|
قبل أن ألتقي بالدكتورة نزيهة في السبعينات كنت قد سمعت عنها الكثير , لقائي الأول بها في بيت السيدة أنيسة عبد الهادي والدكتور عبد الصمد النعمان, حيث كان اجتماع اللجنة العليا للرابطة, في الطريق الى الاجتماع كنت قلقة مرتبكة ولكنني فرحة إذ سأحضر اجتماعا مع صفوة النساء العراقيات ,أسماء لامعة في الحركة النسائية وفي مقدمتهن الدكتورة نزيهة تحدين عتاة الحرس القومي, ولكنهن نهضن أعدن التنظيم, كنت في سري وأنا في القطار المتجه الى بغداد أرسم أشكالا لهن فمن أين تأتي القدرة والقوة في أن تلملم جراحك وتعض على الألم لتسير في درب لم يكن يوما ما سهلا محاطا بالزهور, وأهيئ كلمات كبيرة وأعد نفسي فأردد ما قامت به رابطة المرأة في البصرة التي كنت ممثلتها يوم ذاك أمام اللجنة العليا للرابطة ثم يعود الخوف يتسرب الى قلبي كيف سأتحدث أمام التجربة والخبرة المتراكمة وسنوات من النضال في مقارعة الطغاة. التقيت بالدكتورة وبأبرز الشخصيات النسوية, زال الارتباك حينما استقبلتنا ببشاشة وبصوت الأم الحنون, حيتنا رحبت بنا بحرارة, اهتمت بكل صغيرة وكبيرة مما طرحناه نحن مشاريع الكوادر النسوية القادمة من أنحاء مختلفة من العراق, شجعتنا أعطتنا الدافع, تعلمنا منها ومن زميلاتها كيف تكون القيادة , تواضع دون ضعف ودقة متابعة إنصات وسماع الآخر ودفء التعامل. أذكر يوم كان الأعداد للمؤتمر العالمي للنساء عام 1975 وأثناء الاجتماع الموسع الذي حضرته شخصيات نسائية من العوائل البغدادية العريقة كنا قد حضرنا من المنطقة الجنوبية, الشهيدة أنسام (موناليزا) وسميرة مزعل وأنا, أثناء الاجتماع فتح باب التبرع لتغطية تكاليف المشاركة في المؤتمر وتغطية النشاطات, وقد بادرت العديد من السيدات التبرع بمبالغ يومها كانت بالنسبة لنا كبيرة, انتابنا الخجل لعدم قدرتنا على التبرع فما معنا يكفي فقط أجور العودة, فقصدت الدكتورة أشرح لها فما كان منها إلاّ احتضنتني قائلة ماتفعلنه من جهد وما تقدمنه للرابطة من كسب للنساء وتوعية ونشاط أثمن وأهم بكثير من التبرعات, هكذا استطاعت أن تنزع الخجل منا فأراحتنا . لقد كان بإمكان الدكتورة أن تختار الحياة الهانئة فالظروف الأسرية والمركز الوظيفي كان سيوفر لها حياة مستقرة لكن اهتمامها كان أكبر من أن تكون مجرد طبيبة بل وظفت مهنتها وعلمها لتفتح آفاقا أمام المرأة العراقية المضطهدة, غاصت في عمق المجتمع العراقي المبني على التمسك بالعادات والتقاليد بتزمت وانتقدت بجرأة عالية الظواهر التي تحد من إمكانيات المرأة العراقية والنظرة الدونية لها والانتقاص من قيمتها لقد سخرت تجربتها جميعها في كشف نواقص المجتمع وموقفه من المرأة, حملت الاستعمار, الإقطاع , العشائرية, البرجوازية والثالوث اللعين الجهل والفقر والمرض أسباب التخلف, لم بهمها الحملات التي كانت تشنها القوى الرجعية والمتسترة بالدين ضدها, وجدت أن العلاج يكمن في محاربة هذه الآفات والقضاء عليها, تنورت بالأفكار التقدمية, فتحت أمامها عوالم أخرى فاستفادت من تجارب الشعوب التي سبقت العراق في تطورها , جعلها تدرك أن مفتاح الخلاص هو بيد المرأة نفسها في أن تنظم نفسها ترسم أهدافها وتضع أسسا للوصول الى تحقيق مطالبها في المساواة في الحقوق, لذا بادرت مع زميلات لها الى تأسيس رابطة المرأة العراقية وانطلقت من خلال هذه المنظمة الى آفاق العالم الرحب حاملة معها هموم بنات شعبها هادفة الى حشد التضامن مع قضيتها . ويوم أتيحت الفرصة بحلول ثورة الرابع عشر من تموز لم تأل نزيهة الدليمي ومن معها من مناضلات جهدا في رفع مستوى المرأة العراقية بمختلف الوسائل , توجتها بقانون الأحوال الشخصية الذي يعد لحد اليوم هو المكسب الذي تحقق للمرأة العراقية رغم التشويهات والتلاعب الذي لحقه على أيدي القوى الرجعية التي لم تنفك حتى يومنا هذا للانقضاض عليه . مآثر كثيرة لهذه المرأة الثرية بذكائها, بقدرتها التنظيمية, بدقتها ,بتواضعها لم تستطع الصفحات أن تلم بغنى تاريخها المشبع بالإخلاص للوطن والمرأة العراقية. لم يستطع المرض أن يحد من تفاؤلها وإن يزيح من تفكيرها وليدتها رابطة المرأة العراقية ورفيقات دربه (وبناتها) اللواتي تعلمن منها كيف يكون الإخلاص لقضية والإصرار على تحقيقها. هكذا رحلت عنا بصمت وهدوء هذه المرأة التي أحببناها.. وسؤال يدور في خلدي ترى هل أن شخصية كنزيهة الدليمي تتكرر!! وما أحوجنا إليها اليوم.. - البنات: لفظة تطلقها الرابطيات الأوائل ومنهن الدكتورة على من يعملن في صفوف الرابطة بغض النظر عن السن .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |