بدايــات الغربــــة /22

 

محمد علي الشبيبي/ السويد/

كربلاء/ العباسية الشرقية
alshibiby45@hotmail.com

الحلقة تتناول: تداعيات الوضع العراقي ومعاناة الطلبة والنازحين العراقيين في بولونية، وتعرضهم للتسفير للعراق وأجبارهم على المغادرة، وعجز المنظمة الحزبية في معالجة مشاكلهم.   

كانت بولونية في بداية سبعينات القرن الماضي تستقبل الآف السواح العرب وخاصة من العراقيين. وسبب هذا الجذب السياحي رخص الحياة، بسبب الفرق الهائل في سعر العملة الصعبة في السوق الرسمي والسوق السوداء المنتشرة بصورة شبه علنية، وأنفتاح مجتمعها وسهولة التعاطي مع شعبها أضافة لأنتشار الدعارة الرخيصة، أضافة لأمكانية حل كثير من المشاكل التي تعترضهم عن طريق الرشاوي والتي تسهل عليهم الحياة. وأكتشف العراقيون هذه المزايا وأصبحت الدول الأشتراكية السابقة وخاصة بولونية قبلة للكثيرين، بالرغم من تعرضهم في كثير من الأحيان لعصابات السرقة والدعارة ويغدون ضحية لأحتيالها، لكنهم يعاودون الزيارة في الموسم القادم. أذكر كنا كل صيف نلتقي برجل شارف على السبعين عاما ، ويجلب معه من العراق، الرز والسمنة وأنواع الخضروات والحلويات وكل مايشتهيه. وفي أحد الآيام وجدناه في البيت يواسي شابتين بعمر أحفاده من (صديقاته) وأحداهما كانت تبكي. ترجانا أن نفتهم مشكلتها وهو مستعد لمساعدتها. ولما سألناها، أخبرتنا بضياع راتبها الشهري بكامله! ولاتملك ماتدفع به الأيجار ولا تملك فلسا للعيش بقية الشهر! أستسهل سائحنا الوقور المصيبة وسألها كم هو راتبك الشهري؟ فأجابت 2000 زلوتي. فأخرج من جيبه 25$، وهذا مبلغ يساوي أكثر من 3000 زلوتي حينها، وسلمها المبلغ تعويضا عن راتبها وطلب منها ان تدفع الفرق الزائد لصديقتها، وأخرج منديلا من جيبه ومسح دموعها ويكلمها بالعربية، التي لاتفقهها، راجيا منها ان تبتسم! هكذا كان سواحنا يتمتعون بالشهامة والاخلاق العربية، لكنهم كانوا يبخلون على الطلبة الذين يقدمون المساعدة لهم. وهناك امثلة كثيرة من هذا النوع وكثيرا مايسببون لنا الأحراج، عندما يطلبون مساعدتهم في حل مشاكلهم عندما تصل للشرطة بسبب الأحتيال والسرقة التي يتعرضون لها مقابل جهلهم وسذاجة معظمهم. كانت العصابات تستخدم فتيات محترفات وتنتظر وصول بعض الطائرات من الدول العربية لتصيد السواح السذج وسرقتهم بعد أستدراجهم للتاكسي وتأجير الشقق عليهم. وكم مرة طلب البعض منهم مساعدته متوسلا وباكيا بعد سرقة جواز سفره وأمواله بعد ساعات من وصوله وهو في حالة سكر، ولا يعرف عنوان البيت الذي أستأجره أو الأشخاص الذين دعوه للشرب، وكل مايتذكره أن مجموعة من الفتيات الشقراوات الجميلات رافقنه بالتاكسي من المطار للبيت، وأستضافنه على شرب الخمر ولايتذكر حتى الوجوه ولا يعرف حتى الاسماء ولايتذكر الحي!

لذلك كانت بولونية محطة لأستقبال الكثيرين وخاصة بعد تدهور الأوضاع في العراق، ففي بولونية يمكن حل مشكلة الأقامة من خلال الرشاوي أو الزواج!. وكثير من المعارضين العراقيين للنظام البعثي ضاقت بهم السبل والتجأوا الى بولونية بأعتبارها رخيصة ومن السهل الأقامة فيها، البعض لجأ للزواج من البولونيات لكي يمنحوا الأقامة الدائمة حسب مايقتضيه القانون البولوني. ولم تكن هناك صعوبات في الزواج فالعرض كبير والمتطوعات للزواج من اللحظة الأولى كثيرات. وإلا كيف نفسر أجراءات زواج بين أثنين ولم يمض على تعارفهما سوى ساعات!. وكنت شاهدا على مثل هذه الزيجات السريعة او بالأحرى الخاطفة، وكان القضاة يختلفون في المواقف من هذه الزيجات بعضهم يوافق على إجرائها دون أعتراض وآخرون يرفضونها، لأن في أعتقادهم لا تؤسس لبناء عائلة جيدة وأنها زيجات فاشلة. وكانت حظوظهم متفاوتة ومتناقضة، بعضهم يحصل على الأقامة الدائمة وتستقر حياته، وآخرون ترفض أقامتهم ويتعرضون الى ضغوطات من الشرطة لمغادرة بولونية أو للمساومات لأستخدامهم كمخبرين.

لم تكن المنظمة الحزبية فاعلة أو قادرة على حل مشاكل هؤلاء لعدم معرفة حقيقة إدعاءاتهم وخلفياتهم السياسية، أضافة الى عزلتهم وأبتعادهم عن مجتمعنا الطلابي وأنغماسهم في محيط خليط من الطفيليين البولون والعراقيين الضائعين دون أن يضعوا أمامهم هدفا جادا في العيش إلا النادر منهم. فكانوا   مضطرين لممارسة طرقا للعيش لم نعتادها ولا نتقبلها ونرفضها بحكم التزاماتنا وتربيتنا. وحتى وأن تأكدت المنظمة من مصداقيتهم فهي غير قادرة على تقديم المساعدة، وأكبر دليل فشل المنظمة في حل مشكلة أقامة زوجتي وأنا العضو في قيادة لجنة المنظمة الحزبية ومقيم كطالب زمالة حزبية ولست سائحا أو زائرا. ولا أحمل كل هذا التقصير على المنظمة وحدها، ولو أنها لم تحاول القيام بأي مسح جدي لأوضاع هؤلاء وتقديم المقترحات الجادة والموضوعية لمعالجة أوضاعهم، وأنما على قيادة الحزب لتجاهلها وعدم متابعتها لهذه الأوضاع، وكان يتوجب عليها بذل جهودها مع الرفاق البولون لتسهيل أوضاع هؤلاء وفق ضوابط. وللأسف أن السفارة العراقية ومخابرات النظام نجحت في شراء ذمم بعض الشرطة ومسؤولي وزارة الداخلية وحتى أساتذة الجامعات، بهدف خلق المصاعب والمتاعب للمعارضين وبالدرجة الأولى للحزب.

كان أول ضحايا هؤلاء معارض عراقي (ناصر)، متزوج من بولونية ولم تمدد أقامته، ورغم أنه عاش في بولونية مع زوجته لأكثر من سنتين، إلا أنه وزوجته عجزا عن حل مشكلة أقامته. وبالطبع فأنه أفاد الشرطة كونه معارض يساري وصديق للحزب الشيوعي العراقي وهارب من النظام العراقي الفاشي وأن عودته للعراق معناها تصفيته في سجون النظام. لكن الشرطة البولونية أعتقلت هذا المعارض وتم تسليمه للحكومة العراقية عن طريق السفارة مع كل ماقدمه من وثائق وأفادات! وقد أحتجت منظمتنا على هذا التصرف، وقدمت لجنة التنسيق للأحزاب الشيوعية في براغ أحتجاجا الى ممثل حزب العمال البولوني (الحزب الشيوعي). وأعتذر حزب العمال البولوني، مبرراً أن تصرف الداخلية كان خاطأ ولم يكن مدروساً ومتسرعا!. لكن هذا الأعتذار لم يعيد (ناصر) لزوجته ولم ينقذه من الأعتقال والزج به في سجون النظام الدكتاتوري. وفي أعتقاد الجميع أن عملية التسليم للمواطن العراقي كانت نتيجة ضغوط عراقية على الحكومة البولونية، وقد أنجرت لها الحكومة البولونية أما لتحرير بولون معتقلين في العراق (مقايضة) وكان ناصر ثمن ذلك، أو تم شراء مسؤولين في وزارة الداخلية لتنفيذ هذا الأجراء القذر، للأساءة الى مواقف دولة أشتراكية وخلق حالة من الأحباط عند رفاقنا. ولو كانت منظمة الحزب ممثلة بسكرتيرها من القوة والقدرة أمام الرفاق البولون على طرح مشاكلنا ومشاكل أصدقاء الحزب ، أو الأستعانة بقيادة حزبنا في حالة عجزها لمعالجة مثل هذه المشاكل على مستوى أعلى بعد تقديم دراسات ناضجة ودقيقة عن حالة المقيمين، لتمكنا من تجاوز كثير من الأشكالات وبذلك نكون قدمنا مساعدات جيدة لمعارضين هاربين من جحيم النظام. لكن للأسف كانت المنظمة من الضعف وخاصة سكرتيرها وممثلنا أمام الحزب الشقيق بسبب تأخره في أنجاز دراسته، فقد أستغرق أكثر من ضعف المدة المخصصة لأنجاز الدكتوراة، وكان الأشقاء البولون يهتمون بمستوى طلبتنا ويتابعون أنجازاتهم الدراسية، لأن تأخرهم الدراسي يزيد من أعباء الدولة البولونية الأقتصادية، ويشكك بمصداقية شعارنا المركزي (التفوق العلمي والعودة للوطن).

 

مساء أحد الأيام وصلتني مكالمة تلفونية من زوجة أحد أصدقائنا (جبار) في لوبلين، وهو متزوج من بولونية وله محاولات للحصول على  دراسة، لكن الشرطة كانت تتعامل معه بالوعود والتأجيل والرفض لأقامته أحيانا. وكان الزميل جبار يبذل جهوده الخاصة وبمساعدة عائلة زوجته لأقناع الشرطة بمنحه الأقامة، بينما الشرطة كانت تماطل في ذلك. وقد عانى كثيرا من وضعه الغير قانوني بسبب حرمانه من الأقامة، مما جعله يعيش في قلق دائم. كان أتصال زوجته بي مفاجئا، فلم يسبق لي أن التقيت بها، كما لم تربطني أية علاقة بزوجها. وبررت زوجته أتصالها بي لأن الزميل (عا) هو الذي أقترح عليها للتحدث معي. كان المفروض أن يهتم الزميل (عا) بمشكلة جبار لأرتباطه بعلاقة صداقة خاصة به وعدم التهرب من مشكلته بتوجيه زوجته للأتصال بي. أخبرتني زوجة جبار أن الشرطة أعتقلت زوجها اليوم مساءً، وعند مراجعة عائلتها دائرة الشرطة للسؤال عنه علمت برغبة الشرطة لتسفيره للعراق! أوعدتها بأننا سنبذل جهدنا لمتابعة وضعه ومنع تسفيره. أتصلت مساء نفس اليوم برفاقنا بمكتب اللجنة في وارشو أطلب منهم التدخل وبأسرع وقت لمعالجة مشكلة جبار قبل تسفيره. أوعدني الرفاق بأيصال المشكلة للرفيق سكرتير المنظمة لمراجعة الرفاق البولون صباح اليوم التالي. في اليوم التالي ومن الصباح أتصل بي عضو مكتب اللجنة الرفيق (ع) ليبلغني أن سكرتير اللجنة يطلب مني متابعة ومراجعة الشرطة في لوبلين شخصيا وبأسم حزبنا! متحججاً بعدم أمكانية اللقاء بالرفيق البولوني المسؤول عن العلاقة برفاقنا وأن المشكلة لاتحتاج هذا التدخل من قبل المنظمة!. وعندما أعترضت على ذلك، لأني قبل أسابيع تعرضت الى تحقيق من قبل الشرطة ونفيت أنتمائي الحزبي، وأن وضعي وأقامة زوجتي وما صاحبها من مماطلة وتهديد ليس مناسباً لأكون أنا الوسيط لمتابعة مشكلة زميلنا، والمشكلة بحاجة لحل من قيادة الرفاق البولون دون تأخير. لكن الرفيق (ع) ترجاني بضرورة مراجعتي لشرطة لوبلين وبرر موقف السكرتير(ك) بأنه تهرب من مراجعة الرفاق البولون، وأنه حتى وأن راجعهم فهو غير قادر لغويا ومنطقيا لحثهم على أخلاء سبيل الصديق وأن البولون لايحترمونه، ومن مصلحة الصديق جبار أن أتابع أنا وضعه قدر الأمكان. أنطباعات الرفيق (ع) عن سكرتير المنظمة ودوره في علاقته مع الرفاق البولون فيها كثير من الحقيقة، فخلال أكثر من ثلاثة سنوات من وجودي في بولونية لم يفلح الرفيق سكرتير المنظمة في معالجة أية مشكلة عانيناها، تتعلق بالتسفير أو الأعتقال وحتى مشكلة الجوازات. لذلك وجدت أن (ع) محق في وجهة نظره، ومن مصلحة جبار أن أتابع وضعه.

 ذهبت بعد إنهاء مكالمتي التلفونية مع الرفيق (ع) مباشرة الى شرطة لوبلين، وكان يوم أربعاء، وهو يوم لآتستقبل به الشرطة مطلقا مراجعة الطلبة الأجانب. وفي الطريق كنت أفكر بأفضل طريقة للحديث مع ضابط الشرطة لمعالجة مشكلة زميلنا، فمصيره يعتمد على محاججتي وقدرتي في كسب عطف ضابط الشرطة ليقف موقفا أيجابيا من المشكلة، فبالتأكيد أن القرار من العاصمة ولكن يبق رأي شرطة لوبلين رأيا حاسما. كان الباب مغلقا، وضغطت على زر الجرس الكهربائي عدت مرات قبل أن يفتح الباب شرطي وعلامات الغضب والأنزعاج على وجهه، وسألني بخشونة: ماذا تريد، ألا تعرف اننا لانستقبل أحدا يوم الأربعاء؟ فقلت له: نعم أعرف والموضوع طاريء وخطير، وأرجو أن تبلغ  المسؤول عن قسم الأجانب بأني جئت لمتابعة وضع زميلنا الذي أعتقلتموه أمس مساءً، ومن الضروري أن أقابله. تركني الشرطي وعاد للداخل ليوصل طلبي، وقد أنتظرت أكثر من نصف ساعة حتى عاد ليؤذن لي بالدخول. تفائلت من رد فعل الشرطة على طلبي لمقابلة المسؤول، فلم أتوقع أن يأذنوا لي بسهولة في يوم عطلتهم، وشجعني هذا على طرح المشكلة والمطالبة بعدم تسفير زميلنا. في الداخل قابلت نفس الضابط الذي سبق وحقق معي وطلب تزويده بمعلومات عن الرفاق والمنظمة. وبعد تحيته، بادرني بالسؤال بماذا أخدم السيد. وجدت من الأفضل أن أتحدث معه في البداية بأسم جمعيتنا الطلابية، وإذا أقتضى الأمر أتحدث معه بأسم الحزب ولو أني كنت مقتنعا أن الموقف من المشكلة سوف لايختلف في الحالتين. قلت جأت أستوضح عن مصير زميلنا وعضو جمعيتنا، فقد أخبرتني عائلته بأنكم تبغون تسليمه للسلطات العراقية، فهل هذا صحيح؟. فرد علي موضحا أن جبار منذ أشهر وهو بدون أقامة وقد أنذرناه أكثر من مرة وأخبرناه بأننا سنرسله للعراق أذا بقي في بولونية، وأوعدنا بمغادرة بولونية، ومرت الأشهر وهو مازال يعيش هنا وبدن أية رخصة إقامة أو (فيزة). حاولت أن أكون معه هادئا ولطيفا، لأكسب رغبته في الأستماع الى ملاحظاتي دون أن أستفزه أو أن أترك الملل يتسلل اليه فينهي القاء معي. قلت له خلال حواري مامعناه: بالتأكيد نحن نرفض أن يتجاوز زملائنا على القوانين البولونية، وفي مؤتمرات جمعيتنا نؤكد على أحترام القوانين والألتزام بها، وللأسف أن البعض يعاني من مشاكل ويحاول معالجتها ولكن يصطدم بعقبات خارجة عن أرادته. المهم ماهو قراركم بالنسبة له، فهو متزوج من بولونية وزوجته بحاجة لأن يكون بجانبها. فرد علي: وماذا تريد أن نفعل لمواطن أجنبي لآيحترم قوانيننا، ويقيم بدون رخصة ويتهرب من مراجعتنا، غير أعادته لوطنه. قلت هذا اذا كان حرا في وطنه لا مضطهدا وهاربا من ديكتاتورية فاشية، وأنتم البولون تعرفون الفاشية وقد عانيتم من عذاباتها، فمثلما فعلتم مع المواطنين الأيرانيين وحالتهم تشبه حالة زميلنا، قدموه الى المحاكمة وبعد أصدار الحكم يمكن تخييره الى أي بلد يرغب السفر. سمعت في تلك الأيام عن أعتقال إيرانيين أقاما بدون تجديد أقامتهم، وهما من المعارضين للنظام الأيراني، وقدما للقضاء وحكم عليهما لثلاثة أشهر وخيرا في أختيار البلد لتسفيرهما اليه، ولم يسفرا الى إيران. رد عليّ: وأي بلد مستعد لأستقباله؟ قلت له: هناك دول كثيرة يمكنه السفر اليها، سورية مثلا، والسويد البلد الرأسمالي يستقبله ويمنحه اللجوء والأستقرار ويحميه من النظام، أما أن تكرروا نفس الخطأ السابق مع ناصر وتسليمه للعراق فهذا يسيء لسمعة أجهزتكم الأمنية، وحتى حزبكم أقر بخطأ ذلك وأعتذر لهذا الأجراء المسيء لسمعة بولونية الأشتراكية.

 كان حواري مع الضابط هادئا، وكان هو مؤدبا معي ويحاورني بأحترام وجدية كمن يريد أن يجد مخرجا لوضع زميلنا، وأستغرق حديثي معه أكثر من ساعتين تبادلنا فيها وجهات النظر عن الوضع في العراق ومشاكل العراقيين المتواجدين في بولونية. فأوعدني بأنهم سيدرسون قضيته والقرار يعود لوزارة الداخلية وأنه سيكتب تقريرا موضوعيا عنه وأبدى في حديثه تعاطفا مع زميلنا. ثم سألني مبتسماً: هل مازلت مصراً بعدم أنتمائك للحزب؟. تجاوبت مع أبتسامته الخبيثة بأبتسامة، وهو ينهض من كرسيه كأشارة لي بأنهاء الحديث. وقلت له: إن رغبتم بأمكانكم معرفة من هو الحزبي ومن هو الصديق ولستم بحاجة لسؤالي. وتشكرت منه وقبل أن أفتح الباب للمغادرة سألته هل يمكنني أن أبشر زوجته بعودة زوجها، فضحك وغمز لي بعينه، فشعرت بالأطمأنان وأبلغت زوجة جبار بمحاولتي لأنقاذ زوجها من تسليمه للعراق. كما أن عائلة زوجته هي الأخرى وقفت موقفا تضامنيا جيدا مع زوج أبنتهم وبذلت جهودها لمعالجة مشكلته بالأستعانة بمعارفهم، ولم تدم أقامته في المعتقل طويلا وأطلق سراحه.

 أعتقد أن الحكومة العراقية بوزارة خارجيتها ومخابرتها نجحت الى حد كبير في شراء ذمم بعض الأجهزة البولونية بدءً من مؤسسات وزارة التعليم وصولا الى وزارة الداخلية. وأصبح ذلك واضحا في تعامل أجهزة وزارة الداخلية مع رفاقنا وأصدقائنا، وأعتقد أن بعض تصرفات الأصدقاء والرفاق الغير مسؤولة أحيانا كانت سببا لردود أفعال الشرطة في كثير من الأحيان. أن أحد أهم أسباب هذا النجاح هو المبالغ الطائلة التي كانت تصرف لشراء هذه الذمم، أضافة الى الضعف في تحرك المنظمة الحزبية والطلابية (جمعية الطلبة) والأحرى القول أن قيادة الحزب لم تهتم بهذه المشكلة، فكان يتوجب على قيادة الحزب توجيه منظماته الحزبية في الدول الأشتراكية لأجراء جرد ومسوحات عن النازحين العراقيين الهاربين من الأرهاب الصدامي وأحتوائهم من خلال تقديم المساعدات الممكنة لهم. وأستمرت حملات مضايقة طلبتنا مع أختلاف أسبابها وأساليبها وزمانها من مدينة لأخرى. وفي هذه المرة تعرض الى التحقيق وحتى والحجز رفيقان متزوجان يدرسان مع زوجاتهم في مدينة وودج هما هشام وفلاح. وتدخلت المنظمة بأستحياء لمساعدتهم، لكن وللأسف لعبت بعض المواقف الشخصية والحساسيات وضعف الثقة وعدم الأرتياح في عدم جدية معالجتنا للمشكلتهم. وأضطر الرفيقان الى مغادرة بولونية مع زوجاتهم أستجابة لقرار الشرطة!. وأعتقد أنهما تقبلا أخيرا بأرتياح موقف شرطة وودج منهما، بعد أن وجدا أمكانية اللجوء للدول الأسكندنافية التي توفر لهما إستقرارا أمنيا أفضل.

كان بأمكان المنظمة أن تخصص أجتماعا خاصا لتدارس مثل هذه المشاكل وطريقة معالجتها مع الأشقاء البولون دون الأضرار برفاقنا وأصدقائنا. وقد تحدثت في ذلك مع الرفيق (ع) عضو مكتب اللجنة ووافقني على ذلك على أن يطرح الموضوع في أجتماع المكتب وأخبرني بأن ذلك سيتم قريبا، ولكن للأسف لم ندرس ذلك وهذا ما أتحمل مسؤليته لعدم متابعتي، ولا تعفيني أنشغالاتي بأقامة زوجتي التي لازمتني طول فترة وجودي في بولونية ومشكلة جوازاتنا وإلغائها وبعض المشاكل الدراسية والعائلية التي سأتناولها في الحلقات القادمة، وهي مشاكل ليست بسيطة أجبرتني أنا الآخر على مغادرة بولونية.

 أما مشكلة الصديق علي (أبو ناطق) وما رافقها من أحداث درامية تستحق التطرق اليها ببعض التفاصيل مادمت قد تحدثت عن بعض المشاكل التي عانيناها في ظل نظام (أشتراكي) مزدوج الشخصية كالمريض بالشيزوفرينية. وصل أبو ناطق الى بولونية في أواسط الثمانينات، وهو عامل ميكانيك وتعليمه لايتجاوز المتوسطة، ومن الأصدقاء المعارضين للنظام الدكتاتوري، وأرتبط بعلاقة صداقة مع أحد رفاقنا لمتابعة وضعه. وكان أحد الكثيرين المقيمين في بولونيا هربا من بطش صدام، وسمعت منه أنه كان حزبيا وناشطا في شبيبة مدينته البصرة، وغادرها بعد أن قدم وسهل تهريب الكثير من رفاق مدينته.

بمرور الزمن ومع تصاعد البطش الصدامي تعززت العلاقات المخابراتية بين النظامين العراقي والبولوني بتأثير البذخ المالي للمخابرات والدبلوماسية العراقية. فكان أحد ضحاياها أبو ناطق. تعرفت على أبي ناطق في الأسبوع الأول من وصولي بولونية، وهو الذي ساعدني مشكورا في تأجير الغرفة في بيت السيدة ماريا بعد أنتقالي من الفندق. كان مقيما ويمدد اقامته نظاميا بطريقته الخاصة، فأمثاله ومن خلال علاقاتهم نجحوا في حل مشاكلهم ولو لفترة من الزمن قد تطول وقد تقصر. بعضهم يحلها كما ذكرت من خلال الزواج أو الرشاوي والهدايا أو تقديم الخدمة المعلوماتية عن أحوال الآخرين للشرطة البولونية وغيرها من أساليب. وللأسف أن سكرتير المنظمة كان يخفي على رفاق اللجنة وأعتقد على بعضهم وانا أحدهم بعض التفاصيل في العلاقات مع الأصدقاء وعدم التطرق الى مشاكلهم التفصيلية أمام اللجنة أو كيفية معالجاتها، وهذا ما أكتشفته بعد عدة سنوات!.

حصل أبو ناطق على الأقامة من خلال زواجه مع بولونية ومنحته السلطات البولونية وثيقة سفر بدل جوازه المنتهي الصلاحية. وبعد فشل زواجه من شريكته البولونية وتحوله الى خلاف وصل للشرطة عن طريق والدها العسكري المتقاعد، ورغم إرتباطه بأخرى، بدأت الشرطة بمضايقته، حتى وصل الأمر بأعتقاله وسحب وثيقة السفر منه وأخباره بقرار التسفير، وبعد تدخلات المنظمة الغير مجدية اخبرته السلطات الأمنية أن التسفير سيكون الى سورية. وفعلا نقلته الطائرة الى سورية، ورفض المسؤولون السوريون في المطار أستقباله لعدم إمتلاكه الوثائق الصالحة. وقد أفرح هذا الموقف أبو ناطق ضانا أن الحكومة البولونية ستقبل بالامر الواقع وتقبله كمقيم دائم. بعد عودته مخفورا من سورية لم تطلق السلطات سراحه وأبقت عليه محجوزاً في المطار، وأخبروه بأنهم سيرسلوه بعد ساعات على طائرة الى هنكارية! ولما أخبر رفاقنا بقرار السلطات بتسفيره الى هنكارية، أكتشفنا خطة السلطات البولونية الخبيثة، فالطائرة المقصودة هي الى بغداد عبر هنكارية وأخبرناه بذلك، أو كما هو يرويها أنه هو الذي أكتشف مسار الطائرة، وأن الرفاق لم يتابعوا وضعه جيدا وخدع بدفعه من قبل الحزب لتسليم نفسه للسلطات الأمنية دون أن يتخذوا أي أجراء مسبق لحمايته من التسفير، وأعتقد أن أدعاءه فيه كثير من الصحة، ويدل على أنفراد سكرتير المنظمة في المعالجات وأخفاء المشاكل أو حصرها مع الرفاق ذوي العلاقة وبعض المقربين منه.

بعد أن تأكد علي من نوايا السلطات البولونية قرر أن يقدم على عمل جريء يمنعهم من المضي بخطتهم في تسفيره. وما كان منه إلا أن فتح قنينة ويسكي وشربها، وطلب من الشرطي أن يذهب للمرافق الصحية وكان يحمل بيده قنينة الويسكي الفارغة، وردا على أستفسار الشرطي عن سبب أصطحابه للقنينة الفارغة، أجابه بأنه مسلم وعليه أن يغتسل حسب ماتتطلبه تقاليده. وفي المرافق الصحية كسر القنينة وطعن بطنه بعدة طعنات مزقت بطنه وخرج للشرطي والدماء تسيل منه وبطنه ممزقة وهو يشتم ويهدد! وحسب رواية علي (أبو ناطق) أنه طعن نفسه بسكين حصل عليه من البوفية عندما تناول وجبة طعام! وعلى أي حال ليس المهم كيف طعن بطنه ومزقها وأي الروايات صحيحة، المهم أقدم جزعا ويأسا من قرار لا أنساني، وقفنا منه موقف العاجز وللآأبالي ولم نتمكن من منع تسفيره بسبب إهمال ربما كان مقصودا من سكرتير المنظمة. على أثرها نقل للمستشفى، وقد أغضبهم تصرفه وفوّت عليهم فرصة تسفيره الى العراق، وأعتقد أن تصرفه هذا جعلهم أكثر حقدا عليه حتى كان ذلك واضحا بطريقة علاجه في المستشفى وتعامل الأطباء والممرضين معه. المهم كلف ذلك علياً كثيرا وكاد أن يغادر بولونية الى الآخرة بدل العراق. وقد أضطرت السلطات البولونية التعامل مع أبي ناطق بطريقة أخرى غير طريقة التسفير للعراق، وخيرته في وجهة مغادرته وأختار السويد. ويعيش أبو ناطق الآن في مالمو ويحمل أثار تحالف الشرطة البولونية مع المخابرات الصدامية وتقصيرنا أتجاه أناس أحبونا وتعذبوا بسبب حبهم لنا.  

ومجددا أطرح نفس السؤال هل حقا فعلا لم تكن هناك أمكانية جدية في معالجة مشاكل رفاقنا وأصدقائنا؟ وهل كانت السلطات البولونية بحاجة لتعريض حياة أنسان لمثل هذا العمل الدرامي كي تعدل عن قرارها في تسفيره؟ وهل حقا بذلت المنظمة جهدا ولو متواضعا لمنع تسفيره، أم هي مجرد أدعاءات؟ على مايظهر أن قنينة الويسكي التي طعن فيها نفسه كانت أقوى تأثيرا من علاقة منظمتنا الحزبية مع الرفاق البولون!

 يـتـبـع 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com