|
الذكريات جرس يدق في عالم النسيان، وكثيرة هي الذكريات الحبيبة للنفس، ولكن قد يتناسى الإنسان أو ينسى، فتذكره الأيام، لذلك كانت للرسالة التي بعثها ولدنا الحبيب الأستاذ كامران جابر جودة مطر الكثير في نفسي، وخصوصا بعد أن قرأتها منشورة في موقع تل أسقف، وتمتعت برؤية صورته الرائعة التي رأيتها عيانا وهو طفل يحبو أو لا يزال في حجر والديه، واستعدت ذكرياتي عن والده الراحل الكريم الأستاذ المربي الفاضل والرفيق الشهيد بوجهه البشوش الأحمر وعويناته الطبية السميكة وضحكته الرائعة المجلجلة، وأناقته الفريدة التي لا يدانيه فيها أحد، وتذكرت أيام طفولتي عندما كنا أخدانا نلعب في أزقة القاسم الحبيبة، كأننا الطيور البرية التي لا تحدها حدود أو تردها موانع، وكنا نفترش الأرض ونسبح في الأنهار، ونلعب في برك مياه الأمطار، ونصطاد الطيور في أعشاشه، لا نفكر في الغد ونعيش ليومنا في بلنهية من العيش الكريم، أو نقرأ في البساتين المتناثرة على أطراف البلدة نأكل من ثماره، ونلعب في سواقيه، وكان لشريط الذكريات أن يستذكر سويعات هانئة جميلة كنا نقضيها معا لتقاربنا في السن، وما يجمعنا من الروابط الأسرية الممتدة لعقود من السنين، وهذه الذكريات الحبيبة آن لي استذكارها وأن كنت أحاول أن الم شتات ما تناثر منها لدى أصدقاء الطفولة ورفاق الدرب، وما تختزنه ذاكرة الأحبة من أبناء مدينتي الذين لا زالوا يحتفظون بالجميل منه، لذلك سأستذكر أخي الكريم وزوجته الفاضلة التي تربطنا بها الكثير من الوشائج والعلاقات الأسرية التي لن تمحوها الأيام. لقد كان للفقيد الكريم أطيب الذكرى في نفوسن، بما عرف عنه من سماحة ورقة وطيبة وخلق رضي ونفس سمحة وميل إلى الدعابة المحببة، عرفته صغيرا وفقدته كبيرا له أثره في المجتمع، فقد كان من الطلائع الوطنية التي أرست الأسس المتينة لبناء المجتمع، وكان مشاركا في الكثير من الأحداث والمناسبات الوطنية منذ نعومة أظفاره، بانحيازه لصفوف الكادحين والطبقات المسحوقة، عرف بجرأته وتفانيه وإخلاصه واندفاعه ومبدئيته، وكانت هذه الأمور وراء ما جرى من أحداث أدت إلى تشريد هذه العائلة الكريمة وأبعادها عن بلدها الحبيب وتغيبه في سجون النظام العاتي، لا لشيء إلا لمواقفه الوطنية وانحيازه السافر إلى الركب الوطني الخالد وطلائع الشيوعية التي قادت النضال الوطني لعقود، فكان مشاركا في الأحداث في سن مبكرة، بسبب شقيقه الأكبر الذي انتمى للحزب الشيوعي أواخر خمسينيات القرن الماضي، فكنا نحن الأحداث نكلف بعد تراجع الحكومة وتذبذب مواقفه، بلصق الشعارات على الجدران أو توزيع البيانات على المنازل، دون أن تستطيع السلطة مراقبتنا أو الإمساك بنا لما نحمل من شقاوة صبيانية وقدرات على الهروب والتخلص عند المطاردة، وكانت بيوت المدينة تلك الأيام مفتوحة للجميع لسلامة النفوس وطهارة الناس، وكان من يكبرنا في السن يطلب منا الوقوف والمراقبة والأخبار عند مجيء أحد عندما يقومون بالكتابة على الجدران، وكان الفقيد أبو كاميران معروف بالجسارة والجرأة فكان أكثرنا قدرة على تسلق أعمدة الكهرباء لتعليق البيانات في أعلا الأعمدة حتى لا يستطيع أحد أنزاله، وعندما أصبح في الثانوية كان من أكثر الاتحاديين حماسة في العمل مما أهله للحصول على العضوية في سن جد مبكرة، وبعد تخرجه عين معلما حسب العادة ، ونسب للعمل في بغداد البعيدة عن مدينته، فاضطر للسكن في غرفة في منطقة الحيدر خانة، كنت ألتقية فيها عند وجودي في بغداد، وكان على ما عهدته من الوفاء لمبادئه والقيم الشريفة التي آمن بها في سن مبكرة، ولم تتمكن السلطة العميلة من إسقاطه كما أسقط الكثيرون، وظل على ثباته مما جعلهم يضمرون له الكيد والأذى، حتى كانت الحرب الجائرة على إيران، فأهتبلوها فرصة للخلاص من شرفاء العراقيين وطلائعهم الثورية المناضلة، فكان في الوجبة الأولى من المسفرين إلى إيران، ليس لقوميته الفارسية كما يدعي النظام، ولكن لأنتماءهم الوطني ومعارضتهم للسلطة، وكانت الأحزان تعم المدينة المنكوبة لاحتجاز أبناءها وتسفير عوائلهم بهذه الحجج الواهية، رغم أن الجميع يعلم أن هؤلاء لم يكونوا فرسا وإنما هم عراقيون أصليون من أحبتنا الكرد الفيلية الذين ابتلاهم النظام وقلب لهم ظهر المجن لمواقفهم المناهضة له، وبسبب انتمائهم السياسي والمذهبي، وللأسف الشديد لم يستطع الكورد الفيلية لحد الآن الحصول على حقوقهم لأنهم لدى العرب فرسا ولدى الفرس عربا وهذه المعادلة أضرت بهم لأنهم لم يستطيعوا توحيد جهودهم والعودة إلى جذورهم الحقيقية بانتمائهم لقوميتهم الأم الكوردية، التي يستطيعون من خلال توحدهم خلفها نيل أستحققاتهم والحصول على حقوقهم فضاعوا بين المذهب والقومية وهذا هو الخطأ الكبير. وقد قام النظام البائد باحتجاز الشباب وتسفير النساء والأطفال وكان جابر بين المحتجزين، وكنا نتابع أخباره بعد احتجازه حتى ضاعت أخيارهم في سنة 1984 ولكن تواترت معلومات غير مؤكدة عن قيام النظام الساقط بإرسالهم إلى جبهات القتال في منطقة البسيتين وتقديمهم أمام الجيوش لتفجير حقول الألغام، فيما قضى البعض الآخر في التعذيب الوحشي الذي مورس معهم، أو في التجارب الكيماوية التي أقدم عليها النظام في صناعاته لأسلحة الدمار الشامل، وكنا نحاول تكذيب الأخبار على أمل خروجهم بعد سقوط النظام، ولكن بعد سقوط الصنم عرفنا الحقيقة المرة وصدقت المعلومات السابقة التي أشارت إلى تصفيتهم، وقد عادت زوجته بعد سقوط النظام إلى العراق على أمل العثور على زوجها بين الأحياء وعندما عرفت الحقيقة المذهلة اضطرت للعودة إلى إيران بعد أن كانت تمني نفسها وأبنائها بالعثور على والدهم الكريم، ولم التقي بهم بسبب رقودي في المستشفى تلك الأيام ، وللأسف الشديد فالحكومة العراقية التي تاجرت بقضية الشهداء والكتل البرلمانية التي زايدت بمأساتهم كانت وراء التهميش والإهمال الذي قوبلت به عوائل الشهداء، ولا زالت عوائل الكرام من شهداء الوطن تعاني الأمرين في حياتها بسبب تناسي الحقوق المشروعة لهم والمتاجرة بمعاناتهم من تجار الرقيق السياسي الذي أفرزته المرحلة الحالية لسياسيين لا هم لهم إلا أرضاء رغباتهم الخاصة والعناية بأتباعهم، وتناسي وقود الثورة التي أوصلتهم إلى الحكم، وما معانات الكرد الفيلية في العراق إلا جزء من معاناة جميع الشرفاء الذين تضرروا في مختلف العهود والأزمان لأنهم يعيشون بإباء وشمم في زمن تسلق فيه الانتهازيون سلالم المجد من الراقصين على جميع الأنغام. لك الذكر الطيب أيها الراحل الكريم فقد أثمر الغرس الذي غرسته وأينعت الثمار التي أملتها وهاهو ولدك الرائع يصارع عاديات الزمن ليزرع الأرض الحجرية، لتنبت الورود والأزاهير ليعطر رياها جنبات العراق الكبير.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |