عندما ننظر الى قواعد اللعبة الديمقراطية و مساراتها العامة في الدول ذات الأنظمة والتشريعات المتطورة، التي تعمل جاهدةً على صيانة أسس تلك المسارات و دون المساس بها، بحيث أصبحت شواخص حضارية مقدّسة، بالرغم من أنّ الكثير من مجتمعات تلك البلدان لاتمتلك جذور حضارية عريقة، لكنها عوضَت ذلك من خلال سَن القوانين التي أصبحَت مثالاً يُحتَذى به، لكونها لم تقتصرفي الدفاع عن قدسية الإنسان، و إنما تعدتها الى الحفاظ على كل ما له علاقة بالإنسان على الأرض والكون.
ففي مجال الإنتخابات البرلمانية والسلطة التنفيذية، تسعى مختلف الأحزاب السياسية ومن خلال برامجها الإنتخابية المُعلَنة إلى الترشيح و عن طريق الدعم المالي الواسع، والذي قد يصل إلى مبالغ خيالية أحياناً من قِبل مؤسسات مالية و صناعية و تجارية و إعلامية، شريطة أنْ تَتَسم تلك المؤسسات يمراعاتها للقوانين، و ألاّ تشوب نشاطها أية شائبة، تجعلها واقعة تحت طائلة القانون و بالتالي تؤثر على السمعة الجماهيرية لذلك الحزب الذي دعمته. وعندما يصل أي حزب الى سدّة الحكم، فإنه يعمل جاهداً على مراعاة القوانين و تطبيقها بوضوح دون التجاوز عليها. وبهذا النهج مع تلبيته لحاجات المجتمع، يستطيع و بثقة عالية أن يخوض الحملات الإنتخابية اللاحقة ويفوز بها ثمّ الإستمرار بالسلطة. و إنْ حصَلَت بعض الخروقات تصل لحد الفضائح، فإن قيادة ذلك الحزب تعلن إستقالتها، إحتراماً لمشاعرالناخبين خاصةً والشعب عامةً. والأمثلة كثيرة في هذا المجال، فضيحة وزير الدفاع البريطاني في الستينات مع المغنية البريطانية ( كريستين كيلر )، فضيحة ووترغيت و إستقالة نيكسون، إستقالة رئيس وزراء كوريا الجنوبية بسبب الفضائح المالية والذي ظهر يبكي أمام وسائل الإعلام، إنتحار وزير الزراعة الياباني والذي أدى إلى إستقالة رئيس وزراء اليابان.. والقائمة تطول. وهذا كله يبرهن أنّ سمعة الحزب و رصيده بين الجماهير هي أغلى من السلطة السياسية. إذا خسِر الحزب جماهيره فلن يستطيع العودة ثانيةً إلى ممارسة نشاطه، بسبب الرفض الشعبي له. أما السلطة فهي موجودة و بالإمكان الوصول إليها من جديد بالطرق القانونية الديمقراطية الصحيحة. أما ما يحدث في البلدان ذات الأنظمة المتخلفة والدكتاتورية فهو عكس ذلك تماماً. إذ تتم عملية الوصول الى السلطة بالقوة، وهي كوسيلة لبلوغ الهدف المتمَثل بالسيطرة على الموارد الإقتصادية و التحكم بها لصالح الطغمة الحاكمة خارج سلطة القانون. وما يجري في العراق، هو أنّ الأحزاب الإسلامية المسيطرة على الدولة، وجَدَت نفسها في مأزق، إذ أنها تعودت على حل المشاكل التي تواجهها بإحدى طريقتين، أما من خلال فوهة البندقية أو عن طريق الخُطَبْ و المواعظ الدينية، وهاتان الطريقتان لا تتماشيان مع مفاهيم و مباديء الديمقراطية. فمن أجل عدم فقدان السلطة وهي ( كوسيلة ) والتحكم بموارد البلد المالية وهي ( الغاية )، بَدأت تُطرح مفاهيم غريبة جديدة، ويصرح بها بعض القياديين من أجل الإلتفاف على العملية الديمقراطية والإستحواذ على ناصية الحكم. فنائب رئيس الجمهورية عادل عبد المهدي يدعو الى الفوضى الإقتصادية وتحت شعار ( الإقتصاد الحر )، وقائد منظمة بدر هادي العامري يقول بانّ حكومة التكنوقراط هي ليست حلاً للمشكلة. إنّ هذه الطروحات جاءت نتيجة إخفاقات الحكومات المتعاقبة بعد 2003 في كافة المجالات، و مطالبة الشعب بضرورة تسلّم التكنوقراط زمام إدارة الدولة من أجل الخروج بها من مآزق الفساد والجريمة والتخريب المتَعَمَد، ومنع تداخل السلطات الثلاثة وتجاوزها بعضها على بعض. نعم إنّ تلك التصريحات متوَقَعة، لأنّ الأحزاب الإسلامية لا تضم في صفوفها الأكاديميين ذوي الإختصاصات العلمية العالية، وإنْ تواجدوا، فإنهم القلّة القليلة، وقد أثبَتت التجربة العملية أنّ أداءهم كان ولا يزال محكوم بقرارات ومخططات أحزابهم وليس بمهنية الإختصاص.
السؤال الأخير : هو متى تغيّر تلك الأحزاب مفاهيمها و تجعل الوصول الى السلطة بالأساليب الديمقراطية كوسيلة من أجل تحقيق الهدف النهائي ألا وهو بناء البلد وتسخير موارده المالية لرفاهية الشعب و إزدهاره.