إعادة الإعمار بين علمية التخطيط والعشوائية المتعَمَدَة

 

 

د. عبد علي عوض

بعد سقوط النظام الدكتاتوري مباشرةً طالبت ولا تزال تطالب الأقلام الوطنية بمختلَف مشاربها وقناعاتها بضرورة البدء بعملية إعادة الإعمار. وتنصب تلك المطالب في المجالين الخدمي والإقتصادي، بينما يجب أن تشمل العملية كافة المجالات الثقافية والعلمية والإجتماعية والرياضية وحتى السياسية إلى جانب الخدمات والإقتصاد. إنَّ تنفيذ هذا المشروع الجبار (إعادة الإعمار) يتطلب وضع الدراسات المستفيضة المبنية على أُسس علمية سليمة، وأعني الخطط المتكاملة المعتمِدة على القوانين والنظريات الإقتصادية والسيسيولوجية والبيئية، المُتَبَعة في الدول المتقدمة، مع الأخذ بنظر الإعتبار بعض الخصائص التي يتفرَد بها كل مجتمع دون غيره. إنَّ هدف التخطيط العلمي، هووضع الدراسات والحلول الناجعة للمشاكل القائمة في المجتمع، والخطط الإستباقية اللاحقة لما سيحدث في المستقبل من تغيّرات، تماشياً مع متطلبات المرحلة الزمنية وتفادياً لحدوث ظواهر اللاتوازن.

إنَّ العزوف عن كل ما هومركزي، لا يعني أنه شيء إيجابي، خاصة مع بلدٍ كان رازحاً لعدة عقود تحت نير نظام إستبدادي، والذي بطبيعته الدموية يفرز ذهنية الإنتقام والعنف لدى شريحة واسعة من المجتمع. وهذا بدوره يقود الى شيوع حالة الفوضى واللاقانون، وهوما يجري حالياً في كثير من مناطق العراق. لكي يكون نهج الدولة علمياً، على المعنيين أن ينظروا إلى تجارب الشعوب التي سبقتنا والتي كانت بالأمس تُحكَم من قِبل أنظمة شمولية وكيف أصبحت. وأعني بهذا بلدان أوربا الشرقية. فبعد إنهيار نُظُمها السياسية، سلَكت نهج اللامركزية في إدارة شؤونها في كل شيء، وعمَّت الفوضى بكل أشكالها ودَبَّ الفساد في كل مفاصلها وإنتَشرت الجريمة. وتحولت كلٌّ واحدة من مافية الدولة الى دولة المافيات، وهوما يحصل في العراق حالياً. فبعد أن وجدت حكومات تلك الدول نفسها غارقة في مستنقع حالة اللاقانون بسبب التفسيروالتطبيق المشوّه لمفهوم الديمقراطية (أفعلُ ما أشاء)، والحرية غير المقننة، تراجعت (الحكومات) عن مبدأ اللامركزية المطلقة وإستعادت الكثير من صلاحياتها وإتَبَعت أسلوب التخطيط المركزي المتضمِن لإستحقاقات ومطاليب المدن والأقاليم التي تتوافق مع الخطط العامة للتنمية بصورة متناسقة.

الذي أثاردهشتي هوتصريح نائب رئيس الجمهورية السيد عادل عبد المهدي من خلال التلفزيون، يطالب بالغاء التخطيط !. إنَّ هذا المطلب سيؤدي إلى..

 أولاً – تعميق إشاعة الفوضى والإستخفاف بالنظام المؤسساتي للدولة والذي هوفي طورالبناء.

ثانياً – سيطرة المافيات الحالية على المفاصل الإقتصادية وبالتالي إحكام قبضتها على النظام السياسي للدولة، وهذا يتنافى مع أسس الديمقراطية.

ثالثاً – تحول القطط السمان الى (فِيَلَة وحيتان)، لتحل محلها قطط سمان جديدة على شاكلتها. رابعاً – ستكون الطبقات السحيقة وهي غالبية الشعب العراقي بمثابة حقل تجارب لأولئك الذين يؤمنون باللامركزية المطلقة وفوضى الإقتصاد الحر من خلال محاولاتهم لتطبيق الوصفات الجاهزة كما هوسائد في بلدان أخرى، والبعيدة كل البعد عن العلمية وبالتالي ستكون تأثيراتها كارثية على تلك الشريحة المغلوب على أمرها.

لذلك من هنا يجب أن تشمل عملية إعادة الإعمارالمجالات التالية: -

1 – المجال السياسي: على الأحزاب والقوى السياسية التقدمية أن تأخذ زمام المبادرة وتنشط جماهيرياً، من أجل ترسيخ مفاهيم الديمقراطية وقدسية القانون والدفاع عن حقوق الجياع وحقوق المرأة والطفولة ومحاربة ظاهرة تنامي القطط السمان، وتفنيد الإدّعاءات والإفتراءات الموجهة ضدها من قِبَل القوى ذات الأفكار الظلامية المتخلفة، وإلاّ سيكون مصيرها كمصير القوى التقدمية الإيرانية !!! وستعود الدكتاتورية ولكن بنظامٍ عبوديٍ جديد.

2 – المجال الإقتصادي - عدم جعل المؤسسات الإقتصادية العراقية وبالذات القطاع العام حقل تجارب بسبب تطبيق الوصفات المستوردة بعد 2003 والتي حذَرتُ منها مراراً، وقد أثبتَت فشلها، وكمثال عندما أرادت الحكومة بيع مصانع القطاع العام بمكابرة فارغة، ثم تراجعت عن موقفها وقررت إعادة تأهيل عددٍ منها مثل مصنعي البتروكيمياويات والحديد والصلب. الخطة الناجعة للنهوض بهذا القطاع تتلخص في إعادة تأهيل جميع المصانع وتزويدها بالتكنولوجيا الحديثة، وهذا لن يؤثر على جذب الإستثمارات الوطنية والأجنبية، فالمجال مفتوح في القطاعين المختلط والخاص.

وفي القطاع الزراعي يجب أن يتم توزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين الفقراء وعدم السماح لعودة الإقطاع ثانيةً، لأنَّ في ذلك عودة لنظام القنانة، الذي يتنافى مع كل القيم الإنسانية والقوانين السماوية والوضعية التقدمية.

في القطاع المصرفي: يجب أن توضع قاعدة معلومات موحدة بين البنك المركزي وبنوك القطاع الخاص، لمعرفة الأموال الداخلة اليها ومصادرها والخارجة منها، منعاً لعملية غسيل الأموال وتهريبها الى الخارج.

3 – المجال العلمي: من الأفضل إلغاء الكليات ذات الإختصاصات المتشابهة كما هوحاصل في كليات الآداب والتربية والعلوم، والإنتقال إلى مرحلة أكثر تطوراً، متمثلة بفتح كلية لكل إختصاص، يعني تصبح الأقسام كليات، مثل كليات الفيزياء، الكيمياء، الرياضيات، اللغات، التاريخ، الجغرافية، الفلسفة...الخ

4 – المجال الثقافي: نشر وبناء المراكز والأندية الثقافية لمختلف الفئات العمرية، من أجل تنمية قدراتها الذهنية ورفع درجة التزامها الواعي تجاه شعبها.

وأخيراً على أصحاب القرار، إنْ أرادوا بناء البلد، فعليهم إنتقاء الكفاءات العلمية المخلصة المستقلة وغير المرتبطة بأي تيار سياسي، كي لا تكون حبيسةً لضغوطات القوى السياسية المتناحرة من أجل السلطة ولكي تؤدي دورها بجدارة.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com