|
الحلقة الثالثة من الحنين الى مدن أحببتها أخبار تتواتر عن البصرة, عن قتل النساء فيها, وقبلها قتل المتنورين من أساتذة وأطباء وحرفيين ومن الديانات الأخرى مندائيين ومسيحيين . هذه المدينة الصابرة شوهتها الحروب, هي الحاضرة الأولى مهد الثقافة والفصاحة والطيبة تتحول على أيدي قتلة مجرمين مقبرة لكل شيء جميل . وأنا حينما أتابع ما يحصل لم أستغرب رغم استنكاري واستهجاني, فما وقع أمام عيني وفي ليلة واحدة فقط في أول زيارة لي للوطن عام 2003 ولهذه المدينة التي تطغى عليها التناحرات الحزبية وتخضع لسلطة العشيرة حيث لاسلطة لدولة أو لقانون البصرة لم تغادر أحلامي منذ أن هجرتها مرغمة, وحينما عدت الى الوطن وجدت نفسي متلهفة لها, مشتاقة الى شوارعها, الى أزقتها التي شهدت وقع أقدامنا نحن _ الطامحين_ الى غد مشرق لامكان فيه لظلم أو استبداد , إن كانت ذكرياتي السابقة عن مدن الطفولة والصبا والشوق والحنين الى أهل , فحنيني الى بصرتي له طعم آخر هو حنين الانتماء الى رفقة أحببتهم وأحبوني . وأنا في طريقي الى البصرة رأيت بأم عيني فداحة ما جرى خلال تلك السنين العجاف ,حينما استقلينا الباص أو ماكنا نسميه بالمنشأة كان غاية في القذارة والإهمال, على عكس ما كان عليه سابقا من نظافة وبرودة ورفاهية , طرق مهملة عارية من الإسفلت فالشارع المسفلت هو لقوات الاحتلال, لعربات الأمريكان والطليان والإنكليز, وقبلها كانت لصدام وجيوشه غبار كثيف, طفال شعث, صفر الوجوه يقفون على جانب الطريق مبتسمون يرفعون علامة النصر للجنود الأجانب, والجنود مصوبون أسلحتهم تجاههم. وبعد صعود وهبوط وطرق ملتوية يسلكها السائق وصلنا المدينة ويا لهول ما رأيت بنايات إسمنتية شبابيكها خشب وصفيح بديلا عن الزجاج, وتتالت المناظر المؤلمة لمدينة كان يتسنى لها أن تكون من أجمل المدن لثرائها وجمالها, لكن الحروب والإهمال حولها الى أطلال المستنقعات العفنة والملأى بالحيوانات النافقة تتوسط شوارع الجمهورية والمعقل وغيرها, الدوائر الحكومية بلا أبواب, ما استرعى انتباهي وسط هذه الأكوام من الخرائب هو شموخ شركة نفط الجنوب فقد بقيت رغم الحروب التي عصفت بهذه المدينة المنكوبة نظيفة سليمة لم يمسسها سوء!! في زيارتي هذه التقيت برفاق درب محنية ظهورهم فما مر بهم غير قليل, شاخوا قبل أوانهم, واجهتني صور تملأ الجدران لوجوه حبيبة لشهداء كانت لي معهم ذكريات لاتمحوها السنون وقفت قبالتهم انحنيت لهم أسعد, أيوب, فريال وزوجها محمد, أمجد, نضال, جمال وكثيرين آخرين مدينة مجللة بالسواد غادرتها الفرحة, ففي كل بيت شهيد, وفي كل ركن أثر, بحثت في وجوه أعرفها عن معنى ما جرى وما يجري لم أجد غير أحاديث عن أيام قاسية, وإحباط عن تغيير تم بعنوة . في طريقي الى خمسة ميل الحي الشعبي المهمل, تحدث السائق الذي استطعنا أن نقنعه بأن يوصلنا الى رأس الشارع عما يجري من سلب ونهب وقتل . وإنه ضرب من الجنون أن نسير في هذه المنطقة وحيدات , نزلنا توجهنا الى بيت أحد الأصدقاء القدامى الذين تربطنا بهم رابطة النسب تلبية لدعوة العشاء, كان علينا أن نعبر بحيرات من المياه الآسنة تتوسطها جزر من الفضلات وبقايا الطعام والتايرات, ووجهنا أنا وقريبتي التي كانت ترافقني بوابل من الرصاص, لم أدر ما أفعل وتذكرت مقولة طارق بن زياد وهو يوجه جنوده لفتح بلاد الأندلس (العدو أمامكم والبحر وراءكم) وبعد جهد جهيد وصلنا الى البيت المنشود وما أن التقطنا أنفاسنا حتى رن الهاتف وبعد محادثة قصيرة عرفنا من وجه الصديق أن شيئا جللا قد حدث, وبدأ الرجل يوجه من خلال التلفون أبناء عشيرته بتهيئة أسلحتهم والبقاء في حالة استنفار والبقاء على اتصال فالرصاص الذي واجهته وأنا في طريقي كان معركة بين البريطانيين وبعض أفراد عشيرة الغرامشة المعروفة بشراستها بالبصرة وتورطها بأعمال عنف (حسب الروايات) على خلفية نزاع حول البنزين بين شيخ الغرامشة وفرد من أبناء عشيرة الأسرة التي كنت ضيفتهم مما أدى الى تدخل البريطانيين ومقتل شيخ الغرامشة. فكرت ما علاقة هؤلاء بمقتل الغر مشي فمن باب أولى أن يأخذوا بالثأر من البريطانيين, انتابني الخوف على شقيقي الذي ورطته بالمجيء معي, ولسوء الحظ فإن صاحب البيت هو شيخ العشيرة لذا فهو المسؤول حسب العرف العشائري أمام العشيرة الخصم ,تنكب الرجال والصبيان الذين لم تتجاوز أعمارهم الخامسة عشرة الرشاشات , وصعدوا الى سطح المنزل , وكواجب وعرف كان على أخي أن يكون معهم في وضع المتاريس والتهيؤ لصد هجوم محتمل , استخدم الرجال خبرتهم في تخطيط المعارك من الحروب التي خاضوها باسم النظام , كل شيء مهيأ للذود عن النفس, وجاء الحلفاء من (الذابين جرش)يمدون يد العون لحلفائهم , عجبت لوفرة السلاح وباستطاعة الأطفال التعامل معه وحمله دون خوف. تتالت الأنباء عن قدوم الغرامشة أنا ونساء العائلة جالسات على مائدة العشاء كن يأكلن بشكل طبيعي أما أنا فقد جف ريقي أنظر بحيرة الى الوجوه , تملكتني مشاعر غريبة خليط من الخوف والإحباط وأصبت بإسهال شديد من حالة الفزع التي كنت أكتمها في داخلي متظاهرة بالشجاعة ورباطة الجأش مما كان يفرض علي أن أذهب دورة المياه كل خمس دقائق فلم يسبق لي أن مررت بهكذا ظرف ولسوء طالعي كان الحمام في الباحة الأمامية بجانب الباب الرئيسي وكان التراشق بالرصاص على أشده , وكنت في كل مرة أتشهد فقد يكون مقتلي بإحدى الرصاصات التي لايمكن تمييزها عدوة كانت أم صديقة, الفتيات الصغيرات مختبئات في أحضان أمهاتهن , أحد الصغار اختفى تحت سرير الجدة . وجهت أوامر بإخراجنا نحن النساء والأطفال من البيت انتقلنا الى بيت الجيران أحاديث تدور حول قسوة الخصم وروايات عن معارك خاضوها وأنه من المحتمل أن يهجم الغرامشة على بيت الشيخ وسوف لايفرقون في قتلهم بين الطفل والمرأة والمسن, عجبت من إلمامهن بأنواع السلاح وسهولة شرائه ومن المفارقات, أثناء الحديث أبدت إحداهن أسفها لعدم شرائها زنبيل من الرمان, دهشت, هل هذا هو وقت الرمان ونحن في وضع عصيب ومن لديه الشهية أو القدرة على أكل شيء رغم أن الرمان ( فاكهتي الأولى), بعدها توضح لي أن الرمان هو ليس إلاّ القنابل . وبعد ليلة ليلاء لم نتمكن النوم فيها انجلى الصبح عن ستة من القتلى من الطرفين أبرياء لاعلاقة لهم بالموضوع انتزعوا من بين زوجاتهم وأمهاتهم اقتيدوا من أفرشتهم لكي ينزل بهم العقاب. بسبب خلاف حول البنزين. في الصباح الباكر تم تهريبنا أنا وشقيقي من بيت الشيخ الصديق الى الكراج للعودة الى كربلاء . هنا انهارت أحلامي ظللت طوال الطريق أبكي بصرتي التي أحمل في ثنايا الروح عشقا لها. البصرة عاصمة التمور, المدينة الجميلة بنخيلها وطيبة أهلها وكرمهم , كم كانت جميلة أيامي فيها , حينما دخلت إليها لم أشعر بغربة احتضنني أهلها احتووني فكانوا أكثر من أهل, حينما تدخل بيت البصري لم تفتح لك الأبواب بل القلوب الطيبة الحميمة وهذه هي سمة أهل البصرة الذي لايمكن لأحد أن ينكره, البصريون متفتحون يتقبلون الجديد مع حفاظهم على عراقتهم, أجمل مافي البصرة تعايش أهاليها بمختلف أديانهم من مسيحيين ومندائيين ومسلمين .كان الكورنيش في ليالي الصيف يعج بالساهرين. وكانت الأبلام العشارية تتهادى في شط العرب على ضوء القمر .لم تشهد البيوت البصرية العريقة ذلك الفصل بين الجنسين في الزيارات العائلية كما هو متعارف عليه في أغلب مدن الوسط والجنوب, سوق حنا الشيخ يزدهي بالنساء الأنيقات, أحياء البصرة القديمة والمناوي وشناشيلها البديعة, حي الجزائر والمعقل, كان البصريون يحبون الحياة ويستمتعون بها ففي يوم الكسلة أو عيد الربيع يخرج الجميع بملابسهم الزاهية يحيون احتفالاتهم في شط العرب على أصوات الدر ابك والطارات, كانت الرحلات الى الأثل أجمل الرحلات المطبوعة في مخيلتي ,إذ كانت المنظمات الديمقراطية كاتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي واتحاد الطلبة العام ورابطة المرأة التي كنت عضوا فيها ينظمون في الربيع سفرات عائلية ببرامج رائعة كان الحضور إليها بأعداد ضخمة ولايمكن أن أنسى أحد عمال الموانئ وهو الشهيد نجم مع زميله كريم عبد السادة وهم يقدمون فقرات هزلية هادفة لقد كانا ثنائيا رائعا , ولا أنسى الفرق البصرية الرائعة التي كانت تحيي احتفالاتنا وأنتجت تلك الفترة أجمل الأغنيات الوطنية التي لاتزال تحتفظ بجمالها وحداثتها الفنانون طالب غالي وفرقة الطريق طارق الشبلي وعلي العضب , فرج الدوسري ورقصة الهيوا التي كان يؤديها بإتقان على أنغام الأغنية الرائعة (عمال واحنه تعابة) وفرق صغيرة أخرى كانت تظمها مناطق مختلفة من البصرة في المعقل والجمهورية , والنوادي العائلية والتابعة للنقابات نادي الفنون وأنشطته المميزة ونادي التعارف. البصريون كانوا يشاركون أخوانهم المسيحيين في احتفالاتهم بأعياد الميلاد , كم كان رائعا حينما تنطلق صافرات السفن الراسية على شط العرب تعانق بأصواتها النواقيس معلنة ولادة عام جديد . مدينة مزيج بين القديم والحديث في تجانس جميل, كانت البصرة مقبلة على تطور كبير, فهي المدينة التي تضم أعدادا كبيرة من أبناء الطبقة العاملة, والكثير من المصانع , الأدباء المهمين والسياسيين اللامعين. في هذه الفترة التي عشتها ازدهر الفكر التقدمي فيها وتطور الوعي فانتظم الكثيرون من الطلبة الجامعيين والنساء المتعلمات في العمل الديمقراطي والنقابي, الندوات الفكرية ودورات تأهيل الكوادر الصحفية وندوات شعرية لشعراء أفذاذ لهم بصمتهم في الشعر العراقي. الجميع كرسوا وقتهم وقدموا إمكانياتهم في رفد هذه الحركة التي لو كانت قد استمرت لأصبح لهذه المدينة شأن آخر, إذ تنبه البعثيون الى خطورة انتشار الوعي والثقافة التقدمية, ولمسوه في التظاهرات الجماهيرية التي كان يحشد لها الحزب الشيوعي العراقي والمنظمات الديمقراطية العراقية التي تجاوز نشاطها حدود المدينة الى الريف والأهوار في مناسبات وطنية فعمدوا الى شن حملة شرسة ضد كل من يحمل فكرا يساريا فكانت البصرة أول مدينة يتعرض نشطاؤها ومؤازروهم الى مختلف أنواع الاضطهاد والتنكيل, ومن يومها والبصرة لم ترتح . لقد تتالت المصائب دفعت البصرة الثمن باهظا, شوهتها الحروب, أدمت جنباتها . حجبت عنها شمس المعرفة, حبستها واغتالت كل شيء جميل فيها, نخيلها, شبابها, حبها للحياة. لقد أبقت الثالوث اللعين, رسخت قانون العشيرة بديلا,علمت الأجيال لغة السلاح, وها هي البصرة تجني ثمار ما فعله دكتاتور وجاء بعده جهلة يقتفون خطاه بطرق جديدة, علامتها الفارقة العمائم واللحى والفتاوى , ثمارها رؤوس بصريات جريمتهن أنهن ولدن في الزمان الخطأ.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |