عن المحافظ الذي خلع العمامة من أجل السلطة: علاقة الدين بالسياسة مرة أخرى

 

د. حميد الهاشمي

اكاديمي وباحث في الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع

 www.al-hashimi.blog.com

في حادثة لا تعد سابقة في التاريخ الإسلامي على الأقل الحديث منه، خلع السيد (الشيخ) حامد الخضري محافظ محافظة القادسية (الديوانية) في جنوب وسط العراق عمامته وجبته التي تمثل اللباس الديني التقليدي، ولبس "ملابس الأفندية"، وظهر حاسر الرأس، وشذب لحيته، ذلك بعد انتخابه من قبل المجلس البلدي في المحافظة، الذي جاء عقب اغتيال سلفه (خليل حمزة) المنتمي إلى نفس الحزب (المجلس الإسلامي العراقي الأعلى).

هناك سابقة لهذه الحادثة تعود إلى العهد العثماني، حينما نزع (تقي الدين باشا آل المدرس الحلبي) عمامته وزيه "الديني"، بناء على طلب الصدر الأعظم في الاستانة، ليعيد تعيينه بمنصب متصرف (محافظ) حلب، بعد أن تم عزله من منصب الإفتاء الصدر الأعظم نفسه حينما كان واليا على حلب. ولا حقا واليا على بغداد. ولتفاصيل الموضوع مفارقة إضافية تنم عن ظُرف تقي الدين وسعيه للسلطة.

أما بخصوص محافظ الديوانية، فان التأويلات كثيرة لا تقف عند حد. فمنها أنه مدفوع من قبل حزبه أو انه "جندي" مطيع لحزبه الذي يدخل في صراع على السلطة والنفوذ على المراكز الحساسة مع تيارات وأطراف حزبية أخرى، خاصة في بعض المناطق الوسطى والجنوبية. ومنها ما يذهب إلى أنه حب السلطة والوجاهة. وهذا ليس استثناء بالطبع، بل هو ديدن البشر عامة في هذه الغريزة، رغم خطورة المغامرة. حيث أن محافظة الديوانية باتت أكثر سخونة حتى من بعض مناطق شمال وغرب بغداد. وأن المحافظ الأسبق (جمال الزاملي) قد اغتيل هو الآخر قبل خلفه (حمزة). وعليه فإن من يضع نفسه في هذا المنصب وهذه المسؤولية، إنما "يضع دمه في زجاجة" كما يقول المثل العراقي.

ولكننا نريد أن نذهب أبعد قليلا في تأويل أو تفسير هذه الحادثة التي لا ينبغي أن تمر مرور الكرام. فهي لا تقف عند "مصلحة شخصية" أو حزبية، إنما تخص علاقة الدين بالسلطة (شخصيا لا أفضل عبارة علاقة الدين بالدولة الشائعة، لان مفهوم الدولة غير مفهوم السلطة، حيث الأخير يتعلق بإدارة الدولة).  وبتحديد آخر "علاقة الدين بالسياسة". وهذه العلاقة يمكن اختصارها بمفهومي "الدهاء والتقوى".

فالدين "تقوى" أو هكذا يفترض أن يكون، على الأقل لدى رجال الدين الذين يتميزون رمزيا بمظهرهم وزيهم المعروف، وهم تحت أنظار العامة ونقدهم دائما، فيما لو أخلوا بشروط مركزهم. أما السياسة فهي "دهاء"، حيث نلجأ إلى تفسير الإمام علي بن أبي طالب للنتيجة التي آلت إليها معركة صفين بينه وبين معاوية، والتي أعتبر الإمام علي "خاسرا" فيها "سياسيا". حيث فسر ذلك بعبارة "أن معاوية ليس بأدهى مني ولكنه يمكر ويفجر". فعلي أبي طالب يقر بأنه ليس قاصرا عن الدهاء إنما يمنعه عن ذلك تقواه والتزامه حدود دينه. فالمكر والفجور من سمات السياسة وطبائعها غالبا.

وهنا مفترق الطرق بين الدين (التقوى) وبين السياسة، وليس بالضرورة بين "الإيمان والسياسة". وإن الدين (التقوى) برمزيته وشكله المظهري على الأقل يجب أن يكون بعيدا عن "دنس" السياسة، أو تعريض العامة. وأن لا تحسب هفوات وأخطاء السياسة على الدين. ووفقا لذلك فان الرجل (المحافظ) قد كان جريئا وواقعيا جدا في فعلته هذه. وأراد أن يتخلص من تركة وحمل كبيرين، لا يسعه حملهما إضافة إلى مسؤولية المنصب وخطورته. ناهيك عن أن طبيعة العمل الإداري والسياسي في منطقة متوترة تقتضي المرونة والهمة وسرعة الحركة والنشاط، وتفترض النزول إلى مستوى العامة والتعاطي مع كل كبيرة وصغيرة، ورفع التكلفة بينه وبينهم. وهو ما لا يحصل عادة مع  رجال الدين المعممين.

لهذا الحد، يجب أن نحسن الظن بالرجل، منتظرين ما سيحققه لأبناء محافظته. فالعمامة شأن شخصي يجب أن لا نحاسب الشخص عليها، والتزامه الديني لا يقاس بلباسه ولا طول لحيته، فالجانب العبادي برمته شأن الشخص وعلاقته المباشرة مع ربه. أما ما يهمنا فهو الجانب "المعاملي"، أي علاقته بالآخرين، ومدى أدائه لواجبه خاصة إذا ما كان موظفا بدرجة مسؤول كبير.

من جانبي أحيي السيد المحافظ على شجاعته وواقعيته في نزع العمامة و"لباس" رجال الدين، ولبسه زي رجال الإدارة والسياسة، كعملية تماه في المنصب وما يفرضه من متطلبات.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com