كان لهذه الفتوى أثر في تحجيم دور الحزب، وإثارة المصاعب والعقبات خصوصا في وسط وجنوب العراق، واستفادت منها الكثير من القوى الداخلية والخارجية، ممن وجدت في الحزب الشيوعي خصما عنيدا له، ولكن هل كان الحزب الشيوعي وحده المقصود بهذه الفتوى، وهل هي موجهة إليه لأسباب دينية فقط، أم إن ورائها دوافع أخرى لا علاقة لها بالدين، ؟لقد أثبتت الوقائع أن الحزب الشيوعي ضحية لصراع عنيف بين المؤسسات الدينية وثورة الرابع عشر من تموز وزعيمها عبد الكريم قاسم، وما اختطته من سياسة وطنية تقدمية أثرت بشكل مباشر على الكثير من الأوساط المتنفذة قبل الثورة، واستطاعت هذه المؤسسة افتعال هذه المعركة، ومحاربة الثورة عن طريق النقطة الأضعف فيها وهي الموقف من الحزب الشيوعي، وما يؤكد ذلك هي الحملة الكبيرة التي قامت بها تلك الأوساط للترويج لسياسة مناهضة للإصلاح الزراعي ، والإدعاء بحرمته وحرمة الاستفادة من الأرض المخصصة بموجبه، وعدم أباحة الصلاة والسكن والزواج والإقامة في الأراضي المغصوبة من الملاكين والإقطاعيين والموزعة على فقراء الفلاحين، مما أثار استهجان الفلاحين واستنكارهم، فقاموا بطرد المروجين لهذه الأمور، وهناك الكثير من الطرائف والقصص المضحكة التي تداولها الناس عن هؤلاء لا يسع المجال لإيراده، ولا زال بعض الملاكين حتى يومنا هذا يواجهون الناس بحرمة الصلاة في الأراضي التي وزعتها الحكومات المتعاقبة على المواطنين كدور سكن، بإدعائهم أنها أخذت منهم قسرا مع أنهم استلموا تعويضات مجزية عنه، ولا أدري كيف لحكومة العراق الإسلامية أن توزع الأراضي على المواطنين رغم أنها بحكم المغصوب حسب أقوالهم السابقة، وقد أقدم بعضهم على الاستيلاء على الأراضي بالقوة بحجة أنها عادت لصاحبها الشرعي بعد سقوط الصنم وعاد الإقطاع ليحلم من جديد بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء لبسط هيمنته واستعادة أراضيه، بتشجيع من بعض الأطراف المهيمنة في شراكة واضحة لتقاسم الأسلاب، وعودة العلاقات السابقة بين أصحاب المصالح لإعادة العراق لعصر العبودية والإقطاع.

لقد كان للارتباط ألمصلحي والمادي بين أولئك وهؤلاء أثره في الدفاع عنهم والذود عن مصالحهم وحماية ممتلكاتهم التي استحوذوا عليها بالتعاون مع الاستعمار البريطاني، ولوحدة المصالح أثرها في التحالف الوثيق بين هذه الأطراف، والملاحظ أن المؤسسة الدينية لم تتخذ موقفا من العهد المباد الذي كان يدار من قبل المستعمر البريطاني، فيما كان موقفها المعارض للعهد الجمهوري بحجة تقريب قاسم للشيوعيين، ولم ينحسر هذا العداء بعد أن تحول قاسم في مواقفه وقام بأبعاد الحزب الشيوعي واعتقال أعضائه مما يدل على أن العداء لم يكن موجها للحزب الشيوعي بالذات بل موجها للثورة وزعيمه، بالتوافق مع جهات لم يجمعها جامع مع تلك المؤسسة، فالسعودية ومصر عبد الناصر كانت على عداء مع تلك المؤسسة، ولكن التقاء المصالح ووحدة الأهداف قارب بين الأعداء لمواجهة العدو المشترك متمثلا بعبد الكريم قاسم، وقد بين العلوي في مؤلفاته العديدة أن الحزب الإسلامي العراقي الذي أنشأ في أوائل الستينيات، وهو نسخة معدلة عن أخوان المسلمين في مصر، وكان الواجهة الإسلامية للبعث قد حضي بدعم وإسناد المؤسسة الدينية في العراق وكان أبناء العلماء أعضاء في الحزب، إضافة للدعم المادي الذي كان يحصل عليه منه، وكانت جرائد البعث تنشر كتابات زعماء الإسلاميين إلى جانب كتابات ميشيل عفلق الذي أشاع البعثيين أنه أسلم وأصبح أسمه الحاج محمد، وقدر لهذا التحالف الهش أن ينتهي بعد استيلاء البعث على السلطة في شباط الأسود 1963 حيث قلب لهم ظهر المجن وكافئهم بما هو معروف، وعندما قام البعث بجرائمه المعروفة ضد ملايين العراقيين لم تجرؤ هذه المؤسسات على إصدار فتاوى ضده رغم تدميره للعتبات المقدسة ومنعه أداء الطقوس الدينية، فيما لم يقم الشيوعيين بما نسبته 1% مما قام به البعث.

وكان للسيد الخميني موقفه المغاير في التعامل مع القوى السياسية والشيوعية بالذات فقد كان على علاقات طيبة بقادة الحزب الشيوعي الإيراني(تودة) ونظرته إلى الأحزاب الأخرى على أسس مغايرة للنظرة المعروفة لرجال الدين، وكان يحتفظ بعلاقات طيبة مع الدكتور (رضا رادمنش) سكرتير الحزب الشيوعي الإيراني، وازدادت علاقتهم نماء وقوة وتوثقت إلى علاقات نضالية مشتركة طيلة سنوات طويلة حافلة بالصراع العنيف مع الشاه المقبور ، وكان رادمنش يزوره في بيته في النجف عندما يزور العراق،  وسئل مرة عن سر العلاقة مع الخميني ، وأنتم تقولون الدين أفيون الشعوب، فرد عليهم أن الدين هو الذي يغذي الشعوب، وقيل أن الخميني قال لرادمنش مازحا(أريد أن أصالحكم مع الله)فيما التقى ذات مرة مع أحد أعضاء محلية النجف وكان جار له فسلم عليه فقال له الخميني ما معناه" نحن مثلكم ندافع عن الفقراء" وبعد نجاح الثورة في إيران لم يكن في نية السيد الخميني أن يستلم رجال الدين مقاليد السلطة، لذلك كانت هناك علاقات ولقاآت مع مجاهدي خلق وفدائي الشعب وتودة، وقالها بصراحة أنه ينوى ترك السلطة للسياسيين وإعادة رجال الدين إلى معابدهم ، والأشراف عن بعد على.

مجريات الأوضاع، ولكن بروز تيارات جديدة وهيمنتها على مراكز القرار أدى إلى اختلاف هذه التوجهات، وكان حزب تودة إلى جانب السلطة الجديدة في مواجهة التحديات الخارجية، ولكن في حمى العدوان الصدامي على إيران قامت السلطات الإيرانية بالهجوم على تودة ومناصريه بحجة التآمر والتعامل مع موسكو، ولم يكن الخلاف بين الخميني وحزب تودة خلافا عقائديا أو فكري، بل كان سببه الأول طلب الخميني من كيناهوري سكرتير الحزب آنذاك أن يفاتح الاتحاد السوفيتي بعدم تزويد النظام العراقي بالأسلحة وإلغاء معاهدة الصداقة بين البلدين ومساعدة إيران بالحصول على الأسلحة الروسية، فبين له كيناهوري أن حزبه لا يرتبط بروسيا وله استقلاليته الفكرية والسياسية، وأن للاتحاد السوفيتي علاقاته السياسية والتجارية التي لا يمكن إلغائها أو التنصل عنه،  مما أدى إلى نقض التحالفات مع تودة ومحاربته بضراوة. والذي يثير الاستغراب أكثر أن المذاهب الإسلامية المتصارعة لم تتفق يوما على أمر سواء وكانت الحرب سجالا بينهم طيلة أربعة عشر قرن، ولكن وحدة المصالح جمعتها لمحاربة الشيوعية، رغم أن الشيوعية كنظرية اقتصادية تتقارب في الكثير من جوانبها مع الإسلام.

الحقيقي، وقد أفرز التاريخ الإسلامي الكثير من الشخصيات التي تتقارب في مبادئها مع النظرية الاشتراكية أن لم نقل الشيوعية، فالصحابي الجليل أبو ذر الغفاري كما تشير سيرته كان من أوائل الداعين لإشاعة الأموال وأنصاف الفقراء من أموال الأغنياء، فيما دأب الكثير من رجال الدين على مجانبة الفكر الإسلامي بوقوفهم إلى جانب الطغاة والظلمة، وانحيازهم إلى جانب الأغنياء ضد الفقراء بل أن الكثيرين منهم أصبحوا بفضل السلطة التي تبوئوها باسم الدين من أصحاب الأملاك والعقارات والشركات والحسابات المصرفية، ومثل هؤلاء لهم الحق بالدفاع عن مصالحهم الطبقية، لذلك ترى أكثرهم إلى جانب الطبقة الأرستقراطية في استغلالها للطبقة الكادحة، مما دفعها لاتخاذ الموقف المعادي من الحركة الشيوعية لأنها تتعارض مع مصالحهم الطبقية، فيما وقف المتنورين منهم إلى جانب الطبقة الكادحة وآزروا الحزب الشيوعي في نضاله الطويل ضد الاستغلال والتسلط وكان لأبناء الأسر الدينية حضورهم الفاعل في الكفاح الوطني تحت راية الحزب الشيوعي ، من أبناء بحر العلوم وآل ألجواهري، وآل الشبيبي،  وآل الحكيم، وآل الكرباسي وأل مروة وغيرهم من كبار القادة والكوادر الشيوعية ، بل أن رجال الدين أنفسهم كانوا يؤازرون الحزب الشيوعي أمثال العلماء حسين ألحمامي وعبد الكريم الماشطة ويوسف كركوش ومحمد الشبيبي وعشرات غيرهم إضافة لآخرين كانوا مؤيدين له في الكثير من المواقف، ومما يسطره التاريخ باعتزاز أن الكثير من خطباء المنبر الحسيني وشعراء الحسين وقادة المواكب الحسينية كانوا من الشيوعيين العقائديين الذين نظروا للثورة الحسينية بوصفها ثورة على الواقع الفاسد وأبرزوا جوانبها المضيئة التي تدعوا للنضال من أجل الخلاص من الاستعمار والتبعية ومحاربة الظلم والوقوف بوجهه، وكان للشيوعيين آثارهم الظاهرة في أبراز الجوانب التقدمية في الفكر الإسلامي، وتنقية التاريخ من الأوضار التي روج لها النفعيين والمتكسبين بهذه الثورة العظيمة، والحاضر الجديد أثبت الفروق الجوهرية بين الشيوعيين ومن ناصبهم العداء لأسباب بعيدة عن الدين، فقد ظهر هؤلاء على حقيقتهم الفجة في صراعهم من أجل المصالح الآنية ، وقاموا بإعمال وحشية تحت ستار الدين وهدموا المساجد والحسينيات ودور العبادة والعتبات المقدسة وهم متلبسين بلباس الإسلام، في الوقت الذي كان الشيوعيين الأمناء لمبادئهم يتعاملون باحترام مع هذه الأماكن، وهكذا أظهرت الأيام بطلان الدعاوى السابقة، وظهر للجميع المعدن الحقيقي والأسباب الكامنة وراء هذا الصراع، فكان للعلاقات الخارجية أثرها في هذه المواقف وقد كشف النقاب عن الكثير من الوثائق التي أثبتت التأثير الخارجي على مثل هذه المواقف، ونشرت في المواقع الالكترونية المختلفة ولا حاجة لتكراره، ولعل هناك أمور أخرى فاتني الإشارة إليها عسى أن يقوم الآخرين بجلائها خدمة للحقيقة والتاريخ.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com