بعد أن تنامت حركة الحزب، وظهر تأثيره في الأوساط الشعبية، كقوة ضاربة يحسب لها ألف حساب، قامت الدوائر الامبريالية، بالتعاون مع صنائعه، باستغلال الدين في السياسة، وإقحامه في الصراع مع الشيوعية، ومن الأدلة الواضحة على استغلال الدين لأغراض سياسية ، بعيدة عن الأهداف الأساسية للأديان السماوية الداعية إلى المساواة والعدل، ما حدث عام 1948، عندما أقيمت الاحتفالات التأبينية لشهداء وثبة كانون التحررية، فقد قام الطلبة البعثيين، بالهجوم على القسم الداخلي لكلية فيصل، واقتحموا القاعة التي تضم الطلبة الشيوعيين، وانهالوا عليهم بالضرب بالعصي والسكاكين، وهم يرددون بدون شعور"الله غايتن، والقرآن دستورن، والشيوعية عدونا"وكان الهجوم مدبرا بالتنسيق مع الحكومة الملكية، وإدارة الكلية، فأصدرت الحكومة بيانا شكليا لذر الرماد في العيون ، وأبعاد تدبيرها للهجوم، دعا لمحاسبة القائمين به، وإغلاق الكلية التي كان للشيوعيين تأثير بين طلابه، رغم أن الكثير منهم من أبناء الذوات والطبقات الموسرة في المجتمع، وقد أستهوت بعضهم الأفكار الشيوعية، فتشربوا بها وآمنوا بمبادئه، وارتبطوا بتنظيماته، رغم انحدارهم البرجوازي.

 ومما يلفت النظر أن علماء الشيعة،  التزموا الحياد في الصراع السياسي الدائر بين المعسكرين، أبان الحكم الملكي،  وكان لبعضهم تعاطفه الواضح مع الشيوعيين وتأييدهم لنضالهم وتجلى ذلك عندما هاجمت قوات الشرطة المظاهرات التي خرجت في النجف للتنديد بالعدوان الثلاثي على مصر، وقتل وجرح بعض المتظاهرين مما دفع الهيئات الدينية لمناصرة الشيوعيين والوقوف إلى جانبهم، ولكن بعد ثورة الرابع عشر من تموز/1958، عندما عملت السياسة فعله، تناما عداء بعضهم للثورة وقادته، وزجوا بأنفسهم في آتون الصراع السياسي الدائر بين الأقطاب المتناحرة ولذلك أسباب سنشير إليها في محلها من هذه الدراسة.

الموقف من الشيوعية بعد تموز:

كان للحزب الشيوعي الدور المؤثر في إسقاط النظام الملكي المقبور، فقد سعى لتشكيل جبهة الاتحاد الوطني، التي ضمت في صفوفها بعض الأحزاب الديمقراطية واليسارية، وكان للحزب الشيوعي علاقة غير مباشرة باللجنة العليا للضباط الأحرار، من خلال بعض الضباط الشيوعيين، وعلاقة بقائد الثورة عبد الكريم قاسم من خلال السيد رشيد المطلك، وقد أصدر الحزب إلى أعضائه في تموز1958 توجيها بضرورة التهيؤ والترقب لأحداث وشيكة الوقوع ، وكان الكادر المتقدم على علم بالثورة وساعة انطلاقه، لذلك هيأ الحزب الشيوعي أعضائه وأنصاره، للإسهام بالثورة، عند انبثاقه، وتأمين الحماية الداخلية له، فكان الشيوعيين سباقين صبيحة الثورة، للامساك بزمام الأمور، وتهيئة الشارع لهذا الحدث المهم، فانطلقت الجماهير الشعبية الصاخبة صبيحة الثورة بمظاهرات عارمة ، أعلنت فيها تأييدها للثورة، والاستعداد لحماية مكتسباته، وساهمت في إيقاف التحركات العسكرية المضادة،  وإفشاله، وكان الضباط الشيوعيين في المعسكرات، قد سعوا لإيقاف أي تحرك مضاد، واعتقلوا بعض القادة الموالين للنظام الملكي، وداهمت الجماهير الغاضبة أوكار الجريمة والشر، وسيطرت على الشوارع والأزقة، وتمكنت من منع أي تحرك مريب يحاول الانقضاض على الثورة، أو الوقوف بوجهه، وكان لهذا الاندفاع الشعبي أخطاءه العفوية، فحدثت بعض التجاوزات والانتهاكات، من بعض الأطراف التي لم تكن مساهمة في الثورة أو عالمة به، لذلك كان الشارع العراقي في ذلك اليوم، والأيام التي تلته في فورة جماهيرية عارمة، تكتسح ما أمامه، ولا يمكن السيطرة عليه، وكان للبعض  مواقفهم ألا مدروسة الناجمة عن الضعف القيادي للجماهير، وعدم القدرة على ضبط عواطف الشعب  المندفع للانتقام من مستغليه، فحدث ما حدث من أخطاء لم يكن الحزب ساعيا إليها وإنما هي ردة فعل لا تخلو منها أي ثورة شعبية، على نظام عات مستبد، وكان للشهرة التي حصل عليها الحزب ونزول قواعده إلى الشارع، أثرها في تأييد الجماهير واندفاعها خلف قيادته، فكان أن أستطاع الحزب كسب الشارع العراقي، لمواقفه أيام النضال، وصدق مبادئه الداعية إلى العدالة والمساواة وتحقيق الرفاهة الاجتماعي وإزالة الفوارق الطبقية، فاندفعت الجماهير هاتفة لحزبه، مما أرعب الرجعية المحلية وآثار حفيظته، وجعلها تعد العدة لإيقاف هذا المد بوسائلها المعروفة واعتمادها على قاعدتها الثابتة المتمثلة بالجهات المستفيدة من وجودها .

  لقد فقد الكثير من رجالات العهد الملكي والمتواطئين معهم ، امتيازاتهم ومكانتهم، فلاذوا في جحورهم خائفين مذعورين، وقد أذهلتهم الصدمة وأربكتهم، فطاشت عقولهم وفقدوا قدرتهم على المناورة والتحرك، وعندما ثابوا إلى رشدهم تمكنوا من تشكيل حلفهم المقدس الرامي لمحاربة الثورة والنيل من قادته، وإفشالهم في بناء الوطن وتحقيق المكاسب والمنجزات للمواطنين، وكانت الضربات تكال تباعا للقوى العميلة، فقد القي القبض على رؤوس الفتنة، وأودعوا السجون، وأحيلوا إلى محكمة الشعب لتقول كلمته، وكان ما كان من كشف المؤامرات والدسائس التي تحيكها الشلة الحاكمة، فنالوا جزائهم العادل وحكمت عليهم محكمة الشعب بحكمها المبني على الأسس القانونية السليمة، ولكن تراجع الثورة ومحاولاتها تقريب بعض القوى التي لا تؤمن بها وتحاول القضاء عليها ، كان له الأثر البعيد فيما أستجد من أحداث، جعلت القوى الرجعية والعميلة، تتمكن من الوقوف على أقدامها والتصدي للثورة والقضاء عليها كما سنشير له بعد قليل، ولو كان لزعيم البلاد موقفا واضحا من هؤلاء، وقضى على رأس الأفعى ، لما تمكنوا من العودة للحكم، ولله در ألجواهري عندما قال:

فضيق الحبل وأشدد من خناقهم    فربما كان في أرخائه ضرر

تصور الأمر معكوسا وخذ مثلا   ماذا يجرونه لو أنهم نصروا

والله لاقتيد زيد باسم زائدة           ولاصطلى عامر والمبتغى عمر

منجزات الثورة:

أصدرت ثورة الرابع عشر من تموز القوانين الوطنية الهادفة إلى تحقيق الرفاه الاجتماعي والمساواة وتحقيق العدالة، وتقاسم الثروة، وبناء المجتمع الخالي من الظلم والتعسف، والسمو بالفقراء وانتشالهم من واقعهم المأساوي بتوفير الحياة الحرة الكريمة لهم، فكان قانون الإصلاح الزراعي الشهير فاتحة خير للعراق الجديد، فقد حد من إمكانيات القوى المستغلة، من ملاكين وأقطاعين ومرابين، في سرقة قوت الفقراء واستغلال جهدهم، وأستطاع من خلاله مئات الألوف من الفلاحين أن يمتلكوا أرض، يستثمرون غلتها من أجل البقاء على قيد الحياة، بعد أن كانت معظم الأراضي الزراعية بيد حفنة من الإقطاعيين ورؤساء العشائر الموالين للاحتلال البريطاني، ممن استحوذوا عليها عن طريق المنحة ، ثمنا بخسا لمواقفهم المهادنة للاحتلال، ووقوفهم ضد أماني شعبهم في التحرر والتخلص من الحكم الاستعماري البغيض، ولمواقفهم الخيانية في ثورة العشرين، فكانت الأرض الزراعية ملك لعدد يسير كانوا يستحوذون على أكثر من 85%من الأراضي الصالحة للزراعة، فيما يعيش الملايين تحت خط الفقر، أو أجراء أشبه بالأقنان، يعملون دون أن يتمكنوا من تأمين لقمة العيش، لذلك أضطر مئات الألوف إلى ترك الريف والهجرة إلى المدينة فرارا من جور الملاكين والإقطاعيين، فكان أن أخذ منهم ما زاد عن حاجتهم ووزع على ملايين الفلاحين.

 وكان لتشريع قانون الأحوال الشخصية الرقم 188 في 28 تموز1959 أثره المباشر، فقد دعا لتحرير المرأة، ومساواتها بالرجل في الحقوق والواجبات، وخلف ردت فعل كبيرة من القوى التي ساءها هذا التطور، وحد من إمكانياتها في الاستفادة من التشريعات الاجتماعية الجائرة التي كان يروج لها البعض، وأدت إلى غمط حقوق المرأة، رغم أن الكثير من تلك القوانين كانت تستند للأعراف الاجتماعية والقبلية، ولكنها تصب في صالح بعض القوى ، التي استفادت من الجهل والتخلف الذي عليه المجتمع فحاولت تكريسه والإبقاء عليه، لما يضمن لها من حياة لاهية عابثة، وقد أعتبره رجال الدين المتحجرين مخالفا للشريعة الإسلامية، مثل مسألة تعدد الزوجات، ومنع الزواج بأكثر من واحدة، إلا بشروط محددة والطلاق والإرث حيث أصبح للمرأة مثل  الرجل، الحق بطلب الطلاق والتساوي بالإرث، وقد يكون معهم الحق بالإرث فقط لوجود النص القرآني، ولكنه جاء ردا على التشريعات المستندة لفقهاء متأخرين، حرموا المرأة من أي حق بالإرث في الأراضي الزراعية، مجاراة لسلطة الإقطاع ذات الارتباط ألصميمي برجال الدين، وكذلك الزواج بأكثر من واحدة لعدم تطبيق الشرط الأساس وهو العدالة، التي لا يستطيع توفيرها هؤلاء، وأدت إلى خراب اجتماعي كبير.

 وكان القانون يحد من هيمنة رجال الدين في عقد القران، الذي كان يجري بعيدا عن المحاكم الشرعية، وتستغل فيه المرأة أبشع استغلال، حيث يكون الطلاق والزواج غيابي، ولا يشترط حضور الطرفين المتعاقدين، كما هو الحال في العقود، فرجل الدين ليس بحاجة لموافقة المرأة في زواجها أو طلاقه، وكثيرا ما تزوج رجال في أرذل العمر من فتيات بعمر الورود، قد لا تتجاوز أعمارهن الرابعة عشرة، وإذا طلقت المرأة فلا حق لها بالنفقة أو مؤخر الصداق، أو أي حق فرضته الشريعة، بل كان لرجل الدين مطلق الحق بالتصرف حتى إذا كان خارج الشريعة الإسلامية، والكثير من الزيجات في المدن والأرياف العراقية، لا تخضع للشريعة الإسلامية، بقدر خضوعها لمدى استفادة رجل الدين منه، ويتجلى التناقض في موقف رجل الدين من المرأة، فقد كان يساير الرأي الشعبي المبني على العادات والتقاليد الجاهلية، التي نهى عنها الإسلام، بل كرس رجل الدين جهده واجتهاده لإرضاء سكان الريف المؤمنين بالعادات البدوية، وكانت مواقفه مبنية على أرضاء هؤلاء بكل صورة، حتى لو خالفت الشرع، لأنهم الأساس لسلطته الزمنية، وبواسطتهم يستطيع الهيمنة والتحكم حتى بمن يخالفه من رجال الدين، حيث لاحظنا أن بعض الزعماء الدينيين يستعينون برجال العشائر في تصفية خصومهم، كما حدث في النجف في القرن الثالث عشر الهجري، عندما أستعدى أحد المراجع، احد  الأشقياء المتهورين لقتل سادن الحضرة الحيدرية، الذي كان يتحكم برجال الدين، ويسيرهم كما يريد، ويحد من سلطتهم في المدينة، أو على زعماء القبائل، مما مهد له أن يكون الزعيم بلا منازع في السيطرة والهيمنة على مقدرات البلاد، ، لذلك نلاحظ أن رجال الدين لا يتورعون عن تطويع الدين  لبسط سيطرتهم، ومد نفوذهم، وإرضاء العامة بما يخالف الشرائع الإسلامية، تجلى ذلك في غمط حقوق المرأة، وتهميش دورها في الحياة وبناء الأسرة، فأعطى للرجل حق التصرف بها وكأنها سلعة أو بضاعة أو خادمة لديه، بل وضعوا الكثير من الروايات عن لسان الأئمة، تدعوا لامتهان المرأة وإذلالها وتكبيل حريته، ومعاملتها بصورة بعيدة عن الإنسانية والدين، ولو أردت الاستشهاد بالروايات الباطلة لاحتجت إلى الكثير من الوقت، وربما لنا عودة لدراسة هذه الظاهرة، استنادا إلى كتب التاريخ والشعر النسوي الذي كان ثورة جامحة ضد رجال الدين.

 والملاحظ أن تعامل رجال الدين مع نسائهم يختلف اختلافا جذريا عما يدعون إليه الناس، أو يجارون الناس على العمل به، فزوجة رجل الدين تحظى بمكانة مرموقة في نفسه، وتحل في المكان الأرفع من تفكيره، بل لعل الكثير منهم يقدمون الخدمات لنسائهم بما لا يستطيع الرجل الغربي تقديم جزء منه لزوجته، فهم يوفرون لخدمتها العبيد والوصائف، فترى بيوت رجال الدين زاخرة بالخدم والخادمات للقيام  بأعمال الخدمة المنزلية، حتى تتفرغ الزوجة لتوفير وسائل الترفيه الخاصة لزوجه، وهن أشبه بسيدات البلاط العباسي في الرفاهية وسعة العيش والسيطرة على مقاليد الأمور، ولهن الرأي في الكثير من الأحداث العامة والخاصة، ويحركن الأمور من وراء ستار، وهذه صفة عامة في رجال الدين، الذين يظهرون للناس بشيء مغاير لواقعهم الحقيقي، أو ما هم عليه فعلا في حياتهم الخاصة، سواء في المأكل أو الملبس أو طبيعة التعامل، بل أن الكثير من نسائهم وبناتهم، يملكن من الأموال والقصور ، ما لا يخطر في بال، وقد ذكر المرحوم جعفر الخليلي في كتابه هكذا عرفتهم، صور كثيرة عن حياتهم، وأسلوب معيشتهم، والدلال الذي يعاملون به عوائلهم، ومما ذكره، عندما أراد عدد من المتنورين فتح مدرسة للبنات في مدينة النجف، ثارت ثائرة رجال الدين، واعتبروا ذلك من الكبائر التي يحرمها الشارع المقدس، وأن تعليم البنات دعوة إباحية منافية للأخلاق، فأستقر رأي الدولة آنذاك على فتح إعدادية لبنات الموظفين في الكوفة، ولكن الغريب في الأمر أن بنات المعارضين من العلماء كن من أوائل الدارسات فيه، وقيل وربما هي نكتة، أن أحدهم سأل رجل دين عن هذا التناقض بين القول والعمل، قال نحن مثل الأطباء نصف الدواء ، ولسنا ملزمين بتناوله.

 ويعتقد الكثيرون أن الشيوعيين وحدهم وراء أقرار القانون، لمناصرتهم المرأة ومطالبتهم بحقوقه، في الوقت الذي كانت الكثير من القوى التقدمية تهدف في برامجها إلى تشريعات تقدمية لصالح المرأة، وقد ساهمت في أعداده ودعمه، ومما يستحق الفخر فأن القانون كان قفزة في القوانين الشخصية، لا يمكن تقبله في تلك المرحلة بسبب انعدام الوعي والجهل المطبق، وأن العجالة في أقراره، دون التمهيد له، وعدم طرحه للنقاش الشعبي، كان وراء الحركة المضادة له، والأصوات الناشزة التي سعت لإجهاضه، وحاربته بما تمتلك من قوة وإمكانيات، وكان لزعيم البلاد أثره في  تشريع القانون وإقراره، لما يحمل في قلبه من أكبار للمرأة وما يشعر به من معاناتها في مجتمعاتنا المتخلفة، لمعايشته للطبقات الفقيرة، واختلاطه بالمجتمع العراقي عن قرب، ومعرفته التامة بما نال المرأة من عنت واضطهاد، وبسبب انحداره من أسرة متوسطة الحال، وسكنه في مناطق شعبية، شاهد فيها الكثير من النماذج والصور التي عاشتها المرأة العراقية تلك السنين، وتذكر الفقيدة الدكتورة نزيهة الدليمي وزيرة البلديات في العهد الجمهوري، إن الزعيم كان أكثر حماسا وإصرارا على تشريع القانون مني ، أنا المرأة الوحيدة في مجلس الوزراء، وقد كنت أخشى ردة الفعل العنيفة لبعض الفئات التي تعارض إصدار هذا القانون،  ليس لسبب ديني أو تهذيبي، وإنما لوضع العراقيل بوجه الثورة وإيقاف تقدمها.

يتبع

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com