معاهدة لشبونة : هل ستجّدد حياة الاتّحاد الاوروبي؟
 

 

 د. سّيار الجميل

www.sayyaaljamil.com

قبل ايام قلائل، عّبر زعماء الاتحاد الاوربي (27 عضوا) عن غبطتهم ونجاحهم بعد جدل سياسي استمر طويلا، بالتوقيع في لشبونة على وثيقة تاريخية لمعاهدة جديدة سميت بمعاهدة لشبونة من اجل اصلاح مؤسسات الاتحاد والانتقال بمشكلاته من قضايا تنظيمية الى مؤسسة فاعلة واخذ زمام المبادرة. وتتلخص اهدافها بالسماح لهم ان يتحركوا بقوة وفاعلية اكبر ازاء القضايا الدولية خصوصا اذا كان هناك ثمة تغيير في طريقة عمل الاتحاد، فضلا عن تسريع عملية اتخاذ القرار في الاتحاد الاوروبي الآخذ في الاتساع، وخلق منصب رئيس للمجلس الاوروبي ومنصب رئيس للشؤون الخارجية للاتحاد، واصلاح نظام التصويت، والتخلص من حق قرار النقض (الفيتو) في الكثير من المجالات.

لقد كانوا قد توصلوا بالاتفاق النهائي على ان تكون هذه المعاهدة بديلا للدستور الموحد الذي تّم التخّلي عنه لما كان الشعب في كل من فرنسا وهولندا قد رفضاه باستفتاءات عام 2005. ان هذه " المعاهدة " الجديدة ستكون سارية المفعول فور المصادقة عليها رسميا من قبل برلمانات الاتحاد الاوروبي، وسوق يستحدث بموجبها منصب رئيس للاتحاد مدة ولايته عامان ونصف العام، ومسؤول عن السياسة الخارجية يفوض بصلاحيات اوسع بكثير من هذه التي منحت له. فضلا عن ان المعاهدة الغت استخدام حق الفيتو في سياسات عديدة.

ثمة اسباب حقيقية تكمن وراء تجديد حياة هذا الاتحاد الاوربي الذي احتفل بعيد تأسيسه الخمسيني مستهل هذا العام ليس بسبب كهولته او بسبب عدم تقبّل دستوره، بل بسبب المتغيرات الجديدة في السياسات الاوربية حيال الدور الامريكي ورحيل جيل سياسي قديم كان باستطاعته ان يقول (لا) للولايات المتحدة، وكان شيراك ـ مثلا ـ آخر من يمثلّهم، اذ بدا ساركوزي نقيض سلفه.. اما الامريكيون، فسوف لن يحتفلوا بتجديد اوروبا اتحادها، ليس لأنهم يرونها عجوزا متصابية، بل لكونهم يجدونها تصفق لهم ولا تخالفهم ما يريدون.. وعليه، فان زعماء الاتحاد الاوربي لن يجعلوا هذه " الوثيقة " بديلا ! اذ تفادت الاتفاقية عقبة طرحها للاستفتاء الشعبي من خلال نصها على انها "تعدل" ولا "تحل محل" معاهدات الاتحاد الاوروبي الحالية.

لقد فرح الزعماء الاوربيون بالتوقيع على هذه " الوثيقة " التي اعتبروها خطوة تاريخية وانجازا عظيما بعد ان مني مشروع دستور الاتحاد الاوروبي بالتعثّر والاخفاق مما اسفر عن ازمة دستورية تناثرت معها علامات من الاستفهام حول مستقبل الاتحاد واستمراره كمظلة اوروبية. ولكنني اعتقد ان لا خيار آخر امام اوروبا الا المضي قدما من اجل توحيد كتلتها الجغرافية ومظلتها الاقتصادية، كي تبقي دورها نشيطا ومتلازما ازاء كل من الجبروت الامريكي والمارد الاسيوي.. نعم، ان الاوربيين سيقابلون هذه الوثيقة بالارتياح، ولكنهم لن يجعلونها مخلصا لهم بالوقوف كتلة متحدة حقيقية كما كانت عليه سابقا... ويبدو ان ايرلندا هي الدولة الوحيدة التي تعتزم اجراء استفتاء على المعاهدة، وسيختلف الناخبون بشأنها او انهم سوف لا يبالون بها.

استطيع القول، ان مناقشات صعبة وساخنة ستشهدها برلمانات بريطانيا وهولندا والدانمارك بشأن بنود المعاهدة الجديدة، وهل انها تتعارض مع سيادة الدول الاعضاء ومصالحها؟ وانني اعتقد ان الدول الاوربية الفقيرة التي كانت ضمن المنظومة الاشتراكية سابقا ستصفق لها لضمان مصالحها، ولكن دول غربي اوربا القديمة ستجد " المعاهدة " خطوة جديدة لقبول سياقات العصر الامريكي للمرحلة القادمة ! ولعل اول المصفقين في هذا الميدان كل من المانيا وفرنسا وبولندا وكلها تعهدت بالمصادقة وامكان تطبيقها في العام 2009 كما اقر المؤتمرون في لشبونة. وعليه، فان بعض حكومات اوروبا ستواجه ضغوطا في بلدانها بسبب الوثيقة الجديدة.

ان وثيقة لشبونة هي نسخة مخففة من الدستور الاوربي ولكن بتواضع العنوان وبتجاهل اي رمز من رموز الاتحاد كالعلم والنشيد.. انها صيغة نص لا تساوي النص السابق وتتجاوزه بتسمية الاصلاحات (تغييرات) لبعض مواد دستورية سابقة. ان المقصود بها : تسهيل آلية صنع القرار في الاتحاد، بالغاء حق الفيتو في خمسين من الامور السياسية بما في ذلك قضايا حساسة وشائكة كالشرطة والتعاون القضائي فضلا عن مفوضية للسياسة الخارجية تكون مسؤولة عن ميزانية كبرى والاف الدبلوماسيين. فهل ستضمن هذه الوثيقة انتاج صوت موحد لاوربا في العالم، ام انها ستشهد تنافسات تكون بداية انقسامات اكبر في المرحلة القادمة ليقول العالم ان المرحلة الذهبية قد ولّت دون رجعة؟ ام ان مرحلة ماسية ستتبلور في تاريخ اوروبا ابان القرن الواحد والعشرين؟ وهل ستنفع تمنيات خوزيه مانويل باروسو رئيس المفوضية الاوربية للزعماء الاوربيين ان يستخدموا الوثيقة لجعل الحرية والرخاء والتضامن واقعا معاشا يوميا ! ولقد خرجت كل من ايطاليا وبولندا والنمسا ببعض المكتسبات.

من جانب آخر، هل باستطاعة الاوربيين مشاركة الافارقة بأي استراتيجية جديدة تضمن ولاء افريقيا لاوروبا؟ ام ان الاوربيين سيشعرون ان اتحادهم يحمّلهم اعباء جديدة مستقبلا لاسباب سياسية واستراتيجية بعد تحّمل اعباء دول المنظومة الاشتراكية المنهارة؟ وعليه، هل سينجح هذا " المشروع " الجديد في دوامة العصر.. ام ان مصير الوثيقة سيلحق بمصير وثيقة لشبونة حول مشروع المتوسطية الذي راهنت دول اوربا عليه في تسعينيات القرن العشرين؟

اخيرا،ان العام 2008 سيحدد مسار الاتحاد الاوربي نحو 2009 حيث تنتظرنا مفاجئات تاريخية كبرى كما اتوقّع.. المهم ايضا الدور الامريكي حيال المتغيرات الجديدة التي تريدها لصالحها في استراتيجيتها العولمية. السؤال الاخير الذي اود لفت الانظار اليه: الا تستوعب منطقتنا في الشرق الاوسط او منظومتنا العربية اليوم كل هذه الدروس للتعلم منها في تكوين ادوات المستقبل؟

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com