|
ما لم تحفظ السلم تقع في الحرب قاعدة من قواعد السياسة والإدارة تعلمناها من تجاربنا وتجارب التاريخ. والسلم هدف كل النظريات الإنسانية ومحاولاتها. فهو كالوردة التي تفتحت في حديقة بيتك تشم أريجها وتستمتع بالنظر الى أفانينها من الصباح حيث ترسم في لويّها الصبوح نسيم الحياة وكذا هو وردة في حديقة جارك وجارك ثم جارك يحبونها كما تحب، فإذا عبثت في حديقتهم لم تسلم حديقتك. هكذا هي صور الحياة وعلاقات الإنسان فيها. فكم تعلمنا منها وجعلناها قواعد لسلوكنا مع الآخريين؟ التجارب البشرية في هذا الشأن صاغت نظريات وقدمت مقترحات وحلول ترجمت الى معاهدات دولية ومنظمات عالمية أكّدت في مواثيقها على الأهداف الأساسية التي من أجلها نشأت والتي تتلخص في 1- حفظ السلم العالمي 2- حماية حقوق الإنسان، ولأجلها شكّلت منظمات فرعية وفصّلت في تشريعاتها مجموعة القواعد والقوانين التي تحدد معالم السلم والأخطار التي تهدده وطبيعة الرد عليها من خلال الخطوات القانونية التي يلزم التدرج فيها قبل الشروع باي عملية عسكرية في العلاقات الدولية فرسمت للدول حدودها المعترف بها والصلاحيات المرسومة للدفاع عنها فهل أن ما يحدث في شمال العراق مع تركيا من تفاعلات وعبث في الحديقة الخلفية للدولة الجارة مع أنها الممر البري الوحيد للعراق والعالم العربي الى أوربا بشرا وسلعا وطاقة بداية فصل ساخن قد يحمل معه المفاجئات؟ لقد إتخذ حزب العمال الكردستاني التركي من شمال العراق مقرات ومراكز تدريب ومصادر لوجستية لتشكيلاته وعملياته المسلحة ضد المؤسسات التركية والتي راح ضحيتها أكثر من 35000 مواطن تركي وإعترفت الحكومة العراقية رسميا بوجوده في العراق وأمرت أخيرا بإغلاق مقراته مما حمّل العراق مسؤولية قانونية عن جملة من النتائج المترتبة عليه. وإنسياقا مع أجواء الإعتراف هذا وعدت الحكومة العراقية بالتعاون الجاد مع الحكومة التركية لإعتقال قيادات حزب العمال الكردستاني التركي وتسليمهم الى أنقرة . والسؤال هو عن مدى قدرة بغداد في تفعيل وعودها عبر الأحزاب الكردية العراقية وخلال المدة القياسية التي طالبت تركيا القيام به. إن مؤشر الإجراءات الفعلية على الأرض لم يسجل حتى هذه اللحظة الإستجابة للمطالب التركية المهمة غير بعض الحركات الإستعراضية التي صورت غلق بعض المقرات الحزبية الكردية العراقية في أربيل من قبل البشمركة لتأييدهم حزب العمال الكردستاني التركي وإصدار بيانات النصح للأخير بالذهاب الى أنقرة وممارسة النضال عبر اللعبة البرلمانية مشفوعة بتصريح مشترك من رئيسي الجمهورية العراقية والأقليم الكرديين السيدين جلال الطالباني ومسعود البرزاني في أنهم لن يسلموا أي كردي أو حتى قطة كردية الى تركيا مما كشف عن طبيعة التناقضات السياسية في الجانب العراقي وسياقاتها التعبيرية عن مصالح العراق الموحد. لقد عبّرت تركيا في آخر وأهم تصريح على لسان رئيسها عبدالله غول بأنهم قد إتخذوا قرارهم بشأن حزب العمال الكردستاني المتواجد خطوطه الخلفية ومراكز تموينه في شمال العراق وأبلغوا الحكومة الأمريكية به لكونها المسؤلة عن أمن العراق، فإن السؤال الأخير هو عن التوقيت وهل غيّرته إجتماعات إسطنبول بين رئيسي البلدين على إنفراد وماذا جرى بين المالكي وأردوغان من مناقشات وتصميمات مشتركة ؟ وإذا كانت الحروب لا تمدنا الكثير من الشخوص البارزة للخطوات القانونية التي تسبق الحروب لمنع حدوثها أو تبرير أسبابها الإنسانية فإن الصورة التي تقدمها المعاهدات الدولية تعبر عن خلاصة أهم الخطوات المطلوبة في هذا المجال . فهل تدرجت تركيا في هذه الخطوات القانونية السلمية وإستوفت كل شروطها ثم عجزت عن حل الأزمة كي تتوسل الى حقها القانوني في التدخل العسكري لحلها؟ قد يكون الجواب بالإيجاب إذا ما توقفنا بالمحطات الرئيسية للسياسة التركية التي هي نتاج مدرسة تاريخية في الرؤية والإنضباط العسكري والتي تستمد روحها من حاكمية الف عام في المنطقة كانت قد توسعت من سواحل الأطلسي في المغرب العربي الى بغداد شرقا واليمن جنوبا وحكمت نصف أوربا لقرون وحاصرت فينا لنصف عام إن هذا الأرشيف الثري لأي دولة يعطي لها طيفا واسعا من الرؤية والتحليل ومعرفة الشخوص والخطوات فمن خلال الرؤية القانونية للحركات السياسية تبين ان تركيا قد تدرجّت وإستنفذت حتى اليوم كل الوسائل السلمية والخطوات القانونية بدءا من الإتصال المباشر مع بغداد عبر وزير خارجيتها والوفود المتعددة والدعوة الى تفعيل مبادىء حسن الجوار التي تلزم أن لا تكون أراضي دولة ما قواعد ومنطلقات ضد دول الجوار وقد تبادل الطرفان العراقي والتركي الزيارات فجاء وزير الخارجية التركي(علي بابا جان) الى بغداد ومما خيب الآمال للوصول الى حل مشترك من هذه الزيارات تصريح وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري في أنقرة وهو من الحزب الديموقراطي الكردستاني وتهربه عن مسؤولية ضبط الحدود وتسرب المقاتلين الPKK من شمال العراق وإعلانه عن عجز الحكومة من منعهم لتواجدهم في مناطق عراقية يصعب السيطرة عليها مما فسرته الحكومة التركية إشعارا عن عدم حسن النية لدى أكراد العراق ومناورة سياسية أخرى منهم للإلتفاف على الرغبة التركية في معالجة الموضوع سلميا وربما لنفوذ عوامل خارجية ما عليهم. وفي خطوة أخرى طالبت تركيا المنظمة الدولية والحكومة الأمريكية مرارا بالتدخل لمنع تدفق الإرهابيين الى بلادها لكونها المسؤولة عن حفظ الأمن في العراق فكانت النتيجة تسويفا ووعودات وخيبة أمل. وفي خطوة ثالثة دعت تركيا إيرانَ للتوسط وبذل المساعي الحميدة لحل الأزمة بما لها من علاقات مؤثرة على الساحة العراقية، ويبدوا أن إيران قد فشلت بدورها حين ردّ الوزير العراقي برهم صالح من الإتحاد الوطني الكردستاني بعنف على وزير الخارجية الإيراني منوجهرمتكي في مؤتمر إسطنبول لإعمار العراق حين قدم إقتراحا بتأجيل الإستفتاء على كركوك لعامين، ويمكن القول أن تركيا قد إستوفت معظم الشروط المطلوبة التي على أساسها يمنح القانون الدولي حق التوسل الى إستعمال الحل العسكري . لماذا لا توجد مشكلة تركية مع إيران او اليونان أو أرمينيا على خلفية حزب العمال الكردستاني بإستثناء شمال العراق ولماذا توثقت والتحمت العلاقات التركية السورية بعد قضية أوجلان ؟ كيف تتحدى الأحزاب الكردية العراقية وتهدد بمواجهة الجيش التركي إذا ما قصد تجربة كردستان أو أراضيها ولكنها تعجز عن ضبط حدودها من تسرب مقاتلي حزب العمال الكردستاني؟ وإذا ما تبين صحة خبر التحقيق المزمع إجراءه كمطالب تركية في التثبت عن حقيقة توطين الأكراد الأتراك في كركوك كتغطية لتواجد حزب العمال الكردستاني التركي في العراق عبر إصدار بطاقات النفوس ومنح قطع الأراضي لعوائلهم فيها والسعي لإسكانهم في بيوت العرب المطرودين من كركوك وكجزء من سياسة التغيير الديموغرافي للمدينة لصالح ضمها الى خارطتهم القومية بفعل المادة 140 فإن الحكومة العراقية تكون قد سجلت إنتهاكا لحقوق الإنسان وإعترافا بالعجز عن الوفاء لتعهداتها وإن إحتمالات وصول الشرارة الى العمق العراقي في حدود كركوك سيكون محتملا . ومما سبق تبين جليا خطأ تفويض الأحزاب الكردية القومية في الشمال الصلاحيات المفتوحة والتأمين على سلوكياتهم وتفكيرهم لأسباب جيوسياسية وطموحات قومية طاغية عليهم تقترب اليوم شبرا من حدود الإنفصال لإقامة كردستانهم الكبرى التي لا تقوم إلا على مقصات من خارطة إيران وتركيا وسورية والعراق لتشكيل جغرافيتها القومية . فالحكومة العراقية مدعوة لدراسة الخارطة النفسية للأحزاب الكردية العراقية أولا للإطلاع على المؤشرات والمنعطفات التي في طريقها كدولة تسعى لتأمين مستقبل شعبها ووحدة بلادها من الأخطار. ولا شك ان الحكومة قد تعلمت كثيرا عن طبيعة التفكير وسلوكيات الحزبين الكرديين في إدارة العراق من خلال مرحلة الإحتلال وكيف زوّروا جهارا نهارا وإختلقوا قضية كركوك من دون أي أساس واقعي أو تاريخي رغم كونهم أقلية فيها ونقلوا مئات الآلاف من من أكراد السليمانية وأربيل ودهوك ودول الجيران اليها وفرضوا على الدستور ما لا يليق لأي دستور يحترم شعبه ولا يميّز بين أبنائه، فكانت المادة 58 التي مرت من المنخل الكردستاني لتخرج مسحوقا مصفى من كل شائبة تخالف طموحاتهم على شكل المادة 140 من الدستور التي مهّدت بآلياتها الكردية أو المنحازة اليهم بتمويل وإعتبارات لتسليم كركوك الى دائرة خلق الأزمات لمستقبل العراق فضلا عن أنها إغتصاب لحقوق التركمان وتمييز بين المواطنين والقوميات وممارسة غير أخلاقية بعيدة عن كل الأعراف الإنسانية والدينية والقانون. إن بغداد متهمة الى حد اليقين بأنها تعاملت مع هذه الأحزاب بالمقايضة والنقد وضد التركمان بالخصوص مما خلقت مشكلة مستقبلية دفعت التركمان دفعا الى الإستنجاد لكرامتهم وحقوقهم ووجودهم من بقية الضمائر الوطنية والإنسانية والمنظمات الدولية ذات الشأن والدول ممن تتلاقى دعواتهم مع وحدة العراق والعدالة لأبنائه من دون تمييز . إن مسؤولية تحقيق الأمن والسلام والعدالة للجميع وحماية حقوقهم تقع على عاتق الحكومة العراقية وفي خلافه تكون قد وقّّّّعت على رسالة حرب داخلية وخارجية فمن لم يحفظ السلم يقع في الحرب.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |