|
يبدوجلياً استمرار حالة التشابك والغموض بين مفردات العولمة الثلاث : (مفهوم العولمة وظاهرة العولمة ومصطلح العولمة)، وكذلك الخلط المتعمد بين مفهوم العولمة والعالمية، ولفض حالة التشابك والخلط هذه يجب السير جنبا الى جنب مع تلك المفردات منذ الولادة حتى يومنا هذا، ومن ثم وضع تعريف واضح ومحدد لتلك المفردات ووضع الحد الفاصل بين مفهوم العولمة والعالمية بعد تسليط الضوء على الاسباب التي دفعت البعض الى هذا الخلط المشبوه بين المفهومين . وفي البداية سعينا الى لملمة اجزاء لوحة العولمة بين زوايا الضواهر والمفاهيم والمصطلحات التي يمكن ان تلمس خطوطا عامة لهذه اللوحة والتي تشير بدورها الى وجوب توافر عدة عناصر تأسيسية لموضوع بحثنا هذا ومن بين هذه العناصر، هوتفرد امة ما بمقدرات الشعوب والشعوب المجاورة لها على اقل تقدير وسط حالة من التردي والانحطاط تحيط هذه الشعوب المغلوبة ووصول هذه الامة المهيمنه الى مرحلة متقدمة من تقسيم العمل وهيمنة تجارتها الخارجية على الاسواق المجاورة وبلوغ المؤسسات والتقنيات العسكرية حدودها القصوى وسيادة الاصوات القائلة ان لخط الحياة المتبعة عند هذه الامة هوسر نجاحها وهيمنتها ووجوب تعميم هذا النمط على بقية الامم والشعوب واعتماد الاساليب القصرية في هذا التوجه غير ان مساحة امتداد هذه العولمات كانت تختلف من امة الى امة ومن مرحلة الى مرحلة حسب الامكانات المتوافرة لعملية العولمة، ففي الالف الثانية قبل الميلاد يضهر جلياً تأثيرات الامبراطورية الاشورية على منطقة الهلال الخصيب وشمال الجزيرة العربية الى المناطق الشرقية والشمالية الامبراطورية ابتداءا من جنوب غرب ارمينيا مروراً بايران ووصولاً الى ديار بكر عند هضبة الاناضول . وهيمنة الحرف المسماري وسيادة اللغة الآرامية والمعتقدات والقوانين الرافدية على الشعوب الخاضعة لتلك الامبراطورية ولم تختلف الحقبة البابلية الثانية عن المرحلة الاشورية سوى سيادة التماسك في المنطق الامبراطوري في التعامل مع الاخرين وبعد مراحل عدة لم يتسن لقوة ما التفرد بمقدرات العالم القديم، تصدت روما الامبراطورية لقيادة العولمة وبطريقتها المدهشة،فمع وصول ضاهرة تقسيم العمل ووصول العلوم العسكرية على اوجها سادت روما العالم وساد معها نمط حياة الامبراطورية الرومانية على العالم وسارت الدوله البيزنطينيه على خطى روما الامبراطورية رغم التعثر والعلل المزمنة في هذا الجسد الجديد . وبالأمكان اعتبار التتريك والفرنسه وربط دول المستعمرات البريطانية برابطة الكومنولث احدى اشكال العولمة لكن بمظاهر تتناسب مع متطلبات تلك المراحل من عمر هذه الظاهرة الانسانية، غير ان ايا من تلك المراحل لم تحظ بالامكانات والفرص التي توافرت لهذه المرحلة الراهنة والتي بدأت مع منتصف الثمانينات من القرن الماضي . وقبل الولوج مرحلة العولمة في الحقبة الامبريالية يجب ان يفهم تماما ان عملية العولمة هي ضرورة تاريخية لسلوك توسعي بلغ اوجه تدفعه قناعات راسخة في ان عملية فرض نمط حياتها على الاخرين هوامر حيوي لاترف حضاري يمكن الاستغناء عنه . وعند العودة الى العقد الثامن من القرن العشرين ومرور بمكونات تلك المرحلة نلحظ انها شهدت انعطافات مهمة في تاريخ الشرية فقد لاحت في الافق وبوضوح ملامح الانهيار المؤسساتي للمنظومة الاشتراكية وعودة هيمنة الخطاب الليبرالي على الساحة السياسية في العلاقات الدولية واستبدال المفاهيم والمفردات الثورية بمفردات الديمقراطية وحرية التعبير والتداول السلمي للسلطة هذا بالاضافة الى ارتفاع الاصوات الداعية الى الحد من تدخل الدول في الحياة الاقتصادية بعتبارها معوقا كبيراً في التقدم ونمواقتصاديات الشركات المتعددة الجنسيات والتي كانت في مراحلها الاولى وبعد ان غادرت الاسلوب الكنزي في ادارة الحياة الاقتصادي وبلوغ وسائل الاتصال وتقنيات المعلومات عتبة تجاوزت معها الحدود القومية للبلدان والدول بالاضافة الى الانهيار المدوي لعدد كبير من المحاولات التصنيعية الهادفة الى الاستقلال الكامل في البلدان النامية وكانت على وشك ذلك . دون الحاجة الى استعراض التقدم الهائل للالة العسكرية نوعاً وكماً وبروز الحاجة الملحة الى تأمين مصادر الطاقة في منطقة الشرق الاوسط والحفاظ على الاسواق الرأسمالية التي تمتد طرديا مع تمدد الجسد الصناعي للدول الرأسمالية وبما يفوق الحاجات الحقيقية للأسواق الداخلية والخارجية، لذا اصبح من الملح البحث عن مخرج وكان ذلك المخرج هواعادة تشكير خارطة الاسواق ومصادر الطاقة وربما يتناسب والحاجات الملحة للشركات المتعددة الجنسيات التي اصبحت في مطلع تسعينات القرن الماضي حقيقة فجة لايمكن الهروب منها، لا العكس كما في السابق والذي فرض بدوره ان يكون كل من المنتج والمستهلك شيئا واحدا موحدا رغم المسافة الشاسعة بين دوافع الاول ودوافع الاخير في سعيه الحثيث لاشباع حاجاته التي تكفل له البقاء . فمع تصدير الصناعات القديمة الى البلدان النامية مروراً بتصدير الصناعات المشرفة على الافلاس الى البلدان النامية لاستثمار فارق الاجور الكبيرة بين الايدي العاملة الغربية المكلفة والايدي الرخيصة في البلدان الفقيرة وصولا الى توحيد الانماط الاستهلاكية الكاذبة والتي لاترتبط بالحاجات الفعلية للمستهلك بقدر ارتباطها بالحاجات المشبوهه للشركات المنتجة استطاعت العولمة الناشئة خلق واقع اقتصادي يأكل السريع فيه البطيء كما يأكل القوي الضعيف في حلبة الصراع والمنافسة الاقتصادية في فجر البرجوازية الصناعية في القرن الثامن عشر، ومن نتائج هذا الواقع الاقتصادي الجديد، تفردت مجموعة من الشركات العابرة للقارات باحتكار اسواق الانتاج ومجالات الاستهلاك ومكامن الطاقة بالاظافة الى احتكار اسواق العمل والاجور وبما يلائم توجهات تلك الشركات والتي تسعى كما ألفناها الى ضغط حجم الاجور من خلال تقليص اعداد القوى العاملة وضغط الاجور والهروب من ازمتها المزمنة في الفائض المنتج وتقلص الاسواق وارتفاع اسعار الطاقة الأحفورية (النفط والغاز ......... الخ) . بالهروب الى الامام من خلال خلق دوافع استهلاكية كاذبة اضافية وخلق اسواق جديدة بازاحة الاخر بشتى الطرق الممكنة للاقتصادية والعسكرية اذا دعت الضرورة، وتحويل كل الامم والشعوب النامية الى مجرد كومة هائلة من الامعاء والاعضاء الهاضمة لاستهلاك ما ينتجه الغرب، فيصبح ثمن حرية التنافس الحر الذي دافعت عنه الرأسمالية هوالقضاء على التنافس والتفرد بالمستهلك افراداً وشعوبا تحت شعار القرية الكونية الحرة والمجتمع الانساني الخالي من الانظمة التعسفية والمجتمع الانساني السعيد، والخلط الخبيث بين مفهوم العولمة والعالمية .. فاذا استطعنا ان نستنتج من السطور الماضية ان العولمة هي ظاهرة تاريخية ملازمة للحضارات الانسانية ومحاولة الامم المهيمنه فرض نمط ونموذج حياتي واحد على كافة الامم والشعوب الخاضعة لها وراء ضرورة اقتصادية وعسكرية ملحة تجعل من الحاجات الانسانية شعاراً لها لاحكام السيطرة على مشروع العولمة وقيادة الشعوب . نجد ان العالمية هي ذلك اللقاء الحر بين مختلف الشعوب والاديان والقوميات وسط هذا التفاعل الحضاري الذي يأخذ اشكال عدة منها التفاعل الاقتصادي والفني والعسكري في احيان عديدة دون ان يفقد اطراف هذا التفاعل هويته الخاصة . وبأختصار يمكن وصف العالمية هوالاعتراف المتبادل بين (الانا والآخر) وسط هذا الاحتكاك الحضاري الهائل الذي يضفي الى مزيد من الاثراء لكلا الطرفين من دون الحاجة الى البحث عن عدومفترض لاثبات الذات والبحث عن الانصار في الوقت الذي تبحث فيه العولمة عن عدوما لتصدير ازماتها المزمنة التي لا يمكن التخلص منها الا برميها في ساحة العدوخلال عملية الصراع غير المتكافئة . وبناء على ما تقدم يمكن القول ان مفهوم العولمة هوالتعبير الايدلوجي لمنظومة البناء الفوقيه للمجتمعات الرأسمالية في مرحلتها الامبريالية التي لم تحدد اصطلاحاً لعدم اكتمال الخطوط العامة لهذه الظاهرة واخذها لملامح المرحلة الراهنة بالاضافة الى محاولة البعض افراداً ومؤسسات التشويش حول كل ما يتعلق بالعولمة وتمزيق العولمة ظاهرة ومفهوما واصطلاحا بين ادوات تشريح العلوم الاجتماعية متناسين ان هذا التمزيق المتعمد لايمكن ان يغير من حقيقة كونها ظاهرة انسانية بغيضة ملازمة للتاريخ تحمل بين طياتها عوامل اضمحلالها وفنائها المؤكد .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |