لا أدري هل يصلح ما أكتبه اليوم ليكون حكاية من حكاياتي التي ربما أصدعت رؤوس القراء بما فيها من رتابة واحتجاجات وصرخات، لم تتطرق في يوم من الأيام لخاطرة لطيفة معبرة تدعوا للفرح والبهجة، أو تتناول جانبا حياتيا فيه بعض المسرة، حتى فاجأني أحد الأحبة ذات يوم بأني كالحاجة "شمه"التي قيل فيها:

كل مأتم الطم بيه    صرت أنه شمه

ومجلبه للنسوان          أبجن يعمـــــــه

 فلا زلت أبحث في الزوايا والخبايا عن النواقص والسلبيات، وأكتب عن مطالب المواطنين، التقط الشارد والوارد منه، وأجعل من الحبة قبة، كما يقال، رغم أني أتصور القباب التي أشيده، حبات صغيرة لا توازي ما عليه الواقع المر، لذلك رأيت اليوم أن أنتقل بكم إلى رحاب لبنان الجميلة، لا لأنقل أليكم ما فيها من جمال يخلب الألباب، أو منظر يسر النفوس، أو ملاهي تذكرني بما كانت عليه بغداد في عهدها الزاهر من انفتاح على آخر الصرعات في عالم الليل، ولياليها الحمراء اللاهية عندما نطحن الطحين في الطاحونة الحمراء، ونعجنه بأباريق أبي نؤاس ، ونخبزه في تنور إبراهيم الحريري، وإنما أشير إلى مصادفة لم تكن بالحسبان، فقد أنتدب أحد أبنائي للسفر إلى لبنان للإطلاع على ما استجد في الجامعات اللبنانية مع مجموعة من الطلبة الأوائل، ورغم المخاطر والخوف من المجهول، شجعته على السفر لتغيير الجو والفرجة على معالم البلد الشقيق، وهكذا كان فقد سافر لمدة أسبوعين، وجلب لي أجمل هدية يمكن أن أتوقعه، ولا توازيها هدية أخرى حتى لو جاوزت آلاف الدولارات، وقد يتصور القاري أنه جلب لي غادة لبنانية حسناء "مسلفنة" كالديمقراطية التي جلبتها لنا قوات الاحتلال، أو الشفافية التي أصدعوا بها رؤوسن، فتحولت إلى(كفافية)، ولكنها هدية من طراز آخر، فقد زامله في هذه الرحلة أحد الطلبة النابهين المتفوقين من أبناء الحلة الفيحاء، لم يكن أسمه يعني له شيئا فالكثيرون يسمون ب(زيد) والأكثرين أبوهم (شاكر) ، وربما تصديقا للمثل القائل(القلوب شواهد) فقد توطدت أواصر العلاقة بهذا الزميل، وأتخذه صديقا صدوقا لما لمس فيه من سمو الأخلاق وجميل السجاي، وفي ساعة من ساعات الصفو تجاذبا أطراف الحديث في أمور عامة وخاصة، فطلب منه ذلك الصديق أن يزور قبر عمه الشهيد المدفون في مقبرة الشهداء بيروت، وذهب مع زملاء آخرين لزيارة القبر دون أن يعرف من هو ذلك الشهيد ومتى أستشهد، وكيف دفن في لبنان وهو العراقي، وعندما وصلوا لقبر الشهيد وقرء شاهدته(الشهيد شمران الياسري) شارك زميله أحزانه، وترحم عليه وقرء الفاتحة لمرات حتى أستغرب صديقه ذلك الاهتمام، وظنه مجاملة كريمة أن يظهر هذه العواطف لعم لا يعرف عنه شيئ، ولكن الولد على سر أبيه، وبعد انتهاء مراسيم الزيارة، سأله صديقه عن سر اهتمامه بعمه، فقال له أنه صديق ورفيق وأثير لوالدي، فقد حدثنا بالكثير الكثير عن المرحوم أبو گاطع، وكثيرا ما ردد على مسامعنا بعض حكاياته في صراحته المعروفة التي كانت تبث من إذاعة بغداد (أحجيها بصراحة يبو گويطع) في الخمسينيات، أو تنشر في طريق الشعب في السبعينيات، وأن والدي لفرط إعجابه بالفقيد الغالي، كان يحاول تقليده ومجاراته فيما يكتب، وله في ذلك محاولات قد تكون ناجحة، ولكنها لم ولن تصل إلى ما كان يكتبه الراحل الكريم، ولعل للأقدار أثرها أن نلتقي على غير معرفة، فتظهر ما بيننا من وشائج ود لا تفصم عراها الأيام.

 وعندما حدثني ولدي بذلك، تزاحمت الذكريات الحبيبة في مخيلتي عن ذلك الماضي التليد العبق بشذا النضال من أجل بناء صروح المحبة والوداد في العراق، وكيف التقيت به في إدارة الثقافة الجديدة عند طبع رباعيته الرائعة، وشرائي نسخ منها قبل طبعها مساهمة في تعضيدها عندما رفضت وزارة الثقافة والأعلام طبعه، وكيف دعا المؤلف القراء للمساهمة بشرائها مقدما لتوفير المبالغ اللازمة لإخراجه، وما أستقبله بها النقاد وما كتب عنه، ولقاآت عابرة في طريق الشعب وافتتاح مقر الحزب في الحلة، وما عشته من أوقات رائعة وأنا أطوف بين قطوف أزهاره في كتاباته التي عبر فيها عن آمال وتطلعات الشغيلة، وما أثارت من ردود أفعال في الأوساط الشعبية لما تميزت به من صراحة وضعت النقاط على الحروف في زمن غابت فيه النقاط فكانت الكلمات خجولة باهتة لا تفصح عن مكامن الداء، واستذكرت...واستذكرت، فالذكريات صدى السنين الحاكي، وأجراس تدق في عوالم النسيان، ولكن هل ينسى الشيوعيون رفيقهم المحبوب، ذلك ما أشك فيه، ولعلي لا أعدو الواقع إذا توقعت أن أعلام الحزب لن ينساه، وسينشر ذات يوم رباعيته وصراحته ومؤلفاته المخطوطة التي لا أدري أين صارت، ليستمتع بها الجيل الجديد، ويرى فيما أنتج الحزب في ماضيه الزاهر، من عمالقة لم يكونوا شيئا لولا الفكر الشيوعي الخلاق، وأن قيادة الحزب لا تألوا جهدا في نقل رفاته إلى بلده العراق، البلد الذي ناضل من أجله أكثر من نصف قرن ، وذاق مرارة البؤس والأذى والحرمان ذودا عن قضيته، ولابد أن أرى يوما نصبا شامخا لفقيدنا الغالي يزين بناية طريق الشعب، أو صورة كبيرة تطرز واجهة مقر الأندلس، أو قيام الثقافة الجديدة بإصدار ملف تتناول فيه آثار الفقيد دراسة ونقد، ولا أظن أن رفاقه النجباء سيتجاوزونه فيما يجب أن يكتب عنه، كما هو حال كاتبنا الألمعي عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)الذي كان معلما من معالم الصحافة العراقية بعموده المشهور في اتحاد الشعب.

 كنت أقرء ما أكتب على صديقي سوادي الناطور، وعندما رفعت رأسي ناظرا إليه وجدته مطرقا وقد بان على وجهه ما ينم عن عمق معاناته لهذه الذكرى الأليمة...فأنتبه لتوقفي عن القراءة ورفع رأسه وقال:

بجيت وها ظن جروحي وألاماي   على ألما صابني وياهم ولا ماي

لا هو دم دمــــع عيني ولا ماي    لجن روحي تذوب وتكت هيــــه

أويلا ه على ذيج الأيام، أيام الثورة والنضال، والمظاهرات اللي تفك الگلب، وسوالف أبو گاطع الحلوة، السوالف ألبيها ملح وعبرة وفايدة، اللي إذا قريتها اليوم حسبا لك أبو گاطع عايش بيناتنه، وصدگ لو گالو العمل الصالح...هو هذا العمل اللي خله أسمه بگلوب الوادم، وما أحد ما يذكر سوالفه التطيح عالعلة، يوم من الأيام سولفنه سالفة، يگول أشترا أهل القرية مكينة يكربون بيها زرعهم، يوم عطلت المكينة، دفعوها رادوا عالجوا ماكو ولا طگه، واحد يگول خاف خلصت گاز، واحد يگول خاف الكهربائيات، أجه واحد وگف يمها ، أفتر داير مدايره، باوع للمكينة يمنه يسره، الو ادم تربي عليه حسبا لهم طاح عالعلة، سألوه ها يفلان بشر عرفت شبيهة، گاللهم والله يخوتي هاي المكينة بيها برغي سايف....لكن وين اللي يحط أيده على البر غي السايف....!!!

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com