|
في بداية عام 1962 صدر قرار بترحيله للعمل في بابل، لقيادة محليتها،لما تتمتع به المحافظة من أهمية بالغة في تأريخ الحزب، وما لها من تأثير شعبي واسع، ووجود طبقة مثقفة ذات توجهات يسارية، وما يحضا به الحزب من جماهيرية تفوق ما له في المحافظات الأخرى، ولأنه معروف في المحافظة ومطلوب من قبل السلطة، ووجود عضو منطقة الفرات الأوسط على رأس المحلية وهو الشهيد كاظم الجاسم، فقد حاول الاعتذار عن المسؤولية، إلا أن مسئول منطقة الفرات الأوسط أخبره أن الرفيق كاظم يتفهم الأمر ورحب بتوليه المسؤولية، مما جعله يرضخ للأمر رغم مخالفة ذلك لضوابط العمل التنظيمي، وكان في عضوية مكتب المحلية الشهيدين كاظم الجاسم ومحمد موسى، وتدارس معهم وضع المنظمة وطبيعة العمل، وفي الاجتماع التالي طرح موضوع التهيئة لانتخابات نقابة المعلمين، وشكلت لجنة لمتابعة العملية الانتخابية، والاتصال بالرفاق والأصدقاء والموآزرين، للتحرك ضمن الرقعة الجغرافية للمحافظة،وتحشيد المعلمين للمشاركة فيها لصالح قائمتنا. وقد أسكن في دار حزبية تقع في منطقة حي نادر الأولى، وبعد أيام عند خروجه في مهمة إلى الريف، مر بأحد المحلات لشراء بعض الحاجيات، وإذا بصاحب المحل من معارفه، وسلم عليه بحرارة وسأله عن محل سكنه،فأخبره أنه يسكن خارج الحلة، وكان في زيارة لأحد الأصدقاء وفي المساء أخبر الرفيق أبو قيود بذلك، وطلب منه تهيئة دار أخرى،وتوجه إلى الريف تلك الليلة، وطلب من العائلة التفتيش عن دار أخرى،على أن يلتقي بهم بعد أسبوع لمعرفة المكان الجديد. وفي شباط من نفس العام بدأت التهيئة لانتخابات نقابة المعلمين، وكان التنافس على أشده بين قائمتين،القائمة المهنية، وقائمة الجبهة التعليمية الموحدة، شكلت لهذا الغرض لجنة كلف بالأشراف عليها،وارتأت اللجنة تشكيل فرق من العمال والطلبة وشرائح أخرى لحراسة المعلمين حسب تعليمات لجنة المنطقة والتوجيهات المركزية الصادرة من قيادة الحزب بهذا الخصوص،وقد حضر من بغداد الشهيد متي الشيخ وهو من الناشطين في العمل النقابي، والرفاق المعروفين،وعقد اجتماعات موسعة للمعلمين في النجف وكربلاء والحلة، وكانت المعنويات لا بأس بها بالنسبة للمعلمين، والتحضيرات الجارية أفضل من العام الماضي. وفي يوم الانتخابات كان المكان أشبه بساحة المعركة،فقد أنتشر رجال الأمن والشرطة والانضباط العسكري قرب المركز الانتخابي، ولإصرار المعلمين على أجراء الانتخابات وممارسة حقهم فيها،فقد حدثت صدامات مع القوات المنتشرة و(بلطجية) الجبهة التعليمة الموحدة،وقد شارك المعلمون باندفاع وحماس عجيبين رغم الممارسات القمعية والأعتداآت التي مورست ضدهم من الحكومة والعصابات القومية والبعثية والإسلامية والرجعية،وتعرض بعضهم للضرب والاعتقال التعسفي، بسبب المعركة مع الجبهة التعليمية، ومورست معهم أبشع عمليات التعذيب والضرب في المعتقلات، وقد كتب إلى الحزب كل من المعلم الشيوعي حسن ألبياتي والمعلم الشيوعي وهاب القاضي ،حول التعذيب البشع الذي تعرضوا له ،وضرورة تغيير سياسة الحزب اتجاه عبد الكريم قاسم،وكذلك تعرض الشيوعي الجريء سامي عبد الرزاق إلى ضربة على رأسه أفقدته الوعي،وأرقدته في الفراش لأسابيع،وبسبب هذه التجاوزات وما حدث من تزوير، وإصرار السلطة على فوز الجبهة التعليمية التي كان الكثير من رموزها من العناصر القومية والرجعية، وبعضهم من المعروفين بارتباطاتهم الخارجية، وكانت النتيجة واحدة في جميع المحافظات،رغم التهيئة الواسعة،والتحشيد الرائع والعمل المنظم، إلا إن هذه العوامل لم تجدي نفعا إزاء ما ذكر أعلاه، وهذه المواقف المهادنة من الحزب اتجاه عبد الكريم قاسم جعلته يسير أكثر بالاتجاه اليميني، ويرتمي أكثر في ألأحضان الدافئة للرجعية والقوميين والعناصر ذات المصالح الضيقة،التي تحاول استلاب الثورة والقضاء عليها، وهذه الأخطاء المميتة كانت السبب في إسقاط السلطة وقتل زعيمها في 8 شباط الأسود،لأنه هيئ الأرضية المناسبة لأن يتولى مقاليد الأمور في البلاد حفنة من المغامرين والرجعيين،بسبب مواقفه المتذبذبة،وعدم وضوح الرؤيا في تفكيره، واستحواذ الشك والريبة على الكثير من تصرفاته،بعد أن تخلا وحارب القوى الوطنية الحقيقية، التي كانت وراء ثورة تموز ونجاحه، وافتقاره للعقلية السياسية الناضجة القادرة على أدارة أمور البلاد، رغم ما يحمله من وطنية صادقة ونزاهة منقطعة النظير. وفي منتصف عام 1962 وردت تعليمات من لجنة الفرات الأوسط بترحيله إلى النجف لاستلام محليتها، وتسليم محلية بابل إلى الرفيق كاظم الجاسم،وعقد اجتماع لمحلية بابل وسلمت المسؤولية إلى الرفيق المذكور، وتوجه إلى النجف لاستلام مهمته الجديدة، وهناك التقى بالرفيق صالح ألرازقي مسئول لجنة الفرات الأوسط،وأبلغه بترشيحه للسفر إلى الاتحاد السوفيتي للدراسة هناك، وأعطاه مبلغا من المال لشراء ما يلزم لسفره وضرورة التوجه إلى بغداد لإكمال الأجراآت اللازمة للسفر، وفي بغداد سلم الصور إلى الرفيق ستار معروف لعمل الجواز، والتقى بالرفيق الشهيد جورج تلو الذي زوده ببعض التوجيهات النافعة في دراسته هناك، وأخبره أن أحد الرفاق سيزوره ويسلمه الجواز والفيزة والتعليمات الأخرى،وفعلا زاره الرفيق أبو خولة بعد أربعة أيام وأخبره بإلغاء سفره،وعليه التوجه إلى منطقة الفرات الوسط،لأن أبو خولة سيتولى مسؤوليتها، وأعطاه مبلغا من المال وبعض التوجيهات وتوجه إلى النجف، دون أن يسأل عن أسباب إلغاء سفره، وفي تلك الفترة وبعد عودة الشهيد سلام عادل سكرتير الحزب من موسكو نحي الرفاق زكي خيري وبهاء الدين نوري وعامر عبد الله، ومحمد حسين أبو العيس،عن عضوية المكتب السياسي ورحل الأول إلى الفرات الأوسط بعقوبة تأديبية،وبعد وصوله النجف بأيام عقد اجتماع للجنة المنطقة جرى فيه توزيع المسؤوليات على الكادر حسب الخطة التنظيمية الجديدة. في هذه الفترة أقرت عضويته في لجنة منطقة الفرات الأوسط، ونسب لقيادة محلية كربلاء، ثم أنتخب لعضوية مكتب المنطقة، وكان يسكن في دار الرفيق أبو خولة لحين تهيئة دار في النجف لتكون مقرا لمحلية كربلاء، وقد نسب الفقيد ناظم كاظم عضو لجنة الفرات الأوسط لمسؤولية محلية بابل، ورحل الشهيد محمد موسى من بابل إلى عضوية محلية كربلاء، وقد تم عقد اجتماع للمحلية نوقش فيه الوضع التنظيمي، ومعالجة الخلافات الشخصية بين أعضاء اللجنة،وتقرر القيام بأشراف عليها وعلى اللجان المتفرعة عنها ومنظمات المدن والريف لمعالجة الخلل التنظيمي فيها،وتم معالجة الكثير من الثغرات وإعادة لملمة التنظيم وتنشيط عمله،لما يملك من خبرات متراكمة في العمل التنظيمي، وخصوصا في الأرياف التي تحمل مزايا خاصة لا يمكن معالجتها بدون معرفة طبيعة المجتمع وعلاقاته وعاداته وتقاليده،لاختلاف العمل الريفي كليا عن العمل داخل المدن،لما يتطلب من حركة دائبة واتصال دائم بالخلايا الموزعة على مساحات شاسعة،مما يتطلب التفرغ لأيام وأسابيع وقدرات بدنية على التحمل والسير ومواجهة المشاكل التي تكثر في هذه المجتمعات، وما يرافق ذلك من نوادر ولقطات ظريفة، لا يمكن حدوثها في المدينة،ومن المفارقات التي ذكرها في مذكراته بإسهاب والتي سنشير إلى بعضها باختصار، في زيارة للخلايا في منطقة الحسينية، زار خلية أنيط مسؤوليتها لأبن شيخ عشيرة المسعود الذي كان يعتقد أن قيادة الخلية لا تختلف عن قيادة القبيلة، وكانت معاملته بعيدة عن الروح الرفاقية التي نتوخاها في العمل التنظيمي، فانتحى به جانبا ونبهه إلى خطأ تصرفاته،وضرورة التعامل بروح رفاقية مع الآخرين، فرد عليه بلهجته الريفية (رفيق الفلاح عقله عقل الجاموسة ،لازم أتراويه العين الحمرة) حاول إفهامه بضرورة نبذ الروح القبلية والتعامل بروحية بعيدة عن التسلط والإمرة، وعند اجتماع خليته وكان من الحاضرين الرفيق (أبو سويلم) من الرفاق الشجعان الجريئين والمطلوبين للسلطة،لقتله خمسة أفراد من الشرطة والعناصر الرجعية في مصادمات لإلقاء القبض عليه أو قتله، وهو يحمل سلاحه بصورة دائمة،ومهيأ للمعركة في أي لحظة، وقد تحدث الرفيق معن عن طبيعة التعامل الرفاقية، وضرورة التعامل بأخلاقية عالية بين الرفاق، لأن ما يجمعهم من أهداف مشتركة يجعلهم أكثر من الأشقاء، ووجوب أن يكون المسئول مثلا أعلا لخليته في حسن التعامل مع الآخرين، فتململ أبو سويلم وقال (رفيق أن مسئول الخلية غير جدير بقيادتها، ويعتبر نفسه شيخ في الخلية وليس رفيقا لنا، ويستخدم كلمات غير لائقة، وإذا أستمر بوضعه هذا فمصيره مصير الخمسة– يقصد الذين قتلهم – حدث توتر في الجو،فتدخل لتهدئة الموقف، وقال للمسئول ان الرفيق أبو سويلم يمزح معك، وهو من الرفاق الجيدين الذين يعتمد عليهم الحزب، إلى غير ذلك من الكلمات التي تهدئ الأمور وتلطف الأجواء، وبعد أيام انتحى بالمسئول جانبا وطلب منه تسليم الخلية إلى آخر لأن علاقته أصبحت بمركز المحافظة مباشرة، وقد أرتاح للأمر وأن صلته في كربلاء تعني الكثير له، وأنه أصبح بمقام أعلا من مقامه السابق،وبعد عقد اجتماع للخلية اختير أبو سويلم لقيادتها،فأرتاح لذلك جميع الرفاق، ثم تحول إلى منطقة أخرى لزيارة الخلايا الأخرى رافقه في جولته الرفيق أبو سويلم، وكانت الخلية يقودها مهدي النشمي من رجال الليل المعروفين قبل أن يكون شيوعيا،ثم ترك اللصوصية بعد انتمائه للحزب، وأثناء الاجتماع نام بعض الفلاحين لأنهم متعبين بسبب موسم زراعة الشلب، وقد يستغرب البعض ممن يعملون في منظمات المدن هذه الحالات، ولكنها واردة في الريف وتتطلب التعامل بديناميكية، وسياسة خاصة وأجراآت تنظيمية خارج السياقات الاعتيادية،بسبب الطبيعة الخاصة لسكان الريف.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |