ظهرت الحركة الشيوعية على الساحة السياسية في العالم الثالث وبضمنة الدول العربية، في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، وهيمنت الأحزاب الشيوعية والماركسية على مجمل الحركة الوطنية في تلك البلدان، وبرزت كقوة عظمى في الدفاع عن الطبقات الكادحة، واستحوذت على مجمل النشاط السياسي لتلك الشعوب، وكان لها أنصارها ومريديها والمؤمنين به، للمصداقية والروح النضالية العالية والثبات على المبد، والصدق في العمل السياسي، والتفاني من أجل الجماهير، والنزاهة والإخلاص البعيد عن المنافع، وما إلى ذلك من صفات جعلتهم في الواجهة من الأحزاب الوطنية الأصيلة، والمقدمة من المضحين والمتفانين في الخدمة العامة.

أن هذا النشاط الدءوب دفع القوى الرجعية المرتبطة بقوى الاستعمار العالمي، إلى محاربة الشيوعية للحد من توسعها وانتشاره، حفاظا على مصالحها وهيمنتها على الشعوب، وللوقوف بوجه حركة التحرر العالمية التي يقودها الاتحاد السوفيتي، بلد الاشتراكية الأول، لذلك كان الحلف المشبوه بين هذه الأطراف لإيقاف المد الجارف الذي سيودى بمرتكز اتهم، وينهي امتيازاتهم التي بنيت على شقاء الآخرين، ولم يكن التحالف لأسباب مبدئية أو دفاع عن مثل عليا كما يحاول البعض تصويره، بل هو دفاع عن مصالح رأس المال العالمي المتمثل بالدول الامبريالية وحلفائها الرجعيين وبعض رجال الدين المرتبطين بالسلطة والسائرين بركاب القوى الطفيلية اللاعقة بدماء الأبرياء وتعيش عالة على القوى المنتجة، وكبار الملاكين، تلعق قصاعهم وتعيش على فتاتهم، لأن نماء الحركة الشيوعية وانتشاره، سيؤدي بلا ريب إلى القضاء على امتيازاتهم التي حصلوا عليها بفضل الجهل والتخلف وشيوع الأفكار الضحلة التي تكرس الذل والخنوع، والسير بركاب الحاكمين عادلين أو ظالمين.

ولعل الهدف المشترك في فرض الهيمنة على الشعوب، دفع أولئك وهؤلاء إلى تكثيف جهودهم ، ولملمة صفوفهم، وشن حرب وقائية استعملت فيها مختلف الأسلحة والوسائل الشرعية وغير الشرعية، لكبح جماح هذا المد الجارف، الذي سيجرفهم تياره ويلقيهم على قارعة الطريق، لذلك تآمرت هذه القوى، ورفعت راية محاربة الشيوعية وكل فكر تقدمي يدعوا لتحرير الطبقات الكادحة، ويرشدها لمصالحها الطبقية، ولإلقاء الضوء على هذه الحرب والأسلحة المستعملة فيه، لابد لنا من وقفة متأنية ، ودراستها بموضوعية بعيدا عن الهوى والعاطفة، بل سعيا وراء الحقيقة التي غابت وسط ركام من الأراجيف والدعايات المسمومة، التي روج لها بعض الأدعياء والمغمورين، الذين هالهم اندفاع الجماهير الكادحة لاعتناق الفكر الاشتراكي، الذي أرشدها لحقيقة واقعها ، ودعاها لتغييره بواقع جديد، يتعارض وما خططت له تلك القوى وتسالمت عليه، وسعت لتكريسه وإبقاءه ونمائه ، بما روجت واختلقت من أفكار غيبية بعيدة عن الواقع، فشاعت الأفكار الضالة التي تكرس الذل والخنوع، وتشرع الظلم والتعسف، وتفلسف الواقع بما يتلاءم وما تصبوا إليه من هيمنة ونفوذ فأشاعت الآراء التخديرية التي تحبذ الذلة والمسكنة، والخنوع وعدم تغيير الواقع لتعارضه مع أرادة السماء.

 وكان النفاق الديني هو السائد في الساحة آنذاك، فقد روج دعاة الهيمنة إلى نظرية "التقية" التي أصبحت سيفا مسلطا على رقاب الناس، فعلى الإنسان الصبر والقناعة، والركون للذلة، وعدم الانقلاب على الواقع الفاسد، لأنه إلقاء للنفس في التهلكة، ومن أهلك نفسه كان مصيره النار، لذلك لاحظنا أن المتصدين للتشريع الديني، لم ينالهم التعسف أو الظلم، بل جعلوا أنفسهم بمنأى عن كل ما يثير حفيظة الحاكم ، فأئمة الجوامع يدعون للسلطان برا أم فاجر، مؤمنا أم كافر، دعيا أو أصيل، ظالم أو عادل، بل زينوا له الإسراف بالظلم، والاندفاع للقتل، وزوقوا له أعماله الفظيعة، وأضفوا عليها الشرعية الدينية، فإذا أجتهد وأخطأ فله حسنة، وإذا أجتهد وأصاب فله حسنتان، فهو الرابح في الحالين، والفائز في الشوطين، وما على الناس ألا الدعاء له، والثناء عليه.

 أن هذه المقدمة الطويلة، تمهيد لما سأتناوله في هذا الاصطفاف المريب لأعداء الشيوعية، فقد أصدر مفتي الديار المصرية، محمد بخيت عام 1919 فتوى بتحريم البلشفية، دون أن يفقه المعنى المراد منه، ولعله لم يسمع باسمها أو يعرف أهدافها أو يقرأ أدبياته، فالبلشفية تعني الأكثرية، ولا أدري ما هو وجه الحرمة فيه، وقد رد عليه أحد دعاة التنوير الشيخ محمد رشيد رضا صاحب المنار، مفندا فتواه التي كانت تصب في مصلحة القوى الاستعمارية الغربية، وكان الدافع ورائها زيادة النفوذ الغربي، وقال في معرض رده وتفنيده له، أن البلشفية تعني الأكثرية وهم العمال والفلاحين والطبقات المسحوقة التي يسعى البلاشفة لاسترداد حقوقهم، وأن دافع الفتوى مساندة الأغنياء على الفقراء، وأعتبرها خارجة عن المبادئ الإسلامية التي جاءت من أجل الفقراء والكادحين، ، وأضاف هل أن الاستعمار الغربي بسياسته المعروفة يطابق تعاليم الإسلام، حتى يسعى رجال الدين لتأييدها والدفاع عنه، وهل جاء الإسلام للدفاع عن الأغنياء أم الفقراء، وكان على مفتي الديار المصرية، عدم ممالئة الاستعمار الغربي ومساندته ودعمه، لأن أفكاره تتعارض مع مبادئ الإسلام".

 وفي العراق الذي هو مدار دراستن، فقد ظهرت أولى الحلقات الماركسية سنة 1923 وشكلت الخلية الأولى بقيادة المفكر الماركسي حسين الرحال، الذي أصدر(الصحيفة) وهي جريدة عنت منذ بداياتها بالترويج لهذا الفكر والدعوة له، وقد التف حولها لفيف من المثقفين المتنورين، الذين أستهوتهم الأفكار الماركسية، وبهرتهم أرائه، فأخذوا بالتبشير بها والدعوة إليه، ولم يقيض لهذه الحلقة أن تأخذ صفة التنظيم الواسع، فظهرت خلايا أخرى في المدن العراقية على تباعده، وبدء بعض رجال الدين المتنورين، والشباب منهم بخاصة، بالترويج لهذا الفكر، فظهرت أيما آت ماركسية في بعض القصائد والمقطعات ، وظهرت في النجف جمعية أدبية عنت بالفكر الاشتراكي أطلق عليها"العاصفة الحمراء" أسست عام 1930 وقد ضمت الفقيد علي محمد الشبيبي وهادي الجبوري ومرتضى فرج الله وزودها بالكراسات الاشتراكية والشيوعية من بغداد أحمد جمال الدين وصادق كمونه وكانت لهم علاقات ب يوسف إسماعيل وعبد القادر إسماعيل البستاني، وتأثر بها الكثير من الشباب الجديد، من أبناء الأسر الدينية، وبدأت في الوسط ألنجفي بواكير الحركة التجديدية للشعر، وكانت ثورة على الأفكار والأساليب، وظهرت ومضات تدعوا للحرية والمساواة ونبذ الظلم والتسلط، وبرزت الدعوة إلى الاشتراكية في بعض القصائد الشعرية التي ربما نتناولها في بحث قادم، ووجدت قصيدة للشيخ الدكتور عبد الرزاق محيي الدين أنشدها في حفل أدبي سنة 1931 كما يشير ديوانه وتاريخ المناسبة فيها أيما آت للفكر الاشتراكي ، وقد أضطر لترك النجف بعد أنشادها لمعارضة رجال الدين له وكان عمره آنذاك(25)عاما يقول فيها:

أنظري الحقل أن خرجت صباحا تجدي الطير كيف يعبد ربه

لا صلاة لدى الطيور ولا صوم سوى أن يطهر العبد قلبه

وحياة لو تهتدين إليها لتركت القصر الجميل وصحبه

لخصتها العقول للروس دينا ودعتها بالمذهب الاشتراكي

 وظهرت حلقات ماركسية أخرى في بعض المدن العراقية، إلى أن قام مؤسس الحزب الشيوعي العراقي، يوسف سلمان يوسف"فهد"بتأسيس أول حزب شيوعي في 31آذار1934 جمع فيه تلك الحلقات المتناثرة، وألف لجنته المركزية، وبدأت الخلايا الشيوعية المنظمة تظهر في المدن العراقية، وظهر الحزب كقوة ثورية فاعلة في المجتمع، من خلال الإضرابات والأعتصامات والمظاهرات، وإصدار البيانات التي فضحت المعاهدات والاتفاقيات الجائرة التي عقدتها الحكومة العراقية مع الشركات الاحتكارية، وأخذ الحزب على عاتقه المطالبة بحقوق العمال والفلاحين، وبتحسين ظروفهم وتحديد ساعات العمل، والضمان الاجتماعي للعمال، وأستطاع الاستحواذ على ثقة الجماهير بمواقفه الصائبة من الأحداث الكبيرة التي عصفت بالبلاد أبان تلك الفترة.

 وكان رأس الرمح في النضال الوطني، ومقارعة الحكم الملكي العميل، فاتخذت السلطات الحاكمة الكثير من التدابير للحد من انتشاره، وسريان أفكاره بين الجماهير، فاكتظت السجون، وامتلأت المعتقلات بالشيوعيين والوطنيين والديمقراطيين، وأبعد الكثير منهم إلى المدن النائية، تحت رقابة الشرطة ونظره، وشنت حملات قمعية للقضاء على هذا الوليد، فباءت بالفشل جميع المحاولات الرامية للحد من نفوذه، ولم تتمكن من لجمه، أو إيقاف نضاله، وحضي الحزب باحترام الشعب العراقي بكل طبقاته، وكانوا له عونا في الكثير من المواقف والمناسبات.

 وقد أدى الصراع العالمي بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، إلى عقد تحالفات خطيرة لأعداء الشيوعية، فكانت جبهة عريضة ضمت في صفوفها أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وامتدت خيوط الاتصال بين الجهات الدينية، ذات النزعة السلطوية أو التشريعية والمعسكر الرأسمالي، لمحاربة العدو المشترك، الشيوعية، تحت ستار ديني، وكان للمذاهب الإسلامية المتناحرة إلى حد التكفير والاقتتال ، أن تلتقي على رأي سواء في هذه الحرب، بسبب وحدة التطلعات والمصالح لكلا الفريقين.

 وكان للحلف المقدس بين القوى الرجعية والعميلة، وبعض الجهات المؤثرة على التفكير العام، أثر في نشر التخرصات والأراجيف للحد من النفوذ الشيوعي وتوسعه وانتشاره، فقد عقد مؤتمر في مصيف بحمدون بلبنان سنة 1952 تحت شعار"وحدة الأديان ضد قوى الكفر والإلحاد"تحت رعاية ألدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، والرجعية الحاكمة في المنطقة، شارك فيه الكثير من وعاظ السلاطين، الذين همهم الأول، تكريس السيطرة والنفوذ الاستعماري الرجعي، ومحاولة استمرار الهيمنة، والاستفادة القصوى من الامتيازات الاجتماعية والمادية التي حصلوا عليها بمسايرة الحكام الخونة، ومداهنة الظالمين، والدعاء لهم في المساجد، على الرغم من أعمالهم المنافية للأخلاق، وجوهر الأديان، والداعية إلى الظلم والجور والتسلط والهيمنة المطلقة على مصائر الشعوب.

 ولم يكن القصد من المؤتمر محاربة الشيوعية وحده، بل كان موجها لمحاربة حركات التحرر الوطني في العالم العربي والإسلامي، وقد دعي للمؤتمر الأمام المصلح ، والمفكر الإسلامي، الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، وهو أكبر مراجع الشيعة، والأكثر شهرة في الأوساط العالمية والإسلامية، وله علاقات واسعة بالكثير من القادة والزعماء، ويحضا باحترام الطوائف والفرق الإسلامية، لما يحمله من فكر متفتح ، ورؤيا واضحة حيال الكثير من المواقف الإسلامية، وقد رد على الدعوة سيئة الصيت بكتاب نشر في حينه بعنوان"المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون" فضح فيه الدواعي لعقد المؤتمر باستخدام الدين كواجهة لتلك الأغراض، ومما جاء في كتابه آنف الذكر"ليست لدينا في نظام الدولة الشيوعية وأهدافها وأسلوبها في العمل، أمارات وعلائم تدل أنها تريد حربنا من الخارج، كما لا نريد حربها" وكان لموقفه هذا أثر في إفشال نوايا المؤتمرين، في محاربة حركة التحرر الوطني، ووضع العصي في طريق تقدمه، أن هذا الموقف من هذا الداعية المخلص، الذي تفقه في الدين، وخبر السياسة، وعرف دهاليزه، يدفعنا للتساؤل عن المواقف التي صدرت من بعض المتصدين للإفتاء، ممن خاضوا في مجالات هم بعيدين عنه، وسلكوا طرقا متشعبة لا يدركون مسالكه، فارتكبوا الكثير من الأخطاء التي جرت الوبال على الشعوب، وأسالت الدماء الطاهرة، بفعل الفتاوى غير المسئولة، التي استخدمت كذريعة لقتل آلاف العراقيين، وهيمنة قوى الاستبداد على مقاليد السلطة وهو ما سنشير إليه في مكانه.

يتبع

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com