يتهيأ للبعض من الناس أن هنالك إختلافا ً فكريا ًحادا ًبين المسلم العلماني والمسلم التقليدي ، حول النظرة العامة إلى الكون والحياة ودور الدين والعقل الإنساني في تفسير ظواهر هما والتصدي للإشكاليات التي تواجه الإنسان ولا سيما السياسية . والحقيقة إن هذا الأمر مبالغ فيه كثيرا وناتج عن الاتهامات التي يكيلها البعض من هذا الطرف أو ذاك للطرف الآخر بخطأ الفهم والرؤية والنظرة إلى القضايا التي اشرنا إليها. ولكي نفهم أكثر نقاط الخلاف ومدى هذا التباين في الرأي و أسبابهما سنحاول أن نوضح معنى المسلم العلماني ومعنى المسلم التقليدي حسب فهمنا البسيط ثم نعرج على أوجه الاتفاق بينهما.

"فالمسلم العلماني" هو المسلم الذي يؤمن بالله إيمانا عقليا وعلميا منطلقا من أن هذا الكون وهذه الحياة المنظمتان تنظيما راقيا لابد لهما من خالق على درجة غير متناهية من القدرة والإبداع فلا يمكن أن يكونا خلقا لوحدهما وان كل ما ورد في القرآن الكريم من أوامر ونواهي تبتغي مصلحة الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة وان الاختلافات حول تفسير بعض آيات القران الكريم والروايات التي بين أيدينا عن أقوال وأفعال الرسول محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم سببها عدم دقة النقل لأسباب موضوعية وأخرى موضوعة بصورة متعمدة دسها أعداء الإسلام ولاسيما أثناء الإحتلالات الأجنبية المتتالية لعاصمة الدولة الإسلامية"بغداد". وقد لعب المحتلون الفرس الدور الأكبر والأخطر في هذا المجال لإحداث الفرقة والتمزق بين المسلمين بهدف إضعافهم ومن ثم التغلب عليهم لان سر قوتهم يكمن في وحدتهم التي كانت سبب انتصاراتهم على أعدائهم . وهو ما دفع المسلم العلماني إلى تحكيم عقله في الأمر للتمييز بين الأقرب إلى الشرع الإلهي من غيره فيتبنى ما يراه متفقا مع قناعاته العلمية والعقلية مما نقل إلينا عن السلف من وثائق ولا سيما تلك التي حصل حول دقتها وصحتها إختلاف بين المسلمين بما في ذلك تلك التي تفسر ظواهر الكون والحياة وتعالج الإشكاليات التي تواجه البشر وكيفية أداء عباداته على أكمل وجه . ولذلك فان إيمانه بالله تعالى راسخا ً رسوخا ًعميقا لكونه لم يؤمن بالتقليد والمعايشة والنقل والتواتر فقط وإنما بالاقتناع العلمي من خلال مطابقة المعلومات المتيسرة من هذه المصادر مع العقل والمنطق أي مع مقاصد الشريعة الإسلامية التي تهدف إلى جلب المنافع ودفع المفاسد .

أما "المسلم التقليدي" فانه المسلم الذي يأخذ بالنقل والتواتر ويختار مما بين يديه من وثائق تلك التي تتفق مع قناعاته أيضا ويعتبرها المرجع الأساسي والوحيد الذي لا يرقى إليه الشك والخطأ حتى وان تعارض مع العقل والمنطق ويتبع مشاهير المختصين في ذلك الاتجاه أو الخط الديني من الذين يطلق عليهم "العلماء أو المراجع" حتى وان كانوا على خطأ ويقدم النقل على العقل عند إختلافهما أو تناقضهما .

بعد هذا التعريف البسيط نستطيع أن نقارن بين الاثنين فنجد أن هناك اتفاق في بعض المحاور واختلاف في محاور أخرى وكما يلي:

1- إن جميع المسلمين يتعرفون على الشرع الإسلامي عن طريق التواتر والنقل من الأهل والبيئة الاجتماعية والمدرسة والوثائق المتخصصة المتيسرة وكذلك من العلماء والمختصين بعلوم الدين والمراجع الدينية ثم لاحقا يحدد كل منهم اتجاهاته العقائدية حسب قناعا ته وظروفه الذاتية وظروف حياته. فمنهم من يختار الاتجاه العلماني ومنهم من يختار الاتجاه التقليدي.

2- المسلم العلماني يتراجع بسهولة عن رأيه عند اكتشاف خطأه أو عند تفنيد وجهة نظره بحجة علمية دون أية إشكاليات أو ردود أفعال سلبية ولا يتعصب لوجهة نظره الدينية إنما يتعصب لترجيح التحليل العلمي العقلاني عند الاختلاف والشك بالمنقول لأنه إنسان عادي غير مقدس عند أو من أحد لكي يشكل التراجع عن خطأه أو تصحيح رأيه مشكلة . أما التقليدي فانه يتمسك بوجهة نظره التي يعتنقها ولا يتزحزح عنها حتى لو تم تفنيدها علميا لاعتقاده أن الوثائق التي بين يديه أو رأي العالم الفلاني الذي يتبعه حيا كان أم ميتا هما نهاية الحقيقة التي لا يرقى إليها الشك . فيبني مواقفه وعلاقاته وتحليلاته على هذا الأساس ويتعصب له ويدافع عنه بكل قوة لدرجة التقديس وتكفير الآخرين الذين يخالفونه في الرأي علنا ًأو سرا ًوتبعا للظروف، بل يصل الأمرُ أحيانا وعند الشعور بالقوة أو توفرها فعلا إلى الاحتراب والتقاتل معهم على خلفية تكفيرهم . وهذا غير صحيح لان كل إنسان ممكن أن يخطأ بما في ذلك الرسل والأنبياء في الأمور التي لم يخبرهم الله عز و جل بها . وقد أكد ذلك الإمام "مالك"رضي الله تعالى عنه، حين قال وهو بقرب قبر الرسول عليه الصلاة والسلام:"كل إنسان ٍ يُؤخذ ُ منه ويُردُ عليه إلا صاحب هذا القبر"وهذا القول عين العقل لان الرسول صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم لا يمكن أن يبت بأمر ٍ ديني أو بقضية دينيه من عندياته مالم يكن لديه شيء من الله تعالى حول ذلك الأمر، بل انه حدث أكثر من مرة انه يُسأل من قبل الصحابة عن قضية ما وعندما لم يكن قد نزل حولها شيء فلا يجيبهم أو يؤجل الإجابة لحين نزول الوحي عليه بالإجابة أما بغير ذلك فيمكن أن يخطأ كما حصل في معركة بدر عندما إرتأى الترجل والنزول بمكان غير مناسب عسكريا قبل المعركة فأشار عليه أصحابه برأي آخر فأخذ به .

3- كلاهما يريد الوصول إلى الحقيقة الكاملة والأصلية التي نزلت على محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، إلا أنهم لا يجدون الحل المثالي، فالعلماني لا يعتبر الوثائق المتوفرة صحيحة بشكل ٍتام لأنه يرى الاختلاف الحاد بين المسلمين حول صحتها ونشوء فرق بأسماء ما أنزل الله تعالى بها من سلطان تتعارض مع أوامره ونواهيه حول وجوب وحدة المسلمين وعدم تفرقهم ، فيلجأ عند ذاك مضطرا إلى التحليل العلمي وعرض الأمر على مقاصد الشرع الإسلامي لمعرفة أي النصوص أو الآراء الصادرة عن الرواة والمختصين الحاليين أو السابقين اقرب إلى الشرع الإسلامي سيما إذا علمنا أن القرآن الكريم أولى اهتماما شديدا بالعلم والعقل فكم من الآيات ذكرت عبارة"لقوم يعلمون أو لقوم يعقلون أو أ ُلي الألباب أو أهل الذكر". أما التقليدي فيتبنى وجهة نظر احد أو مجموعة من الرواة المختصين السابقين أو الحاليين ويعتمد نوع معين من الوثائق كحقيقة نهائية لا يقبل المساس بصحتها.

4- ليس هناك شك في أن جميع المسلمين الحقيقيين غير المنافقين سواء كانوا علمانيين أم تقليديين أو لنقل"نقليين"يُعدون سلفيين لأن جميعهم يتحرون ماكان عليه السلف الصالح للأمة ولا سيما الرسول الكريم محمد عليه وعلى آله أفضل الصلوات والسلام وأصحابه ، وكل فرقة تعتقد أن ما لديها من وثائق ومعلومات هي الحقيقة التي كانت على عهد أولئك السلف وما عداها غير صحيحا ًأو مزورا ًعمدا ً.

5- لقد أدت مشاركة المسلمين التقليديين في السياسة إلى إشكاليات كبيرة وخطيرة عانى منها مئات الألوف إن لم يكن الملايين من المسلمين من جراء شحن التنافس السياسي بشحنات دينية فرقية وطائفية بلغت حد التقاتل بسبب الصراع بين الكتل حول السيطرة على القرار السياسي والمناصب والثروات والوظائف والذي راح ضحيته الكثيرين بين قتيل ومعوق ومشرد ومقصي ومهمش وهو ما قتل روح المواطنة وأوصل تلك البلدان إلى حافة الهاوية التي تبدأ بالتقسيم مثلما يحصل في العراق ولبنان والسودان . فلو كانت الوثائق التي بين أيدينا موحدة لكان جميع المسلمين على رأي واحد ولما حصل ذلك طبعا ولكان بالإمكان إقامة أحزاب وكتل سياسية على أسس دينية أو غير دينية في البلدان التي ينتمي جميع مواطنيها إلى دين واحد وقومية واحدة أما في غير ذلك فلا يجوز . أما الأحزاب العلمانية فان قيامها لا يشكل مصدرا للخطر لأنها لاتفرق بين مواطن وآخر على أساس الهوية الدينية أو القومية مما يشكل مصدرا للاستقرار وبناء الديمقراطية وتنمية البلاد تنمية صحيحة وسليمة . وفي اعتقادي فان الشرع الإسلامي في هذه الحالة يقدم الأحزاب العلمانية على الأحزاب الدينية والقومية لأنها تجلب المنافع وتدفع المفاسد بينما الأحزاب الدينية والقومية في البلدان المتعددة الأديان والطوائف والأعراق تجلب أشد الأضرار وتمنع المنافع ولكن بشرط أن تتقيد الأحزاب العلمانية بان تكون الأسباب الموجبة لقراراتها جلب المنافع وتكثيرها ودفع المفاسد وتقليلها وهو ما يتفق مع مقاصد الشرع الإسلامي وبذلك تكون قد حكمت شرع الله تعالى من دون الإشارة لذلك من قريب أو بعيد وهو ما يحقق أهداف الجميع متدينين وغير متدينين وأيضا من دون إدخال الدين الإسلامي في قذارات السياسة التي تسيء له من جراء توظيفه لخدمة أهداف شخصية تتعارض مع مقاصده .

6- وانطلاقا مما تقدم فان المسلم العلماني يرى أن وجود طوائف وفرق متفرعة من الإسلام من اشد الأمور المحرمة شرعا ً لأنها من أكثر الأخطاء التي جلبت للإسلام والمسلمين أفدح الأضرار والخسائر ومنعت عنهم أفضل المنافع ويسند ذلك الكثير من الآيات التي تأمر بوحدة المسلمين وتنهى عن التفرق . وينسحب الأمر نفسه على تشكيل أحزاب وتنظيمات وكتل سياسية على أسس دينية وطائفية وعرقية في البلدان التي تتشكل من مكونات دينية وطائفية وعرقية لأنها تدمرها وتدخلها في دوامة شديدة الخطورة ونفق لا ضوء فيه ولا نهاية سوى الهاوية السحيقة وخراب البيوت وفساد البلاد والعباد... والله اعلم.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com