قانون العمل:وأصدرت الثورة قانون العمل والضمان الاجتماعي للعمال، حددت بموجبه ساعات العمل، وصندوق الضمان الاجتماعي للعمال، وغيرها من الأمور التي رفعت من مستوى العامل العراقي، مما أثر على الطبقة البرجوازية وأصحاب المعامل، وسلبها الكثير من الامتيازات الممنوحة لها من الحكم الملكي العميل، وما يربط هؤلاء من علاقات متميزة مع التكتلات الدينية، وأهداف مشتركة بينت على أساس المصالح المتبادلة للطرفين، وما يجمعهم من قاسم مشترك، يعتمد على الاستفادة القصوى من الإيرادات المالية للصناعيين والتجار، مقابل تشريع النصوص الداعية إلى أبقاء الاستغلال، وإعطاءه صفة شرعية، وتقنين الشريعة بما يخدم الرأسماليين،  في شراكة مفضوحة، بنيت على أساس المنافع الشخصية، والتحالف الطبقي بين الفقهاء والمستغلين، لذلك  شكل القانون ضربة قاصمة لمصالح أصحاب الشركات ، وانعكس تأثيره على رجال الدين المستفيدين من الاستغلال والهيمنة الرأسمالية، فالفقهاء لم يضعوا حدا للملكية الخاصة، أو يشرعوا ما يمنع الاستغلال، ويدعو للعدالة في توزيع الأرباح، وأقروا أحقية المستغلين بامتصاص دماء الفقراء لقاء المنفعة المتبادلة بين المشرع وصاحب العمل، لذلك رأى رجال الدين في هذا القانون تعارضا مع مصالحهم، وتحجيما لدورهم في الحياة العامة، بقطع المصدر الأساسي لتمويلهم، وهو ما يحصلون عليه من التجار والصناعيين والملاكين، وبالتالي لا مصلحة لهم في رفع المستوى ألمعاشي للعامل، أو تحسبن  أوضاع الفلاح، وكان موقفهم من القانون سلبي، لتأثيره على مصادر تمويلهم.

 كل هذه الأمور وأمور أخرى، لعل من أهمها الدور الكبير للحزب الشيوعي العراقي، وفاعليته المتميزة في الشارع السياسي، وقيادته للجماهير للمطالبة بحقوقها المشروعة، وانحسار  دور الكثير من الجهات المؤثرة في المجتمع، بعد بيان زيفها وزيف شعاراته، وزوال تأثيرها بعد أن كانت صاحبة القرار والتأثير على الجماهير، بأطروحاتها المتخلفة التي لا تنسجم والتطور الذي وصل إليه العالم في العصر الحديث، وكان لتحرك القوى الرجعية المرتبطة بدوائر النفوذ الاستعماري، وما حاكته من مؤامرات  ودسائس لتشويه الصورة الزاهية للحزب الشيوعي، ودوره في قيادة الجماهير، والتفافها حوله، فقد ذكر السيد حسن العلوي، العضو البارز في حزب البعث، ذكر في كتابه(العراق دولة المنظمة السرية)الأدوار التي مر بها البعث وسيطرة المنظمة السرية المرتبطة بجهات خارجية، مما مكنها من تغيير سياسته  والعمل ضد الأماني والتطلعات الشعبية، فقد ذكر الكثير مما كان يفعله أعضاء البعث من أجل تشويه صورة الحزب الشيوعي في الأوساط العراقية، في محاولة لتحجيم دوره وإثارة البسطاء عليه، فقد كان البعثيون يمزقون المصاحف ويقدمون الدعاوى للمحاكم العراقية بالادعاء أن الشيوعيين يقومون بتمزيقه، وأن فلان  قد مزق المصحف وهو عضو في الحزب الشيوعي، فتقوم الشرطة بإحالته إلى المحكمة المختصة التي تستدعي شهود الإثبات وهم من البعثيين أيض، ويشهدون أمامها بأن فلان قد مزق المصحف، فتصدر المحكمة المتواطئة أصلا مع هؤلاء حكمها بالسجن، فيقوم البعثيين المؤمنين بالله واليوم الآخر بنشر قرار المحكمة في صحفهم الصفراء، ويرفعون عقيرتهم بالدفاع عن الدين الحنيف والشريعة السمحاء.وكان لهم دورهم في إشاعة هذه التخرصات والأراجيف ، ونشرت الصحف الكثير من القرارات الصادرة من المحاكم في صفحاتها الأولى، مما أثار حفيظة رجال الدين، أصحاب المواقف المسبقة من الحزب، والمتواطئين معهم، وإثارة الجماهير البسيطة والساذجة عليه.

  كذلك قام أصحاب الرسالة الخالدة، ومن مالئهم من القوى الرجعية بنشر الصور الكاريكاتورية لبعض الرموز الدينية ، على أشكال الحيوانات، مدعين أن الشيوعيين وراء هذه الأعمال في أخراج مهلهل لمسرحية لا يمكن أن يصدقها ذو عقل سليم، وقد أمتلآت  الجدران والشوارع بأمثال هذه الصور، مما أثار بعض رجال الدين على الحزب الشيوعي ومؤيديه، واندفعوا بعلم أو بدون علم إلى اتخاذ مواقف سلبية من الحزب، وقد توجه نفر ضال من حثالات العهد الملكي ومن مالئهم من البعثيين ودعاة القومية إلى السيد الحكيم"رحمه الله" بسوآل عن الشيوعية وموقف الدين منه، وأن النظرية الشيوعية قائمة على إنكار الأديان، وأن صاحب النظرية يقول"الدين أفيون الشعوب"وهي الكلمة التي طافت بأذهان جميع أعداء الشيوعية وروجوا لها بين البسطاء، وأن جل علماء الدين لم يقرئوا النظرية الماركسية أو يطلعوا على دقائقها وأمور أخرى سنشير إليها في محلها من البحث، وكانت السلطة قد أدارت وجهها للقوى الشريفة وبدأت بمغازلة الرجعيين، فاهتبلت فرصة ممن يحاولون الانقضاض على الثورة لضرب الحزب الشيوعي والتأثير على جماهيريته، فصدرت الفتوى المعروفة في أوائل 1960، وزامن الفتوى مظاهرات حاشدة من البعثيين والرجعيين والمأجورين لتأييده، وقادها بجدارة أذناب الإقطاع والشراذم الرجعية والعناصر البعثية المتسترة بأغطية القومية العربية المهلهلة والمرتدين لأردية الدين، والمتضررين من الثورة من أذناب العهد المباد.

 وقد رافق هذه الفتوى تجنيد عناصر ارتدت ملابس الدين لتمرير الفتوى بدعم وإسناد من جهات خارجية ضخت الأموال الطائلة لهؤلاء، من الروزخونية الذين يتاجرون بالدين لا أيمانا به ولكن لجني الأموال من الناس تحت ذريعة البكاء على شهداء ألطف ورجال الثورة الحسينية، لقد أشاع هؤلاء المضللون بأن الشيوعية تعني إشاعة الفساد، وهي ذات التهمة التي تلصق بكل الحركات الثورية الداعية لتخليص البشر من الاستغلال، وسبق لخلفاء بني أمية وبني العباس والعثمانيين وغيرهم من مدعي الخلافة أشاعتها ضد هذه الحركات، واكبر دليل ما الصق بثورة القرامطة التحررية التي أسست لنظام اشتراكي ليس له نظير في التاريخ، وإشاعة الأموال بين الجماهير الشعبية، وأنشـأت جمهوريتها التي كانت مثال للعدالة الإنسانية، وما كان من خلفاء بني العباس في شن الهجمات المتتالية عليها حتى إسقاطها  بعد حروب استمرت عدة عقود، وأشيع عنهم أنهم يشيعون النساء ، ويهاجمون الحجاج رغم بطلان هذه الدعاوى وزيفها ، لأن نظامهم الاقتصادي جعلهم قبلة للشعوب الرازحة تحت التسلط والهيمنة المقرفة للعباسيين، ومن الأراجيف التي أشاعها هؤلاء أن الشيوعية تدعوا لهدم الأضرحة المقدسة ودور العبادة وهو ما لم يحدث في يوم من الأيام، رغم أن هذه الأطراف نفسها مارست هذه الأعمال بعد أن تهيأ لها الإمساك بزمام السلطة وقامت بهدم مراقد الأئمة والجوامع والحسينيات ودور العبادة الأخرى.

  وقد عارضها الكثيرين من رجال الدين ووقفوا بالضد منها وهو ما سنشير إليه في محله، وقد فشلت تلك الحملة رغم التأييد الذي حضت به من السلطة آنذاك ، والرعاية الخاصة من إذاعات دول الجوار ووسائل أعلامهم، وما سخر لها من أبواق مأجورة، ولم ينسحب جرائها أي من الشيوعيين سوى بعض المنتسبين ممن انتموا للحزب لمآرب خاصة، ولم ترسخ الفكرة في عقولهم وهؤلاء يشكلون نسبة بسيطة لا تتجاوز ال5% من أعضاء الحزب، وظل الحزب متماسكا ولم ينفرط عقد مؤيديه وأنصاره رغم التقاليد الدينية والمذهبية وتأييدهم لما يصدر عن رجال الدين، وقد ذكر العلوي في كتابه آنف الذكر أن البعثيين قاموا بطبع آلاف النسخ من هذه الفتوى وتوزيعها في مختلف المدن العراقية ، وكانوا يرفعون الفتوى بيد وصورة المفتي باليد الأخرى وتحولوا بين ليلة وضحاها من علمانيين إلى إسلاميين يروجون لفتاوى رجال الدين بما يخدم مصالحهم وصراعهم مع الحزب الشيوعي، وقد ساعدت الفتوى علي تحجيم دور الحزب، مما أفسح لهم في المجال للعمل منفردين في الساحة العراقية ، ومكن لهم الوثوب على السلطة واستلامها في 8/شباط/1963 .وقد كوفي رجال الدين على تلك الفتوى من البعثيين مكافئة مجزية إذ قام هؤلاء بعد استلامهم للسلطة باستعمال الإبادة الجماعية للجهات الدينية التي يعلمون خطرها ونفوذه، وكان ما كان من إعدامات بالجملة لأبناء رجال الدين واغتيالات لكبارهم. 

  لقد أمتنع عن تأييد الفتوى كبار رجال الدين، من الذين رفضوا تمزيق وحدة الشعب العراقي والدخول في النزاع السياسي، وإقحام المؤسسة الدينية طرفا في الصراع الدائر بين الأحزاب السياسية، أو بين ثورة تموز والامبريالية العالمية التي تحاول بمختلف الذرائع والسبل إسقاطها والقضاء عليه، فقد أصدر المرجع الديني السيد القاياني فتواه الشهيرة التي يقول فيها"أن الشيوعية ليست كفرا أو ألحادا ، ويجب أن يستفيد منها الإسلام كما استفاد من فلسفة أرسطو وأفلاطون"، وأمتنع العلامة الحجة الشيخ حسن الخاقاني - الذي كان يلقب "أبو ذر "زمانه لزهده وورعه وتقواه وامتناعه عن أكل المال العام- عن تأييد الفتوى وأعتبرها فتنة هدفها أذكاء نار الفرقة بين أبناء الشعب، كذلك كان للعلامة المجدد الشيخ على كاشف الغطاء موقفه الرافض لها واعتبارها ذات دوافع سياسية ومرحلية غير خافية على الكثير من العلماء المتنورين، ونشرت في حينها الكثير من الردود لأعلام العلماء، رافضين تكفير المسلم لسبب سياسي، فيما أمتنع العلامة الكبير السيد سعيد الحكيم عن أذاعتها في البصرة التي كانت تحت مرجعيته معتبرا إياها فتنة وقى الله المؤمنين شره، و كان المرجع الكبير السيد حسين ألحمامي الذي يعتبر الأعلم في زمانه وعرف بين العلماء بالنظرة التقدمية الرافضة للكثير مما يتعارض والعقل، قد رفضها رفضا قاطعا وسعى لنقضه، مما عرضه إلى الكثير من المخاطر في حينه، ودفع أولى الأمر آنذاك لرفض دفنه في مقبرته الكائنة داخل الصحن الشريف.

  وفي معرض الرد على ما قيل أنه السبب وراء الفتوى، وما أستند إليه البعض في مقولة (ماركس) "الدين أفيون الشعوب" فأن اجتزاء الجملة من موقعها جعل الآخرين يقعون في الفخ الذي نصب لهم لأنهم يجهلون اللغات الأجنبية ولم يطلعوا على أي مصدر من مصادر الفلسفة الماركسية، فهذا النص اليتيم لا يختلف عن فحوى القصة المعروفة عن أية تحريم الخمر، حيث ورد في الذكر الحكيم، لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" فيما أتخذ منها البعض حجة في عدم إتيان الصلاة باجتزاء"لا تقربوا الصلاة"دون تكملتها وأنتم سكارى،  وقد قال الشاعر:

ما قال ربك ويل للذي شربوا   بل قال ربك ويل للمصلينا

أن المقطع الذي وردت فيه هذه المقولة الخالدة، كان ينظر للدين نظرة تقديس وإجلال لا كما صوره الأدعياء البعثيين والمأفونين القوميين والأراذل الرجعيين، بأنه مثلبة للدين، والنص الأصلي كما في الترجمة العربية كان، أن الدين هو الروح في عالم بلا روح ، وهو القلب لعالم بلا قلب، أنه أفيون الشعب، والفرق بين الشعب والشعوب يعرفه علماء اللغة وأصحاب الكلام، وما هو الفرق بين العام والخاص والتحديد والامتداد، ولكن هكذا كانت الأساليب الخبيثة المتبعة تلك الأيام في دهاليز السياسة وما أتبع المعسكر الرأسمالي من أساليب في الضحك على البسطاء والسذج، وحتى لو سرنا بعيدا مع هؤلاء ونزلنا لمستواهم البائس ، ونحونا في تفسيرها تفسيرا عقليا بعيدا عن النظرات المسبقة، فأن الوقت الذي قيلت فيه والمكان الذي صدرت منه، كأن أقل ما يقال فيه هذه الكلمة البسيطة، وما قامت به الكنيسة في ذلك العصر منى هيمنة مقرفة على مقدرات الجماهير في أورب، وبسط سيطرتها على مفاصل الحياة، وهيمنتها على مصادر الإنتاج، واكتنازها الأموال الطائلة، مما جعل الناس تعيش في فقر مدقع، فيما يعيش رجال الدين في غنى فاحش، وهو ما تمجه الأعراف الإنسانية والأديان السماوية والنظريات الأرضية، التي تدعوا للمساواة وتحسين المستوى ألمعاشي للشعوب، وقد جعل هؤلاء من الدين ألعوبة ومهزلة ووسيلة للهيمنة المطلقة، حتى وصلت الحال إلى بيع القصور والأراضي في الجنة التي كانوا يعتقدون أنهم ملاكه، ولهم الحق بتوزيعها لمن يدفع ثمنه، ووضعوا تسعير للأراضي حسب المساحة والبعد والقرب من الشوارع العامة ومصادر المياه، وحصلوا على الأموال الطائلة التي لا تدركها الأذهان، فماذا يكون دور المصلح الاجتماعي الذي يحاول تغيير الواقع، هل يسكت عن هذه المهازل ويصم أذنيه عن هذه الخرافات والأباطيل التي ما أنزل الله بها من سلطان، أم يفضحهم وينشر غسيلهم، وهل في تعاليم السماء ما يبيح لحفنة من المغامرين الاستحواذ على الأموال واللعب بمقدرات العباد، وأن يعيش نفر ضئيل على حساب الملايين من الحفاة الجياع.

   وليس من الهين تكفير المسلم، لأن الإسلام هو النطق بالشهادتين ومن نطق بها صار مسلم، ولا يعلم ما في القلوب إلا الله، والقرآن الكريم والأحاديث النبوية زاخرة بما يؤيد ما ذهبنا إليه، لذلك ليس سهلا تكفير المسلم، لأن الدين علاقة روحية بين الله والإنسان، وليس لأحد التدخل به، أو يكون وسيطا بين الإنسان وربه، ولكن المصالح الذاتية تدفع  لتجاوز الحدود المرسومة.

يتبع

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com