|
ما أجمل أن يتذكر جيل الرواد أيام النضال التليد، والكفاح البطولي من أجل المثل العليا والمبادئ التي نذروا أنفسهم له، وضحوا بالغالي والنفيس من أجله، ووضعوا أرواحهم على أكفهم، لم تثنيهم السجون بأهوالها ولا المعتقلات وما يجري فيه، أو تردعهم أقبية وزنازين الطغاة، أو ترعبهم سياط الجلادين ووسائل تعذيبهم البشعة، فكانوا يسيرون وأعينهم ترنوا إلى الشمس المنيرة، شمس الشيوعية المشرقة في العراق، أملين أن لا تأفل هذه الشمس حتى تطهر أشعتها الذهبية بلدهم من ألأدران الخبيثة التي زرعها المستعمرون والعملاء والرجعيون، وأن يبصروا ما ناضلوا من أجله قد تحقق لينعم الشعب بالأمن والخير ولرفاه، ويتحرر الوطن من أغلال الذل والاستعباد. وفي العراق كثيرون كان لهم شرف الريادة والأسبقية في الكفاح الوطني، ومن هؤلاء الرفيق هاشم جلاب الغريباوي، الذي عرف عبر عمره المديد بأبي نزار والفضلي والواسطي والحياوي واللقب الحبيب إلى نفسه "مدير شرطة فهد "الذي أطلق عليه عندما كان في السجن مع الرفيق الخالد فهد ملازما له، وانصرافه لتنفيذ ما يتطلبه الموقف من مستلزمات، بما توفرت له من قوة بدنية، وقدرة على المناورة والابتكار. ولد الرفيق أبو نزار في ريف قضاء الحي التابع للواء الكوت(محافظة واسط)حالي، في أسرة فلاحية، عانت ما عانت من ظلم الإقطاع وتسلطه وجبروته، فكان يحمل في داخله ما يحمله للوقوف ضد تطلعاته، فانغرس في داخله كره الظلم والظالمين، فكان ذلك البداية في التفكير بأساليب الخلاص منه ومواجهته بما يحقق الغد المشرق السعيد لملايين الحفاة الذين أضناهم العمل الشاق، دون أن يجنوا ثمار جهودهم، بسبب الظلم الذي أحاق بهم، وجور الملاكين ومن يلوذ بهم من الأتباع الذين تعاملوا معهم معاملة لا إنسانية، كمعاملة الأرقاء، وكان يشاهد بأم عينيه صور الظلم والفظائع التي تجري كل يوم، وكيف كان للإقطاعي سجنه الخاص، وأتباعه القساة الذين مارسوا أبشع الأساليب مع الفلاحين، ولاحظ كيف يعمل الفلاح وعائلته طيلة العام ولا يجني من أعماله ما يسد رمقه أو يدفع عنه غائلة الجوع والحرمان، وتذهب جهوده إلى الجيوب التي تصرفها في الملاهي وموائد القمار، وكان لوالده توجهاته الوطنية، وتطلعاته لأن يكون أبنه شيئا ذو بال، فأدخله المدرسة، فكان واحدا من الطلبة المتميزين فيه، مما أهله للانتقال إلى الثانوية، فكانت ثانوية العمارة خير معين له على أن يتفوق على أنداده وزملائه، فكان رياضيا مارس الألعاب المختلفة، وأصبح رئيسا لفريق كرة القدم، ولاعبا في فرق السلة والطائرة، وشارك في سباق الدراجات فكان في المقدمة منهم، وفي العاب الساحة والميدان كان الأول في رمي الرمح، ولنشأته بين الجداول والأنهار ومهارته في السباحة كان الأول في مسابقتها السنوية، وبفضل الرياضة ومدرسها الأستاذ سيد موسى محمد نور كان لقائه الأول مع الحزب الذي سمع به فرآه متمثلا في شخص أستاذه ذي الشخصية المتميزة الرصينة الحبيبة إلى النفوس، فكان أن توطدت علاقته بأستاذه الجليل والطريق للدخول من باب الحزب الكبير، وكان ذلك أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، وبدء يزوده بالأدبيات الشيوعية، ويحدثه عن الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية والأممية والبروليتاري، وفائض القيمة والصراع الطبقي، إلى غير ذلك من المصطلحات التي لم يسمع بها سابق، وقد وجدت هذه الأفكار طريقها إلى نفسه وعقله والأرض الخصبة لنمائها وديمومته، لما كانت تنتهجه السلطة العميلة في تعاملها مع المواطنين، فكان الفرد العراقي لا يجد ما يقيم أوده في الوقت الذي يهيمن حفنة من المغامرين وقطاع الطرق على مقدرات البلاد، ويحتجنون لأنفسهم ثرواته الطائلة لتصرف على ملاذهم ولياليهم الحمراء الصاخبة، وكان التمايز الطبقي حادا في تلك الفترة، لاحتكار الأراضي الزراعية من قبل الملاكين والإقطاعيين الذين باعوا أنفسهم للمستعمرين، وارتبطوا بصورة أو أخرى بعجلة النظام، ينفذون أوامره ونواهيه، دون الالتفات للشعب الذي أنهكته الأمراض وأفترسه الجهل، ودمره التخلف، وأرهقه العوز، وذاق العنت والاضطهاد، وأخذ بالتحرك الحذر بين زملائه يبصرهم بالواقع المأساوي، ويدعوهم لما آمن به، فكانت الاستجابة لا يأس به، وتمكن في الأقل من استمالة الكثيرين منهم إلى هذه المبادئ، ليكونوا في المستقبل نواة التنظيمات الأولى للحزب، ويصبحوا في المقدمة من قادته وكوادره الذين يشار لهم بالبنان. وبعد ذلك أنتقل للعمل في مصلحة نقل الركاب بعد أن يسر له الحزب الحصول على الوظيفة، وأصبح مفتشا فيه، وهيأ لإضراب عام شارك فيه العاملين في المصلحة ، مطالبين بزيادة الأجور وتقليص ساعات العمل وإلغاء الفصل الكيفي، وقد تبنى الحزب الإضراب وطاب منه إلقاء البيان إلا أنه تعذر عليه ذلك بسبب الظروف السائدة آنذاك ، وكان أن أذيع البيان وأرسلت نسخ منه إلى الصحافة المحلية، داعيا إلى تلبية طلبات المضربين، وقد حقق الإضراب أهدافه واضطرت الحكومة أمام الوقفة الحازمة للعمال على الرضوخ لمطالبهم، وقد عمل في تلك الفترة في مناطق متعددة من بغداد ، وأنيط به مسئولية الكرادة الشرقية، وقاد تنظيمها في أواسط الأربعينيات، ومناطق البو شجاع، رخيتة، خربنده، أبو أقلام، حسن الحمد، الزوية، وكان يرتبط مباشرة بالرفيق زكي محمد بسيم عضو المكتب السياسي، ويلتقي به في دائرته الكائنة في الميدان، وقد القي القبض على مجموعة من الرفاق في قضاء الحي وبحوزتهم جريدة القاعدة وبعض أدبيات الحزب، وتحت التعذيب اعترفوا بارتباطهم به، وأنه من زودهم به، وأودع في سجن الكوت بعد أن حكم عليه بالحبس وأبعاده إلى بدرة بعد انتهاء محكومتيه، وعندما دخل السجن كان الرفيق فهد ضمن السجناء، وكان على علاقة سابقة به وبالرفيق زكي محمد بسيم، فكان خير عون لهم في تلبية احتياجاتهم، وتنظيم مراسلاتهم مع الخارج لما يتمتع به قدرة على التعامل مع الأمور والمتغيرات التي تطرأ على حياة المناضلين، وكانت الرسائل تأتيهم من الخارج، بطرق لا يستطيع الاهتداء إليها الحراس والمكلفين بمراقبتهم، وتمكنوا من إرسال التعليمات إلى الخارج، لقدرتهم على أبتداع الطرق وابتكار الوسائل والتكيف مع الحياة الجديدة، وكان السجن مدرسة للمناضلين تعلم من خلاله الكثيرون أساليب العمل السري، وطرق التخفي وأساليب النضال والعمل بين الجماهير حسب الظروف المتاحة، في الوقت الذي تمكن السجناء الشيوعيين من استمالة وكسب الكثير من السجناء العاديين، والمتهمين بجرائم جنائية، وأصبحوا من خيرة المناضلين والناشطين في صفوف الحزب، وأصلحت أمورهم وتركوا الكثير من العادات التي كانوا عليها ، وقد طلب الرفيق فهد تعليم الأميين منهم القراءة والكتابة، وفتحت لذلك دروس محو الأمية، وأعطاهم دروسا في الفلسفة الماركسية وتاريخ الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، إضافة لما قام به الكوادر والمثقفين من جهود مكثفة في أخراج جيل من المناضلين، أصبحوا فيما بعد من أشد المناضلين صلابة وقدرة على العمل والصمود في أحلك الظروف، وقد أشترك أبو نزار بدورة في الاقتصاد السياسي حاضر فيها الرفيق الشهيد زكي محمد بسيم، وأشرف عليها الخالد فهد. وكان ضيفا على مختلف السجون العراقية ، متنقلا بينها بسبب خشية النظام البائد من هروب السجناء ، أو اختلاطهم بالعاديين بعد أن أصبح السجن مدرسة لتخريج الشيوعيين، لذلك نقل إلى سجن بعقوبة، ثم إلى سجن كركوك حيث التقى هناك بالعديد من الرفاق الكورد والتركمان وأصبحت له معهم علائق قوية، وكان يطلق عليه لقب الواسطي لكونه من أهالي واسط، أما في سجن العمارة فكان يطلق عليه ألفضلي نسبة إلى عشيرة الفضول التي ينتسب لها (آل غريب)ويكنى بأبي نزار من معارفه وأصدقائه ورفاقه، وبعد نجاح الرفاق بالهروب من سجن بعقوبة وسجن بغداد أو أثناء إرسالهم إلى المحاكم ، قررت السلطة العميلة إرسال السجناء الشيوعيين إلى سجن نقرة السلمان، فكان له شرف النقل إلى هناك مع خيرة المناضلين، وقد تعلم في هذه السجون الكثير مما نفعه في قابل حياته، وما سمع من تجارب الآخرين وما مر بهم في حياتهم النضالية، وكان لسجن نقرة السلمان أثره الخاص في تكوينه، وإنماء معارفه النظرية والعملية، فقد كان أشبه بالمعهد أو الجامعة التي تؤهل المناضلين وتزيد من معارفهم، فقد شارك بدورة في الفلسفة الماركسية، وأستطاع الإلمام بها بفضل الطرق المبتكرة في إيصال المعلومات من خلال الشواهد الحية في حياة الإنسان، ودرس الاقتصاد السياسي وجال في شعابه الكثيرة، فكان الصراع الطبقي وفائض القيمة ودكتاتورية البروليتاريا والمادية الجدلية والمادية التاريخية قريبة إلى الفهم بما تهيأ لمدرسيها من قدرات على الإفهام والتعليم بأساليب قريبة من فهم الإنسان متوسط الثقافة، إضافة للاحتفالات الأدبية والفعاليات الفنية التي كان السجناء الشيوعيين يحيونها في المناسبات الوطنية والأممية، فكان السجن المدرسة الكبرى التي أهلته للنهوض بالأعباء الكبيرة التي كلف بها بعد ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة. وقد أبعد إلى بدرة بعد خروجه من السجن لمدة سنة واحدة، كان عليه التوقيع صباحا ومساء في مركز الشرطة، وتشاء الأقدار أن يحدث فيضان في المدينة وتسقط ابنة القائمقام في الماء وكادت أن تغرق ، إلا أنه بما جيل عليه من نخوة وحمية رمى بنفسه في الماء لإنقاذه، وفعلا تمكن من ذلك لأجادته السباحة، فأرسل وراءه القائمقام وقدم له الشكر وسأله عن عشيرته فقال له أني من عشيرة الفضول وكان القائمقام فضليا من أهالي حديثة، فقال له أنت أبن عمي ولذلك من الآن فصاعدا أنت معفي من الحضور للتوقيع اليومي في مركز الشرطة. وقد أنتدبه الحزب للعمل في مدينته الحي في الأربعينيات، فقام بما أوكل إليه خير قيام، وتمكن من كسب الكثيرين للحزب، وشكلت الخلايا في المدينة وأريافه، وبرز الكثير من الشيوعيين الناشطين منهم عبد الرضا الملا هويش، وكاظم نصيف، ونجم محمد ورزاق جمعه، وعندما صدر قرار التقسيم سنة 1948 نظمت مظاهرة حاشدة، كان الشيوعيين وأنصارهم في مقدمته، والداعين إليها وقد فرقتها الشرطة بالقوة مما يدل على التواطيء بين حكومة بغداد والصهاينة، وكان الرفيق أبو نزار من المشاركين في عصبة مكافحة الصهيونية التي كانت أحدى الواجهات العلنية للحزب الشيوعي العراقي غير المجاز والذي يمارس نشاطه السياسي سرا. ولمتطلبات الحياة وتأمين مستلزمات المعيشة أفتتح مقهى في مدينة الحي، أصبحت بمرور الأيام مقرا للشيوعيين واليساريين والديمقراطيين والفئات الوطنية الأخرى ، وكان لها أثرها في بث الوعي الفكري بما عرف عن الشيوعيين من قدرات ثقافية فذة، ومساهمات في نشر العلم والمعرفة بين الجماهير، وكان روادها من خيرة مثقفي المدينة، واستغلت هذه المقهى للنشاطات الحزبية المختلفة، ومن خلالها يتم تحديد المواعيد للقادمين إلى المدينة، رغم أنها كانت عرضة للمراقبة والتفتيش من الدولة، وأفتتح مكتبة كانت الأولى بينت مكتبات المدينة، وساهمت إلى حد كبير في نشر الثقافة والمعرفة بين الناس وكان يعير الكتب الأدبية والثقافية لقاء مبالغ رمزية، في الوقت الذي كان يعير الكتب الماركسية دون مقابل أسهاما منه في نشر الفكر الماركسي الخلاق، ولنشاطه الكبير وتأثيره المعروف حاول الإقطاعي المعروف عبد الله الياسين، الذي كان يحكم المدينة بيد من حديد وبلغ من جبروته وطغيانه أن أحاطها بسور حتى لا تتوسع في أراضيه مما أثر بشكل كبير على توسعها وحصول المواطنين على أراضي لتشييد دور عليه، حاول التعامل معه كما يتعامل مع فلاحيه، وأراد هدم كوخه الذي يسكن فيه، فأرسل خلفه جلاوزته، وعندما ذهب إليه واجهه بكبريائه الشيوعي وجرأته المعروفة، ولم يهن أمامه أو يستخذي وإنما واجهه مواجهة الند للند، وكانت مواجهة حامية أضطر على أثرها إلى التراجع عن موقفه الجبان، لما للرفيق أبو نزار من تأثير في المدينة وقدرة على تحريك الجماهير، وما لعشيرته من سطوة يحسب لها حساب في مجتمع عشائري يعطي لهذه الأمور مكانها الكبير في تفكيره، وكان اتصاله المباشر بالرفيق زكي محمد بسيم كما بينا سابق، فكان يسافر إلى بغداد لاطلاع القيادة على سير التنظيم، ونشاطات المنظمة، وما يستجد من أوضاع، وتوجهات الجماهير، وما إلى ذلك مما يحتاجه الحزب في رسم سياسته العامة. ومن ذكرياته عن الخالد فهد عندما كان معتقلا معه في سجن الكوت، وكان معهم الكثير من كوادر الحزب وقياداته منهم الشاعر الفقيد زاهد محمد، الذي كان يغني جلساتهم بالرائع من أشعاره وطرائفه، لما توفر عليه من معلومات أدبية وثقافية، والمناضل المعروف فوزي الأحمر، والشهيد محمد حسين أبو العيس، وعندما قام السجناء بإضرابهم عن الطعام جاء مدير السجون العام لإقناع السجن بإنهاء الإضراب، وهددهم باستعمال القوة في محاولة منه لإرهابهم، وأن لا جدوى من الإضراب عن تناول الطعام، فقال له الرفيق فهد (سنضرب عن تناول الماء أيضا حتى تحقيق مطالبنا) وكان الرفيق فهد يحضا باحترام مأموري السجن ومدير السجون، وقد فرض شخصيته عليهم، بما يمتلك من شخصية قوية حازمة وقدرة على أدارة الحديث، وما له من شعبية وصيت طائر في العراق.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |