|
قد تبدوا الكتابة عن المرأة في مجتمعاتنا الضيقة من الصعوبة بمكان، ولكن هل أستطيع أن أتجرد عن تحفظاتي ، وأكتب عن امرأة كانت مثالا يحتذي للمرأة العراقية، رغم نشأتها في مجتمع محافظ وبيئة أشبه بالقروية، وهل أستطيع كتابة أسمها أو الاكتفاء بكنيتها التي تتفق وكنية أم المناضلين، والدة الراحل عزيز السماوي، أنها أم عزيز القاسمية الباسلة التي أعطت درسا للرجعيين والموتورين وأيتام العهد الملكي أبان النهوض الثوري في العراق، وأظهرت من الشجاعة والبسالة ما أعاد إلى الأذهان الصورة المشرقة للمرأة العراقية عبر التاريخ، أنها والدة شهيد حزبنا الشيوعي العراقي عزيز حمزة الأحمد، وفنان الشعب وملحن السلام كوكب حمزة، الذي غنى شعبه وحزبه أعذب الألحان، وأخشى ما أخشاه إن يعود إلى العقلية القديمة ويطالب ب(حشم) لأني كتبت عن والدته رغم علمي بتجاوزه لمثل هذه الأمور! ولدت المناضلة أم عزيز في أسرة متوسطة الحال، تمتهن التجارة ولها مكانتها الاجتماعية وعلاقاتها المتميزة مع الآخرين، وتوجهاتها الدينية المعروفة، وقد تزوجت من المرحوم حمزة الأحمد الشخصية الاجتماعية المعروف بالبسالة والتضحية والأقدام، وكانت له أدوار وأدوار بعد ثورة الرابع عشر من تموز أشرنا إليها في حلقة سابقة عند الكتابة عن الشهيد عزيز، وكانت الثانية في تسلسل زوجاته والأثيرة لديه، وحضت منه بالدلال والتقدير، لذلك كان أبنائها يتميزون عن أخوانهم بالرعاية والاهتمام، وواصلوا دراستهم بدفع من والدتهم المتعلمة ووالدهم الذي شدا شيء من العلم، وأصبح عزيز معلما قبل ثورة تموز المجيدة، فيما أنهى كوكب دراسته الفنية وعين معلما في البصرة، وكان لولدها البكر عزيز توجهاته الماركسية المعروفة، وارتباطه بالحزب الشيوعي العراقي، لذلك ما أن انبثقت الثورة حتى أنطلق عزيز لممارسة دوره النضالي، ناشطا جريئا في صفوف الحزب، يتصدر المظاهرات والمسيرات، ويزاول عمله التنظيمي بأداء منقطع النظير، وكان لوالدته الراحلة أثرها في أندفا عته تلك، فلم تبخل عليه بالدعم والتشجيع والمساندة، وأصبحت من أبرز الناشطات في رابطة الدفاع عن حقوق المرأة، إلى جانب رفيقاتها في العمل المجتمعي ، فكانت هي و(سفانة) تتصدران العمل النسوي في المدينة، واندفعن بهمة عالية في لم شتات النساء للمطالبة بحقوقهن في المساواة والعدالة الاجتماعية، والوقوف ضد القوانين والأعراف الجائرة التي جعلت المرأة أقل شأنا ومكانة من الرجل، بفعل العادات والتقاليد الجاهلية الموروثة، وما يروجه أعداء التقدم من المتخلفين والرجعيين وبعض المتصدين للعمل في الأوساط الجماهيرية، وعند صدور قانون الأحوال الشخصية الذي شرعته حكومة الثورة اندفعت النساء لتأييده فخرجت المظاهرات الحاشدة لدعم الثورة ونهجها التقدمي رغم الأصوات الناعقة التي وقفت بالضد منه، فكان لنشاط الرابطة في الأوساط النسوية أثره في جلب الدعم والتأييد له من مختلف القطاعات الشعبية والجماهيرية، وكانت أم عزيز في مقدمة النساء اللواتي تقاسمن العمل التبشيري بفكر الحزب ومبادئه في الريف ولها جولاتها المتعاقبة في القرى والأرياف شارحة لهم مزايا القانون ونضال الحزب من أجل رفع مستوى المرأة وأنصافها ومساواتها بالرجل. وقد كان للتنظيم النسوي انطلاقته العارمة في المدينة، فانتظمت مئات النساء في الرابطة، وكان لها نشاطها الدائب وحركتها النشيطة لإشراك النساء في النشاط الجماهيري، تشد من أزر أبنائها في أحلك الظروف والمواقف، وفي الصدارة بين المناضلات الجريئات اللواتي لقن رجال الإقطاع درسا أبان الصراع بين القوى الخيرة من طلائع الفلاحين وقوى الشر والبغي من رجال الإقطاع وأذناب العهد المباد، فكانت تؤلب الأطفال على رميهم بالحجارة حتى أصبح من العسير عليهم دخول المدينة لشراء احتياجهم من البضائع، وعندما قام نفر منهم يعاضدهم الرجعيين والموتورين وأيتام العهد البائد بتأسيس اتحادهم اليتيم المدعوم من السلطة، وتولى قيادته عراك الزكم ، أخذ الصراع أبعاد جديدة أتسمت بالعنف وشدة المواجهة، فقد تواترت الأنباء عن عزم الإتحاد الجديد على فتح مقر له في المدينة، بعد أن تمكنوا من تجميع بعض المغامرين من صغار الملاكين، والعناصر المنبوذة في الريف، بإسناد من السلطة وتشجيع منه، ومساعدة المسئولين الإداريين في المحافظة، الذين كانوا من بقايا النظام السابق وممن تضرروا من التغيير الجديد، ولكن أبقائهم في السلطة كان خطأ فادح كانت له نتائجه السلبية، لأن البرجوازية الصغيرة مهما كانت درجة وعيها إلا أنها تبقى ضمن ممارساه طبقتها البعيدة عن قوى التقدم والتغيير، لقد حاول هذا النفر الضال اختلاس الشرعية الانتخابية للاتحاد العام للجمعيات الفلاحية بعد تراجع بعد الكريم قاسم وتذبذب مواقفه ومسايرته للعناصر القومية والرجعية ومحاولته استمالته، بمواجهة طلائع الخير من أبناء العراق الشرفاء، فأستأجر هؤلاء بعض المشاغبين لمواجهة المد الجماهيري العارم للحزب الشيوعي العراقي، فكانت المؤامرة التي حيكت في مركز المحافظة للقيام باعتداء على مقر الحزب في المدينة، ومهاجمته من قبل مسلحين انتدبوا لهذا الغرض، لتقوم السلطة بتوجيه الاتهام للشيوعيين بإثارة البلبلة وأعمال الشغب، وعندما علمت لجنة المدينة بما يحاك لها في الخفاء أوعزت لقواها وركائزها الفلاحية بالتهيئة لمظاهرة سلمية في استعراض لقوى الحزب في الشارع، وكان لبعض الرفاق الفلاحين حدسهم بمؤامرة كبرى لقتل العناصر النشيطة المؤثرة في الشارع، فقام الرفاق جاسم حسن شلال ولطيف عبد هويش والشيخ أحمد العبد الله وآخرين بتهيئة مجاميع مسلحة من الفلاحين خارج المدينة تحسبا للطوارئ، وإخفاء أسلحة في الدور المجاورة للمقر لتكون بمتناول الفلاحين عند حدوث الاعتداء، وعاشت المدينة يومه، ساعات من الترقب والانتظار، فيما أتصل مدير الناحية ومأمور المركز بالمحافظة لطلب النجدة بحجة نية الشيوعيين في مهاجمة المركز ومديرية الناحية، إلا أن انتباه الرفاق ويقظتهم فوت الفرصة على المتآمرين ، عندما توجه وفد من أعضاء الحزب إلى مدير الناحية وأخبروه بما يروج له من قبل بعض العناصر الموبوءة، وأن الحزب الشيوعي لا يفكر في أثارة معركة في المدينة، على أن يلتزم الطرف الآخر بالتهدئة وعدم إيصال الأمور إلى طريق مسدود ، وفعلا أنسحب الرفاق المسلحين من المدينة فيما ظلت القوى المسلحة الأخرى مختبئة في البساتين المحيطة بالمدينة تحسبا للطوارئ، وأثناء المفاوضات انطلقت المظاهرة السلمية من مركز المدينة باتجاه الشارع العام، وكان لزاما مرورها من أمام المحل الذي أتخذه الاتحاد الجديد مقرا له، وهو قريب من مقر اتحاد الشعب، وما أن وصلت المظاهرة قريبا من مقر الاتحاد المزعوم، حتى انهالوا عليها بالحجارة وأصيب أحد الرفاق في رأسه وسالت دمائه الحمراء القانية، ولطبيعة الفرد العراقي في التصدي للاعتداء قام البعض بمهاجمة المقر بالحجارة، فحاول الموجودين إغلاق الأبواب إلا أن الجماهير الغاضبة اندفعت في فورة غضبها لتكيل لهم الصاع صاعين، فكانت المعركة الفاصلة التي لقنتهم درسا لن ينسوه، وأصيب الكثير من المعتصمين بالمقر بإصابات بعضها خطيرة، فيما أصيب من المهاجمين الشهيد عزيز بضربة خنجر في كتفه الأيسر، في ذلك الوقت اندفعت أم عزيز المناضلة الجسورة لتنتزع ملاءتها وتضمد جرحه الدامي لقطع نزيف الدم وهي تنادي(حنه...حنه) أنها حناء الثورة وليست دم، مما جعل الجماهير تندفع بحماس منقطع النظير لأداء واجبها في تطهير المدينة من المعتدين، وقد تقدم بعض الرفاق لإيقاف الهجوم وتمكنوا بعد جهد من إيقافه وانسحاب المتظاهرين الذين كانوا بالآلاف. وبعد انتهاء المواجهة أقدمت السلطة على اعتقال عشرات الشيوعيين بتهمة أثارة المعركة ، رغم علم السلطة بأسباب المعركة ومسبباته، وأحيل المتهمين إلى الحاكم العسكري العام الذي أصدر أحكامه التي تراوحت بين الثلاثة سنوات إلى ستة أشهر، وكان بينهم الشهيد عزيز الذي لم يستطع إنكار مشاركته بسبب أصابته في المعركة، فلم يثني ذلك هذه المرأة الباسلة، واستمرت بذات النشاط في تحركها بين الأوساط النسوية، رغم الانكماش الشعبي بسبب ممارسات النظام، واندفعت لمؤازرة أبنائها ، فكانت خير أم لمجموعة من المناضلين الذين منحتهم ما تستطيع من العون المادي والمعنوي، وقد لاقت الكثير من العنت والأذى في مواجهاتها لأبنها السجين، وقسوة المعاملة من رجال الأمن، رغم ما تتمتع به من جرأة في مواجهتهم ، فزاد ذلك من إصرارها على المسير في ذات الدرب، وقد قدمت خدمات جلا من خلال تحركاتها التي لا تثير التساؤل لكونها امرأة تستطيع أخفاء وجهها بملاءتها فلا تثير الانتباه، وكان لدارهم باب خلفية تطل على زقاق ضيق، جعلت مراقبة الأمن غير ذات جدوى ، وأصبح للتنظيم النسوي نشاطه في معاضدة نشاط الرفاق الآخرين. ورغم تقدمها في السن إلا أنها ظلت محتفظة بجرأتها واندفاعها وحيويتها وعزمها على مواصلة النضال، وكانت سندا لأبنها الفنان كوكب حمزة في ولوج طريق الفن، بما تقدم له من تسهيلات لإشباع هوايته الفنية، رغم معارضة والده له، لما تحمل من نظرة فنية لا توافق ما عليه مجتمعنا في تلك الفترة، فلا غروا أن غناها في بعض أغانيه وردد ما يخامره من حب لها في ألحانه، وما يعتمل من شوق في داخله لرؤيتها بعد حياة المنافي التي تعرض لها في حياته، وقد كانت وراء النشاط الدائب لولدها البكر عزيز الذي كان من أشد المناضلين اندفاع وجرأة سواء في الفعاليات الجماهيرية أو النشاط المهني أو العمل التنظيمي، وفي أيام الجبهة كانت دارهم أشبه بالمقر فتقام فيها الاحتفاليات في المناسبات الوطنية والأممية، وتعقد الاجتماعات، ويؤمها الكثير من الرفاق لما تتحلى به أم عزيز من روح مفعمة بالحب للجميع، وما تمتلك من طيبة نفس وروح حانية عطوفة فكانت أم لمن لا أم له شفيقة رءومة حانية على الجميع، ولم يرض هذا النشاط السلطة الغاشمة فوجهوا سهامهم إلى هذه الأسرة النبيلة، والقي القبض على عزيز وولده البكر وأصدرت محكمة البعث حكمها الجائر بإعدامهم ومصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة ، وبيعت دارهم بالمزاد العلني، وقامت بتسفير الأسرة إلى إيران بحجة التبعية الإيرانية لأنهم من الكورد الفيلية، وهذه جنايات الشوفونية القومية على العراقيين، ولكن الوثائق التي أبرزتها الأسرة جعلت التسفير لا يطال قسم منهم فلم تسفر أم عزيز وزوجه، فيما سفر أبنائه وهذه من المفارقات التي لا تجري إلا في دولة البعث الباغية، أن يكون الإباء من قومية والأبناء من قومية أخرى. وإزاء هذه النكبات المتوالية، وسنين النضال المثقلة بالكثير من المصاعب والآلام ، آن لها أن تضع عصا الترحال، فأسلمت الروح أثر مرض عضال، وهي تنظر إلى الباب بانتظار عودة أبنائها الذين أعدم أحدهم البعث وأجبر الثاني على مغادرة البلاد، وكان لوفاتها أثره في نفوس المحبين والرفاق الذين حملوا نعشها إلى مثواه الأخير، بعد أن كانت تأمل أن يكون أولادها في جملة المشيعين ولسان حالها يقول: نكلتك أبطني تسعه أصحاح طلوكي من أعشه للصباح ردتك براس النعش لواح ولكن أبنائها الشيوعيين أوفوا العهد وصانوا الأمانة فقد حملوا النعش على أكفهم وكانوا أبناء بررة لمن أطعمتهم وأعانتهم في أحلك الظروف، وهذه هي جرائم البعث القذرة التي يحلوا للبعض تبريرها بذرائع مختلفة، ويدعون للمصالحة مع هؤلاء المجبولين على الخسة والدناءة والغدر. ومن تأثيرها ألواضح أن تولت قيادة التنظيم النسوي حفيدتها في فترة السبعينيات، بدعم وتشجيع منها بعد أن هدها الكبر ولم تعد لديها القدرة على مواصلة المسيرة فأسلمت القياد له، وهكذا توارثت الأسرة الكريمة النضال الوطني، ولا زالت الدماء الشيوعية الطاهرة تسري في الجيل الجديد، الذي تفيء عبق الذكريات عن أيام النضال الخالدة، والمناضلين الأبطال الذين سطروا أروع الملاحم في التضحية والفداء، وغرسوا شجرة الشيوعية ، التي لا زالت تنموا لتضلل بأفيائها الملايين، ولابد أن يأتي اليوم الذي يقطف فيه الناس ثمار الشيوعية، بعد انحسار الرأسمالية التي كشفت عن وجهها القبيح في محاولة بسط نفوذها على العالم من خلال عولمتها المتوحشة. لك الذكر الطيب أيتها الأم الرءوم، فقد أنحسر الليل البهيم وأنارت نجوم الشيوعية دياجير الظلمة في سماء العراق، وهاهم أحفادك الشيوعيين يسهمون في بناء بلدهم، ويناضلون لبناء وطنهم الحر وشعبهم السعيد.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |