حين ضيّعنا العراق!
 

 

 

 زهير حمداني/ كاتب صحفي من تونس

raq4Iraqis@googlegroups.com

كانت دعوة" ريتشارد كوهين" كاتب العمود في صحيفة الواشنطن بوست ، وأحد غلاة اليمين الأمريكي، صريحة وواضحة ولا تحمل أي مواربة "إن الدول تأتي وتذهب وقد آن الأوان أن يذهب العراق" كما ذهبت من قبل يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفيتي . لم يكن الرجل القريب من دوائر القرار الأمريكي يثير موقفا أو يطرح  فكرة بل هو يقرر أمرا تجسم في مشروع السناتور "جوزيف بايدن" ،يؤكد فيه أن مرحلة طويلة من الإعداد والتمهيد والحشد قد انتهت ، وقد أزفت لحظة القطاف والشروع في عملية البتر والقص واللصق.

وليست مخططات التجزئة والتفتيت هنا  جديدة على العراق والمنطقة فهي جزء من توجه ثابت وجوهري في السياسات الصهيونية والأمريكية والغربية عموما تجاه الأمة العربية والمنطقة، دلائله كثيرة وبّينة وعلاماته شديدة الوضوح.منذ أوائل القرن الماضي، وما يحصل الآن ماهو إلا رجع صدى لبعض مشاريع قديمة لم تنضج الظروف الموضوعية لتحقيقها في وقتها أوهي تحطمت بفعل مقاومة أمة كانت تؤمن بوجودها وتدافع عن مستقبل لم يكن يبدو غائما كما هو عليه الآن ، ماهو مفزع و محزن لا يتعلق بهذه المخططات بل بردود الأفعال المخيبة، وهذا الصمت العربي الرسمي والشعبي  العاجز أو المتواطئ.

وكأن الأمر برمته  يتعلق بالهند وراس أو بوتان أو غواتيمالا... وكأن العراق الموحد المعافى لم يكن جزءا أصيلا من هذه الأمة وهو ليس ذلك البلد الذي أسندها في أيام محنتها ودعمها وشد من أزر كل الأقطار العربية التي استفادت منه ،مشرقا ومغربا وخليجا  وهو الذي حارب ودافع عن الحواضر العربية في كل الحروب مع إسرائيل ودفع ضريبة الدم  وسخر مقدّراته لفائدة قضايا الأمة خلال فترات طويلة من التاريخ العربي المعاصر .

إن العرب هم من أوصل العراق إلى هذا المصير المأساوي ودفعوه إلى هذا المآل استثمروه أيام قوته وعنفوانه لترتيب  توازنات إقليمية تخدم مصالح بعضهم وللدفاع عن ثرواتهم وعروشهم، وزينوا له الحرب مع إيران وقدموا له كل أنواع المساعدة وأطنب إعلامهم ومثقفوهم في تمجيد قيادته ودورها التاريخي ودفع هو الثمن  من دماء أبنائه ومن وحدته واستقراره وأصبح  وضعه الداخلي يغلي ويفور، والحروب الطويلة غالبا ما تخلف آثارا ومضاعفات اقتصادية واجتماعية وسياسية خطيرة تحدث شروخا في النسيج الاجتماعي وتقطع أوصاله لاسيما إذا كان هشا وغير مترابط في الأصل ويتعرض لضغوط خارجية شديدة.

وكان على العراق بعد أن وضعت الحرب أوزارها أن يواجه أعباء هائلة وبشكل منفرد ،وقد انفضّ من حوله الجميع وتركوه يختنق في وضع اقتصادي صعب ومشاكل بلا حدود وآلة عسكرية ضخمة ،هادرة ومتحفزة لا يمكن التكهن بردود أفعالها وأخطر من ذلك يواجه بداية عصر إمبراطوري أمريكي وضع العراق جائزته الكبرى أواخر الثمانينات من القرن الماضي وقد حصل وانقاد العراق بتفاعل كل تلك العوامل إلى خطيئة غزو الكويت  في آب أغسطس 1990... لقد ضيع العرب العراق حين جلبوا آنذاك القوات الأمريكية إلى عقر دارهم وهي التي كانت تبّيت احتلال العراق وحين شاركوا بحماسة  في ضربه وتدميره بجريرة ما ارتكبته القيادة العراقية ، فكانوا هم أول من وضع المشرط في الجسد العراقي وتركوا للولايات المتحدة أن  تعمله لاحقا كيفما بدا لها ، وتمادوا عندما تركوا هذا البلد يعاني من حصار ظالم ، إجرامي أتى على مقومات الدولة وقتل الملايين وقوّض البنيان الاجتماعي ومهد لبروز النعرات المختلفة ، وعندما صّموا آذانهم وأشاحوا بأبصارهم عن ما عرف بمناطق حظر الطيران في شمال العراق وجنوبه والتي كانت قياسا لردود الأفعال و بروفة لمخطط التقسيم الأصلي وقد جعلت تجزئة العراق  منذ ذلك الحين أمرا واقعا تدعم تدريجيا.

لقد دقّ العرب إسفينا في بنيان العراق وأوقعوه في هذا المآل المحزن عندما باركوا العدوان الأمريكي وناصروا الاحتلال وأيدوا التدمير المنهجي الذي تعرضت له كل نواحي الحياة في أرض السواد وحين تصور بعضهم أن كل ما كان وما سيحصل هو ثمن قليل في مقابل رأس القيادة العراقية التي رحلت بكل ما لها وما عليها إلى رحاب الله، وعندما استضافوا ودعموا شراذم من المعارضة العميلة والتي اقتصرت برامجها وتوجهاتها على فيض من الحقد والطائفية وسيل من الرغبة في تحقيق النزوات والمصالح الشخصية والفئوية على أنقاض عراق مستباح وممزق، وقد افتضح دور الكثير منهم في جحيم العراق المحتل...

لقد ضيّع العرب العراق عندما انشغلوا بتوافه الأمور عن تصفية رموز الدولة العراقية ومعالم سيادتها وتاريخها ولم يقدّروا طبيعة الهجمة الأمريكية وتركوا بلاد الرافدين تغوص في أتون من القتل المجاني والتصفيات الطائفية والسياسية الدموية وعمليات التهجير والجراحات العرقية والمذهبية والتي أدت في النهاية إلى ضرب عروبة العراق وزعزعة وحدته الوطنية وتثبيت الاستراتيجية الأمريكية في تقسيمه إلى مناطق وكانتونات بما يتوافق ومصالحها وبما يتناسب وأهواء أركان قيادته الجديدة ونزعاتهم ،ضيعوه عندما استهتروا بدور المعارضة الوطنية وتخلوا عن المقاومة بكل أطيافها وهي التي تجسد روح العراق الأصيل الموحد وتغاضوا عن الدور الإسرائيلي النشيط في شمال العراق وجنوبه ووسطه، ولم يقدموا أي مبادرة جادة لحفظ وحدة العراق وإنقاذه وأهله من شرور ما خطط له وما يبيّت للمنطقة برمتها.

الآن، حتى وان صحا بعض العرب وبدؤوا  ينددون ويشجبون و يعارضون خطة تقسيم العراق فإنهم يفعلون ذلك  من منطلق الخشية أن تدور عليهم الدوائر، بعد أن انفلتت مخططات التجزئة من عقالها  وخرجت من قمقمها ،وباتت تمارس في وضح النهار ولم تعد لها حدود واضحة، ومن الصعب عليهم أن يجدوا طريقة يكفرون بها عن كل تلك الخطايا تجاه العراق أو أن يجدوا مبررا لكل تلك القسوة وكل ذلك الحقد وكل تلك السذاجة وقصر النظر، ولا يمكن بأي حال بعد كل هذا وبعد كل ما فعلنا أن نتصور ريتشارد كوهين أو جوزيف بايدن أو جورج بوش أكثر رأفة منا على العراق وقد قرروا أن يرسلوه أولا إلى غياهب التاريخ قبل أن يلحقوننا به جميعا، آنذاك سيدرك الكثيرون منا أننا ضيّعنا أنفسنا عندما ضيّعنا العراق.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com