|
"احضر إلى الديوان وسئل عن الأموال فأمر بضربه، فضرب ثم أقعد فلم يعترف بشيء غير الظاهر، فأمر بقتله فضرب بالسكاكين والسيوف، وكان بالاتفاق في الديوان نجار جاء متفرجاً ومعه فأس فضربه عدة ضربات، ثم قطع إرباً إرباً، وتناهبه العوام، فتعمم نفاط بمصرانه، وطافوا به في شوارع بغداد ودروبها، ثم أحرق بباب جامع الخليفة ماعدا رأسه فسلخ وحشي تبناً، وطيف به في جانبي بغداد وحمل إلى واسط فعلق على جسرها". هذا وصف لمقتل الوزير مهذب الدولة كما ورد في كتاب العراق بين احتلالين لمؤلفه عباس العزاوي (ص 349)، لا ندري إن كان هذا الرجل مستحقاً الإعدام جزاء ما اقترفت يداه، لكننا نجزم بأن المشاركين في قتله والتمثيل بجثته بهذه الطريقة الوحشية خرجوا من الإيمان وتجردوا من كل القيم والأخلاق، بل حتى انسلخوا عن إنسانيتهم، ولعل بعضهم انجرف لذلك بفعل تأثير السلوك الجمعي، فكان انحرافه وقتياً ندم بعده، ولكن نرجح بأن النجار الذي ضرب الرجل بفأسه، والنفاط الذي عبث بأحشاءه، والمجهول الذي سلخ رأسه، واللعين الذي حشى الرأس تبناً متطبعون على الهمجية والعدائية والقسوة، بدرجة تهبط بهم من مستوى الإنسانية السوية إلى حضيض السادية والضداجتماعية antisocial personality، لم يكن أولئك الأوائل من نوعهم، كما يوجد بيننا اليوم – في بغداد وغيرها من مدن وقرى العراق- أفراد لا يقلون سادية ووحشية من ذلك السلف، ولو كانت كل ميتة فظيعة تستحق التدوين في كتب التاريخ لملأ المؤرخون مجلدات عن وقائع العام المنصرم فقط، ومادام هنالك وقحون لا يتورعون عن اقتراف الفظائع فلن يهنأ للمؤدبين عيش أبداً، مما يحتم علينا البحث عن جذور هذه الوقاحة المتناهية ضمن المجتمع العراقي. كان قابيل وقحاً لدرجة سولت له نفسه قتل أخيه المؤدب هابيل، لذا فمن المحتمل أن يكبر أخوان ليكونا ضدين تماماً، ولكن الإنسان يولد على فطرة سوية، ومن ثم يترعرع في بيئة عائلية وإجتماعية تغرس في نفسه قيماً ومباديء أخلاقية ومعتقدات، وقد تتضافر هذه القيم والمباديء مع الفطرة السوية أو تناقضها، و تترسخ المحصلة النهائية لهذه القوى الفطرية والإجتماعية والدينية بصورة إتجاهات وسلوكيات ضمن شخصية الفرد، وللمؤسسات الرسمية التي ينخرط فيها الفرد مثل المدارس والجامعات أو يعمل فيها مثل الإدارات الحكومية وكذلك للمؤسسات التي تمتلك سلطات تحديد المخالفات السلوكية ومحاسبة الأفراد المنحرفين مثل الحكومة والقضاء دور رئيس في التأثير على سلوك الأفراد بدرجة كافية لتشجيعهم على السلوك المهذب الحضاري ولردعهم عن التصرف بعدائية ووقاحة تجاه الآخرين، فعلى سبيل المثال يحاسب الفرد قضائياً في بعض المجتمعات الغربية لمجرد التهديد بالاعتداء. البحوث والدراسات العلمية المتوفرة عن المجتمع العراقي قليلة جداً، ونتائجها الموثقة غير كافية لرسم صورة محددة وواضحة المعالم للشخصية العراقية، وحتى الدراسات الانطباعية معدودة، فقد اعتمد الدكتور علي الوردي على البيانات التاريخية ومشاهداته وخبراته الشخصية في تحليل المجتمع والفرد العراقي، وبسبب ندرة المعلومات الدقيقة حول هذا الموضوع فلابد من اعتبار الملاحظات الواردة في هذه المقالة مجرد افتراضات بحاجة إلى اختبار من خلال طرق المنهجية العلمية. تدعوا القيم الدينية والاجتماعية السائدة في المجتمع العراقي للتعامل المؤدب والمهذب بين الأفراد، ويتولى الأبوان غرس هذه القيم الحضارية في نفوس أولادهما من خلال القدوة الحسنة والتوجيه والتحفيز، كما يتوقع من المؤسسات التربوية والاجتماعية الحفاظ على هذه القيم وإدامتها، ومع التسليم بأهمية الخيارات والتجارب الفردية في تبني وممارسة القيم الاجتماعية فإن التزام افراد المجتمع بالقيم الحضارية مرتبط إلى حد كبير بموقف المجتمع منها، فكلما تبين للفرد وبطرق عملية بإن المجتمع يرضى عنه ويكافئه إذا مارس هذه القيم ويسخط عليه أو حتى يعاقبه إذا خالفها فإن من المحتمل أن يتعزز إلتزام وممارسة الفرد بها. من الواضح بأن معظم العراقيين اجتماعيون ومؤدبون، ولكن في نفس الوقت يوجد بينهم أعداد غير قليلة من الأشرار غير المهذبين، وعلى امتداد تاريخ العراق الحديث ومنذ انسلاخه عن الدولة العثمانية توفرت أدلة عملية غير قابلة للشك على وجود وانتشار هؤلاء الأفراد غير المهذبين، ونكتفي بذكر أمثلة دالة على ذلك، من أبرزها مقتل أفراد العائلة المالكة العراقية، بما فيهم النساء والأطفال، والتمثيل بجثة الوصي الأمير عبد الآله بطريقة همجية، ولعل العراق البلد الوحيد عبر التاريخ الذي أصبح فيه حبل السحل رمزاً سياسياً علنياً، وطيلة حكم القوميين للعراق والذي دام أربعة عقود من السنين مارسوا بحق المعارضين وحتى المشكوك بولائهم أبشع صور الوحشية، والتي بلغت ذروتها في حملات الإبادة الجماعية اثناء العهد البعثي الفاشي، وقد برهنت الأعمال الإرهابية البربرية التي حصدت ارواح مئات الألاف من العزل الأبرياء في السنوات الأربع الماضية بطلان فرضية كون الطاغية صدام حسين ورهطه الأشرار الاستثناء الوقح على غالبية العراقيين من المؤدبين، والظاهر أن عدد الوقحين في المجتمع العراقي غير قليل، وكان لأفعالهم عبر تاريخه الحديث بالغ الأثر على أحوال هذا البلد وشعبه، ولا بد من التوقف عند هذه الظاهرة وتحديد أسبابها، ما يهمنا بالتحديد معرفة إن كان للمؤسسات الإجتماعية دور ما في ظهورها وانتشارها وسيطرتها. إن مجرد وجود ظاهرة الوقحين بهذه الكثافة العددية والتأثير الواسع يحتم علينا التشكيك بصحة بعض المسلمات عن المجتمع العراقي ودور مؤسساته والقوى الديناميكية المؤثرة في اتجاهات وسلوك أفراده، ونبدأ بالتنشئة العائلية، هنالك افتراض عام بأن الأباء العراقيين يربون أولادهم على الأدب والأخلاق الحميدة، ومن المؤكد بأن الأباء العراقيين يجهرون بتمسكهم بقيم الأدب والتعامل الحضاري بين أفراد المجتمع، والدليل على ذلك ما يتردد على ألسنة العراقيين في وسائل الإعلام ومجالسهم العامة والخاصة من كونهم جميعاً أخوة متحابين لا يضمرون لبعضهم البعض سوى الخير، ونجزم بأن العائلة العراقية تنشيء أبناءها على احترام وطاعة أبويهم والتعامل بأدب مع أقاربهم وجيرانهم، وهذا الأمر ضروري لضمان خضوع الأبناء لسلطة الوالدين، وبالذات الأباء، ومعاملتهم بكل احترام، وغالباً ما يستعمل الأباء أساليب عنيفة في غرس هذه القيمة في نفوس أولادهم، أي أنهم يعلمونهم على "الأدب" من خلال الضرب، الذي قد يكون أحياناً مبرحاً، كما يهان الأبناء ويسمعون الكلام القارص إذا بدر منهم ما يراه الأبوان قلة أدب، وقد لا يكون للقدوة الحسنة والقيم الدينية دور كبير ومؤثر في هذه العملية، فمن المحتمل أن يشهد الأولاد معاملة أبيهم لأمهم أو غيرها بطريقة "غير مؤدبة"، كما يندرأن ينصح الأباء أبناءهم بالحكمة القرآنية: إذا خاطبهم الجهلاء قالوا سلاماً، ونستبعد أن يدير عراقي خده الأيسر لمن يصفعه على الخد الأيمن، ولو فعل احدهم ذلك لصنفه الآخرون، بما فيهم أفراد عائلته، مع "المخنثين"، لذا يغلب على مفهوم التأدب في العائلة العراقية الطاعة للأبوين وأصحاب السلطة وما تتطلبها من خضوع بالقول والفعل. يتبين من هذا التحليل وجود إزدواجية في القيم، فالمطلوب من الأبناء طاعة أباءهم ومعاملة أفراد أقاربهم الأكبر منهم سناً ومقاماً بإدب واحترام، وفي نفس الوقت فإن قيم المجتمع الاخرى تدعوا الفرد إلى الحفاظ على كرامته وحقوقه من تجاوزات الغير، ونتيجة الترسبات القبلية في الشخصية العراقية والاستهانة بسلطة القانون وضعف الوازع الديني يضطر الفرد للجوء لقدراته الذاتية لحماية نفسه من العدوان، فلو تعرض أحد المارة لإعتداء بالسب والشتم من قبل آخر فعلى الأغلب لن يجيبه تأدباً بـ"سلاماً"، أو "الله يسامحك"، كما لن يبحث عن شرطي ليشتكي إليه، بل سيبادل المعتدي بالمثل، وقد يستعمل يديه لإيقاف اعتداءه و"تأديبه"، ولو حضرت الشرطة لفض النزاع فلن نستغرب لو انهالوا على أحد الطرفين أو كليهما بالضرب لـ"تأديبهما" هذا بالطبع لو كان الطرفان متعادلين في القوة والنفوذ، ولكن لو كان أحدهما مدني والآخر ضابط فعلى الأغلب سيسكت المدني على اعتداء الضابط لأنه الطرف الأضعف، وأثناء العهد الملكي عامل بعض شيوخ القبائل أفراد قبائلهم بقسوة مفرطة، ولم يكن بمقدور هؤلاء القبليون الرد على إهانات شيوخهم أو مقاضاتهم، ولحفاظ ماء وجوههم كانوا يرددون بأن الشيخ هو "أب القبيلة" كلها، ومن حقه أن يؤدب أفرادها بالضرب والصفع كما يؤدب الأب أبناءه، ونستدل من هذه الأمثلة على أن ميزان القوة يؤثر بصورة أكبر من قيم التأدب والاحترام المتبادل على السلوك الفردي والعلاقات بين أفراد المجتمع العراقي، مما يجعل من الصعب أحياناً التمييز بين التأدب بدوافع قيمية سامية والخنوع المقنع بالأدب. كان الطاغية صدام حسين نموذجاً في الهمجية والوقاحة المفرطة، ويعزو البعض ذلك إلى بيئته العائلية التي ترعرع فيها، وقد استعمل هذه الصفة الشريرة في بلوغ أغراضه الأنانية بكفاءة عالية، فلولاها لما تمكن من التسلق بسرعة إلى قمة هرم حزبه الفاشي، كما استفاد منها في التخلص من منافسيه داخل الحزب والاستئثار بالحكم، ولكونه لا يمتلك أي مهارة قيادية اعتمد على وقاحته في سوق مئات الألاف من العراقيين إلى سوح القتل ضد إيران ولثمانية أعوام ومن ثم لاحتلال الكويت، ولأن العراقيين متطبعون على طاعة الأباء وكل الأقوياء تحملوا حصاراً اقتصادياً خانقاً من دون تذمر علني. وبديهياً لم يكن بمقدور الطاغية الامساك بزمام العراقيين تحت ظروف حرجة لربع قرن من دون أتباع مخلصين، والغالبية العظمى من هؤلاء الأتباع الوقحين الذين يعدون بالملايين اختاروا الانضمام لحزب البعث طواعية، سواء اقتناعاً بأهدافه وسياساته أم طلباً لمصالح شخصية، ولم يجد الكثيرون منهم ضيراً في التصرف بوقاحة امتثالاً لأوامر الطاغية وحزبه، فلم يترددوا في التجسس على رفاقهم وجيرانهم والوشاية بهم، وشاركوا في حملات أجهزة المخابرات والأمن لمطاردة المعارضين والهاربين من الخدمة العسكرية، وتحملوا وزر سفك دماء مئات الألاف من العراقيين المدنيين في حملات الإبادة الجماعية وعشرات الألاف من المقاتلين الإيرانيين المدافعين عن بلادهم ونظامهم الإسلامي، واقتراف أتباع الطاغية هذه الجرائم المنكرة دليل على ضعف أو انعدام تأثير القيم الإسلامية والاجتماعية السامية على سلوك شريحة كبرى من المجتمع العراقي، فهل كان العراقيون آنذاك على دين طاغيتهم؟ مع التسليم بقوة تأثير الحاكم على سلوك الرعية فإن من المؤكد بأن انصياعهم لأوامر الحاكم التي تخالف منظومة مجتمعهم القيمية ناجم عن ضعف تأثير هذه القيم، ولأن فرداً واحداّ ومهما أوتي من قوة غير قادر على التحكم بسلوك آخرين فمن الواضح أن الطاغية لم يستحدث "الوقاحة" في سلوك العراقيين، بل استغل وجودها في بنية المجتمع وشجع على ظهورها وتطبيقها، ويرد إلى ذهني سلوك موظف عملت معه قبل مغادرتي العراق في أوائل الثمانينات، وقد بلغت الوقاحة به حد تنشأة إبنه على منتهى السلوك القبيح، ففي أحد الأيام اصطحب إبنه إلى العمل، وأمام زملائه المصعوقين راح يتبارى مع إبنه الصغير في تبادل أقذع السباب والشتائم، وعندما سألوه باستهجان عن ذلك أجاب بأنه تعمد تعليم إبنه العدائية والسباب لأن في المجتمع العراقي إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب، فيما بعد التحق هذا البعثي بوزارة الخارجية، ولعله الآن مسئولاً كبيراً فيها وإبنه قائداً للإرهابيين الطائفيين، وتؤيد هذه الحالة وغيرها افتراضنا بأن هذه الوقاحة متجذرة في المجتمع، وبالتحديد في الرواسب القبلية، والتي عمد الطاغية صدام وحزبه على تنشيطها. تقع المسئولية عن معالجة ظاهرة الوقاحة، التي عصفت ولاتزال بالمجتمع العراقي على كافة مؤسسات المجتمع، فمن المؤكد بأن على العائلة وبالتحديد الأبوين تنشأة أبنائهما على التعامل المهذب والحضاري مع كافة الناس، وفي نفس الوقت التحلي بالشجاعة والإقدام والجرأة في التصدي لأي محاولة اعتداء على حرياتهم وحقوقهم واللجوء للسلطات الحكومية والقضائية لفض الخلافات والنزاعات، ولكن نجاح العائلة في غرس هذه القيم السلوكية في نفوس أبنائها متوقف إلى حد كبير على أداء مؤسسات المجتمع الآخرى لأدوارها المتممة، فمن الضروري أن تعي المؤسسات الدينية ضرورة توجيه الأفراد بالوعظ والقدوة الحسنة إلى ممارسة القيم الأخلاقية الدينية السامية، من خلال إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللمؤسسات الحكومية تأثير حاسم في تطوير سلوك الأفراد، فعندما تقدم الحكومة على الخضوع للأجنبي المحتل ومصالحة الإرهابيين والقتلة والعفو عن جرائم جلادي وجلاوزة البعث والتهاون في محاكمتهم وتنفيذ الأحكام الصادرة بحقهم وتوظف الانتهازيين والوصوليين وتسكت على الاختلاس والرشوة والفساد فإنها ترسل رسالة بليغة للجميع بأن القوي هو الأجدر بالطاعة ولو كان أجنبياً لا تجوز موالاته شرعاً، وتطمأن القاتل بأنه لن يقتل بعد حين، وبأن الإرهابي قد ينجو من العقاب بالتستر وراء حصانة برلمانية، وبأن للمختلس فرصة الفرار لبلد آخر قبل ملاحقته، والمزور سيعتلى منصباً رفيعاً مادام موالياً للحكومة، وبأن اقصر الطرق لحصول الموظف الحكومي على كفايته من المال وأكثر هي الرشوة، ولهذه كلها تأثير معاكس ومهدم للقيم الحضارية، بل إنها تعد استمرارية للنظام الطاغوتي السابق في تشجيعه للوقاحة في الفكر والسلوك، وسواء كان العراقي متديناً ملتزماً وبغض النظر عن مذهبه، أم ليبرالياً علمانياً، فلابد من تذكيره بأن الهدف الأسمى للرسالات السماوية وكذلك الحضارات الراقية هو حفظ كرامة وحقوق الأفراد وسيادة الشرع أو القانون، وكما أن كل الناس بما فيهم الأنبياء المرسلين خاضعون لشرع الله فكذلك ليس لأي قائد سياسي التلاعب بالقانون وحرمان فرد واحد من حقوقه، وعندما يتحقق هذا الشرط سيشعر جميع العراقيين بالأمن والاطمئنان وتختفي الوقاحة من المجتمع العراقي.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |