العلمانية في أبسط صورها تعني احترام حرية الضمير، وترى أن الدولة ملكا للجميع، وليست حكرا على طائفة أو دين أو قومية، دون تمايز أو تفريق بين الأفراد والجماعات، والتزام كامل باحترام الأديان والمعتقدات السماوية والأرضية، وفصل الدين عن الدولة في الإدارة وتشريع القوانين، لأن القوانين حاجات آنية لمجتمع ما في عصر م، ولا يمكن للتشريعات أن تكون ثابتة، وإنما تتغير وتتحول بتغير العصور والأزمان، لذلك ترفض العلمانية الجمود والتحجر، وتدعوا للانفتاح بما يتوافق وحاجات المجتمع الآنية بالاستناد لتوافقات المجتمع على أسس معينة، قابلة للتحول والنسخ بما تدعوا الحاجة وتتطلب طبيعة العصر، والعلمانية رغم أنها اتفقت على هذه القواعد ألا أنها تختلف في بلد عنه في آخر، ، فالولايات المتحدة الأمريكية وضعت في دستورها الاتحادي مبدأ الفصل بين الدولة والكنيسة، وعدم وجود دين رسمي للدولة، له أولوياته في التشريع وسن القوانين، في الوقت الذي أخذت بمبدأ الحرية المطلقة للأديان بممارسة طقوسها وشعائره، واعتبار الدين اختيار عقلي للإنسان له قبوله أو رفضه أو تغييره، بغض النظر عن الدين الذي ولد عليه، ولا يوجد تمايز بين دين ودين وطائفة وطائفة، في تقلد الوظائف العامة، فالكل سواسية في التعبير عن مبادئهم ، بما لا يؤدي الى التجاوز على الآخرين، في ابتعاد كامل عن التصورات السابقة بضرورة هيمنة الأيمان المطلق بالحق الإلهي على العقل والمنطق، مما لا يعني الإلحاد أو إنكار الأديان، بل الاعتماد على المنطق والحاجة دون النظر للقوانين السابقة التي تجاوزها الزمن، ولا يعني ذلك أن تتحول الشمولية الدنية الى شمولية علمانية، بل في تعايش سلمي للمفهومين السائدين، وما تفرزه الأيام من توافقات تفرضها المجتمعات.

 والعلمانية تؤمن بالنقد العلمي للفكر الأسطوري المعتمد على جوهر المسلمات غير القابلة للنقض، ويرى ضرورة التحول والتجديد، فالملابس القديمة بعد أن تبلى تصبح غير صالحة للاستعمال ويوجب المنطق تغييرها بالجديد الملائم لطبيعة العصر، في الوقت الذي تمنح من يقر الإبقاء على ملابسه القديمة حريته الكاملة في أصلاحها أو تبديلها أو الإبقاء عليه، وهذه الحرية المطلقة لا تمنحها الأيديولوجيات الشمولية التي ترى بمبادئها الصلاحية لمختلف العصور والأزمان، والدولة العلمانية لا تتبنى فكرا على حساب آخر وللأفراد الحق باختيار المبادئ دون حق فرضها على الآخرين، لذلك أخذت العلمانية أبعاد مختلفة في النظر الى الأشياء، فالعلمانية الشمولية التي تحاول إلغاء الآخر لا تختلف عن الشمولية الأصولية التي ترى أنها الأصلح والأنقى وأنها تمتلك الحقيقة المطلقة، لذلك يمكن تقسيم التيارات العلمانية الى مطلقة ومقيدة، بمعنى أخر علمانية متحررة وأخرى شمولية، رغم اتفاقها على مبدأ تحرير المعتقدات من هيمنة السلطة، فالعلمانية الغربية التي ناضلت للتخلص من سطوة الكنيسة وفرض تصوراتها على الإنسان، وبسطت سيطرتها على مفاصل الحياة وألزمت الآخرين بأتباعها في استعمال مفرط للحق الإلهي في تطبيق الشرائع، مما جعل الدين القوة المهيمنة على كل شيء، وأبعده عن أساسه الديني ليتحول الى سلطة دكتاتورية مقيتة تفرض قوانينها بالقسر والإكراه، ، وأخذت السلطة البابوية بتأويل الفكر الإلهي بما يخدم تصوراتها في توجيه الناس بالوجهة التي تريد، والاستئثار بالسلطة المدنية، لاستئصال ما يختلف مع توجهاتها فأخذت منحى سياسيا بقولبة الفكر الديني باعتمادها على الاجتهاد التفسيري في محاولة لإرغام الآخرين على قبول أرائهم والتوسع على حساب الشعوب الأخرى، في تزاوج عجيب بين الحاكم الذي منحته الكنيسة الحق الإلهي في التصرف حسب أهوائه، بدعم مطلق منه، وتدخل صارخ في شؤون الإدارة من رجال الدين، مما خلق نوع من الصراع بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية للهيمنة وإلغاء الآخر، فحاول ملك فرنسا"فيليب" الذي تولى مقاليد السلطة من سنة 1285 -1314 الحد من تدخل الكنيسة في أدارة السلطة، فتمكن من الانسلاخ عنها والخروج عن تصوراته، ثم وصلت القمة في عهد لويس الرابع عشر، عندما جعل للبابا السلطة الروحية دون الزمنية، التي تخضع للملك ذو الحق الإلهي في الحكم، وبتعاقب السنين فقدت الكنيسة سلطتها فكان انتخاب الأساقفة من الهيئات الانتخابية للمحافظات والكهنة لهيئات المدن، وكانت المعركة طويلة امتدت لقرون حتى أنحسر النفوذ الديني، وأصبحت التشريعات خاضعة لإرادة الشعب الذي ينتخب الهيئات التشريعية، ويصوت على القوانين، وأخذ الفصل مديات أوسع من خلال تطور القوانين وتوجهاتها البعيدة عن الأطر الدينية، فليس للدول العلمانية دين رسمي، وللمواطن الحرية لأتباع الديانة التي شاء، وأصبحت الدولة هي القائمة بتعيين الأساقفة والكهان، ، وتدفع لهم الرواتب أسوة بالموظفين، حتى وصلت ألأمور أوائل القرن العشرين الى تعددية الأديان المعترف بها وتحضي بمساعدات الدولة، فيما أصبحت الدولة المؤسسة الشاملة التي تتمتع بالسلطة بعيدا عن المرجعيات الدينية، ويكون للمؤسسات الدينية واجباتها الروحية في المجتمعات، والأديان جميعا على قدم المساواة دون تمييز بينه، وبذلك أصبح الدين داخل الدولة بعد أن كانت الدولة داخل الدين.

 وقد أخذ الدستور الفرنسي بهذا المبد، فساوى بين المواطنين بغض النظر عن الدين والمذهب والجنس أو الطائفة، واحترامها جميعا دون تمييز بينها بمنح امتياز سياسي لهذا أو ذاك، ويكون المعيار الأساسي الولاء للوطن، مما جعل دور الكنيسة هامشيا فتحولت الى الخدمات العامة، واستطاعت من خلالها مد جسور العلاقة مع المواطنين.

 وفي تطور لاحق ألغت القوانين الفرنسية نظام العبادات المعترف به، ومنعت تقديم المساعدات الحكومية لدور العبادة ورجاله، وألغت المجالس الملية، ونص دستورها على أنها جمهورية علمانية تكفل المساواة أمام القانون لجميع المواطنين، دون تمييز في الجنس واللون والمذهب، وهذا المبدأ جعل الكنيسة بعيدة عن هيمنة الملوك الذين يدعون الحق الإلهي، فكانت الكنيسة في ظل العلمانية أفضل منه في ظل الحكم الملكي، مما جعلها تتبنى هذه الأفكار التي لا تلغي وجوده، وإنما تجعلها بمنأى عن الذوبان والتلاشي، فتبنت حقوق الإنسان لأنها توفر الغطاء الكامل لوجوده، وهذا لا يعني أن الصراع قد انتهى ولكنه أخذ الإطار الديمقراطي في التناقض والاختلاف، بتطبيق مبدأ حق الاختلاف بما يتيح حتى للأقليات الدينية والعرقية التحرك بالاتجاهات التي تخدم مصالحها مما جعلها جزء من المجتمع، رغم اختلافها عنه في الكثير من الأمور، وبذلك انعدمت هيمنة الأكثرية، لوجود ضمانات كافية للأقلية للقيام بالممارسات الخاصة به، لأن الدولة لا تتبنى وجهة نظر لصالح هذه الجهة أو تلك، أو ثقافة سائدة تفرض على الثقافات الأخرى، وهذا لا يعني أن لكل طائفة أو فئة دستورها الخاص أو قانونها المنفصل، فالجميع متساوون في الحقوق والواجبات، والالتزام بالقانون الأساسي يضمن لهم نمطا معينا لا يتعارض مع الخواص الذاتية لكل جهة، بما يتفق والمبدأ الوطني العام، مع الإبقاء على الخاص ضمن الحدود التي تتيحها المبادئ الأساسية، فهناك عادات وتقاليد اجتماعية بائدة تتعارض مع الحقوق الأساسية للإنسان ولا يمكن القبول بها في المجتمعات العلمانية، فالإكراه على الزواج، أو الطلاق العشوائي، أو معاملة الطفل بأسلوب يتنافى وحقوقه، ، هذه الأشياء تجعل للمبدأ العام وجوبيته على عرف الطائفة أو القبيلة التي ترى تصوراتها البائدة أن الرعايا هم ملك خاص لها تستطيع التصرف به بالطريقة التي تراه، بما توارثته عن أسلافه، وفي المجال الدراسي وأعداد المناهج هناك نظريات علمية تتعارض مع الأفكار القديمة لبغض الفئات، فالحرية لا تعني أعطاء الحق لهؤلاء بترك النظريات العلمية الثابتة ودراسة النظرية الأسطورية التي تتنافى مع الحقائق العلمية، فإنماء القيم المجتمعية العامة لا يعني معاداة القيم الخاصة، ولا يمكن لطائفة أو قبيلة إدخال نظريتها المتعارضة مع المبادئ العامة في المناهج الدراسية، مما سيجعل صعوبة في التعامل مع المبدأ العام، لأن التوجهات الدينية لطائفة ما ستجعل من المستحيل عليها التعايش مع أفكار الطائفة الثانية، مما يجعل العيش المشترك لهذه الطوائف يدخل في دوامة من الاختلافات التي تؤدي الى عدم التماسك والفرقة وتوزيع المجتمع لأثينيات تتقاطع في الكثير من القضايا والتوجهات، وبالتالي ستؤدي الى الفرقة والصراع، وخصوصا في النظريات الدينية التي تؤمن بامتلاكها الحقيقة المطلقة، وغيرها على ضلال.

وفي أوربا أخذ الصراع منحى آخر أختلف في دولة عنه في أخرى، فقد حاول العلمانيون في بلجيكا بالتعاون مع الاشتراكيين استنادا لقواعدهم الشعبية المؤثرة نزع الهيمنة الدينية عن مفاصل الحياة البلجيكية بعلمنة التعليم وجعله حرا بعيدا عن المفاهيم الدينية للمذاهب المختلفة، بعد أن كان التدريسيين من ذوي الدراسات الدينية، فأخذ التعليم طابعه الرسمي بإسناده الى تدريسيين يحملون شهادات رسمية، ولكن رجال الدين تمكنوا من العودة الى سيطرتهم، فيما استمر الصراع بين الطرفين مما جعل للتعليم الديني مجاله الخاص البعيد عن التعليم الرسمي، وأستطاع التحالف التركي اللبرالي أوائل الخمسينيات السيطرة على السلطة مما مهد له سحب الدعم عن المدارس الدينية والاهتمام بالمدارس الرسمية، ولكن الصراع لم يحسم لجهة دون أخرى مما قسمه الى شقين ديني ورسمي، ويكون الدعم للرسمي، ولكن بعد سيطرة الحزب الِاشتراكي المسيحي أخذت الأمور منحى آخر رغم تحرر هؤلاء، حتى حسم الصراع أوائل السبعينيات باعتراف الدولة بالطوائف الفلسفية اللامذهبية، ثم دخلت العلمانية ضمن التعددية، فالجميع لهم الحق باستلام الأجور من الدولة في مساواة كاملة للدينيين والعلمانيين، رغم أن الدستور البلجيكي يكفل حرية الضمير، مما جعل المدارس ذات مناهج علمانية دينية، وهذا قد يخلق مستقبلا مفارقات ثقافية، فالتعليم العلماني يعطي للعقل موقعه المؤثر في النظر الى الحياة ودراسته، فيما يؤكد الدين على الجانب الغيبي الذي يطرح الأمور كمسلمات غير قابلة للتطوير والتعيير، وقد أصبح لكل دولة نظامها الخاص في علمنة المجتمع رغم التعددية الدينية والمذهبية للمجتمعات، وأمكن قولبته بفصل الدين عن الدولة وتشريع القوانين التي تحتاجها المجتمعات المعاصرة بروحية بعيدة عن الفكر الديني، فقد نصت أغلب الدساتير الأوربية على مبدأ الفصل وأعطت للجميع حرية الدين والمعتقد دون تمييز، رغم وجود دول جعلت الدين رسميا له، إلا أنها لم تجعله أساسيا لتشريعه، وأبعدت الدين عن التدخل في الشأن السياسي.

ولنا أن نتساءل، هل الحرية التي تمنحها العلمانية للأديان في ظل هيمنتها على السلطة، تستطيع أن تمنحها المؤسسة الدينية لو جرى العكس، وهل في الفكر الديني المعاصر ما يعطي للفرد الحرية باعتناق دين آخر، أو التحول الى مذهب آخر، أن المؤسسة الدينية استغلت الحرية الممنوحة لها في ظل العلمانية لإعادة بسط نفوذها، والامتداد بما يكفل لها العودة لفرض هيمنتها من جديد، وهو ما نلمسه في الدول ذات التقاليد الغربية التي أخذت المؤسسات الدينية تتمدد فيها لتعمل من خلالها على نشر أفكارها، بل وتجاوزت الحدود بممارسة العمليات المسلحة داخلها وتوفير الدعم لمنظماتها العسكرية الموزعة في بلدان العالم، وبالتالي يمكننا القول أن ما توفره العلمانية لأصحاب الأديان هو أفضل بكثير ما تستطيع توفيره الدولة الدينية التي من صميم فكرها إنهاء المخالف لها في الطائفة أو المذهب كما هو الحال في الصراع المذهبي بين الطوائف الإسلامية الذي وصل مرحلة الإبادة الجماعية.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com