية، طمعاً في كعكة العراق التي تبين جليّاً طعمها المرّ لكل من خان تراب العراق.

الإسلاميون .. متعكزين على فتاوى السيد السيستاني ركلوا العلمانيين، والشيوعيون ركلوا ولاءهم للبروليتاريا فتجلببوا بمعطف الرأسمالية الأمريكية، والقوميون وجدوا أنفسهم مفلسين في قافلة التيه تلك فراحوا يتحالفون مع القاعدة متناسين جدلية العلاقة بين الدين والسياسة.

الدين نفسه .. وجد نفسه ممداً تتخطـَّفه سكاكين الذباحين من اليمين لتلقي به في المزابل مع ضحايا الدين، وفوهات مسدسات اليسار التي تنسف الجماجم لتلقي به ممدداً في المزابل مع ضحايا الدين.

لم يشهد التأريخ قذارة كتلك التي تعصف بالعراق بمثل هذا الاصطراع الحلزوني من الخارج الى الداخل فالعقائد الأيديولوجية تتآكل، الدينية منها وغيرها، والطموحات الفئوية تتآكل هي الأخرى، حتى الوطنية.. باتت تنبح نباح الكلاب كي تلفت الأنظار هنا وهناك متعكزة على شبح "الوطن" المتآكل.

الغريب أن أبناء الداخل "المقاومين" ركلوا القادمين "على ظهر الدبابة" فتحزبوا لمقاومة الاحتلال، ثم عاد المقاومون ذاتهم ليقاتل بعضهم بعضاً، فقد شهدت الفلوجة والنجف قتال "المقاومين" كتفاً الى كتف، ثم عاد هؤلاء ليذبحوا هؤلاء، وهؤلاء ليصكـّـوا (أي يقتلوا) هؤلاء وقتلى الطرفين تجدهم في اليوم التالي في المزابل، تفرق دم المقاومة بين الكتل السياسية التي تبحث عن حصصها ضمن (الاستحقاق الانتخابي) كلٌّ تحزب ضمن طائفته، ثم تفتت الكتل لتنتج كائنات هجينة لا تمت الى "المقاومة" بصلة، ولا الى طوائفها بصلة .. وبالتأكيد لا تمت الى الوطن بصلة لأنها ابتعدت كثيراً عن رؤيا وطن.

أما القادمين على ظهر الدبابة.. هم أالمالكي.وا يمينا وشمالاً، علاوي بات بعثياً بعد أن نال "الإجماع" على مائدة الأخضر الإبراهيمي، والجعفري الذي لطالما تشدَّق بدولة القانون والشفافية وكل الاصطلاحات التي يتعمد سردها تنكيلاً بالمواطن البسيط الذي لا يفقه كلمة منها.. الجعفري ترك الفتنة يقظة.. وفرَّط في ترك الحبل على الغارب للعصابات كي تنهش بلحم أبناء جلدته ومنهم أجهزته الأمنية.

أما المالكي.. فدوره بات مرسملاً لحساب جهة دون جهة .. حتى إذا بان بياض إبطيه نكـَّل به أقرب الناس إليه.. الجعفري نفسه.

احتراب بين الأحزاب ضحاياها أبناء الشعب من المخدوعين بهؤلاء وهؤلاء.. فتنة تركت الحليدولة.ن على حد تعبير أمير البلاغة.

خلقوا نظاماً سياسياً هجيناً لم يُرَ مثلُه في التأريخ، إذ يتوجب على المنتصر أن يخلق دولة .. لا دولة بارونات، بينما خلق هؤلاء دولة بارونات.

البصرة شهدت وتشهد اقتتالا بين الطائفة الواحدة وصولاً الى السلطة، والمناطق الساخنة تشهد اقتتالا بين المجاميع المسلَّحة التي كانت في خندق واحد.

لم يعد في الخارطة من عدوّ فكل الفرقاء أعداء الفرقاء، في غياب منقطع النظير لأي فكر أو شعور وطني.

لم توهي. العراق من حقيقة تقف على أرض صلبة غير واحدة فيها الأمل الأخير، فإذا إنفرط عقدها .. ضاع العراق.. ألا وهي .. العشائر العراقية الأصيلة.

هذه وحدها تمثل انتماء للعراق .. وما عداها خواء.

شعر ساسة الفوضى غير الخلاقة بهذا الخطر على نظامهم السياسي الهجين، فباتت العشائر مصدر قلق .. وتسليح العشائر العراقية على مرِّ التأريخ كان صمام أمان للعراق، فهنالك تقاليد ومواثيق عشائرية تحكم الواقع، قد لا تكون العشائر هي الرجاء الحقيقي لبناء دولة القانون المتحضرة، لكنها في واقعنا الحالي أفضل ما ممكن لبقاء العراق كوطن.

أقول صادقاً .. إن ضرب إرتكازية العشائر في المجتمع العراقي هو ضرب للخندق الأخير الذي يدافع عن الوطن، وهو اقتلاع الجذور الإستراتيجية التي ترتبط بشيء اسمه العراق، فساسة الفوضى غير الخلاقة لا يمتلكون جذوراً في داخل العراق.. فجهة أو جهات ترتبط بأجندة إيران، وأخرى أو أخريات ترتبط بأمريكا، وثالثة أو ثالثات ترتبط بالسعودية، ورابعات ترتبط بالقاعدة التي لا هوية لها في الأصل غير الحروب، الجهة أو الجهات الوحيدة التي ترتبط بالعراق هي العشائر وهي التي لديها اسم تسعى للحفاظ عليه منذ أن وطأت أقدام العرب العاربة أو المستعربة أرض الرافدين.

فهل يصحُّ أن نهدم المعقل الأخير لنترك العراق نهبة لحرب العصابات والمخابرات الأجنبية؟

سؤال موجه الى ضمير كل عراقي !!!

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com