|
في حوار ثري مع واحد من اصدقائي تجاذبنا اطراف الحديث عن العالم ومتغيراته الصعبة والسريعة والمذهلة، وأخذنا الحديث عن سيدة العالم اليوم التي نجحت في السيطرة على اغلب المجالات الحيوية في العالم.. واغلب شعوب العالم قد ادركت حجم تلك"السيطرة"التي انتقلت بالولايات المتحدة الامريكية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية من صراع سياسي ( امبريالي ) في النفوذ والهيمنة والمصالح الى صراع اقتصادي ( كابيتالي ) في النفوذ والسيطرة على المصالح. ولكن لم يكن عالمنا العربي والاسلامي يفكّر بحجم ما حدث من متغيرات في العشرين سنة الاخيرة.. وان العالم دخل مرحلة جديدة مع انطلاق العولمة التي لا يقف امامها اي حاجز ولا تهتم لأي مبدأ سياسي او وطني او قومي او ايديولوجي او اخلاقي.. انها ظاهرة العصر التي تسود العالم اليوم بلا منازع! الدولة في امريكا ليست مجرد مؤسسات فقط، بل هي شركات كبرى عملاقة. ان الخارجية والدفاع والمالية ليست الا مؤسسات تنفيذية لما يريده الكونغرس الذي يمثّل مصالح تلك الشركات.. فمن جملة ما يتصف به الامريكيون انهم مهرة جدا في التخطيط طويل الامد، وانهم لا يعلنون اي خطط او مشروعات يقومون بها.. وانهم لا يهمهم الا الذات الامريكية والمصالح الامريكية فقط.. وانهم يعدون انفسهم من اقوى المدافعين عن الحضارة الغربية المعاصرة التي لا يمكنها ان تعيش ابدا من دون عصب الحياة التكنولوجية والمتمثل بالبترول.. انها تعمل المستحيل اليوم وستبقى هكذا من اجل التحكم في كل المجالات الحيوية في العالم، والهيمنة على مقدرات عصب الحياة المعاصرة لمئة سنة قادمة.. ولا يمكنها ان تتخلّى عن الخطط التي رسمتها من اجل منع اي نفوذ دولي يقف في طريقها من اجل تنفيذ تلك الخطط. لم يعد هناك اية رهانات على اية متغيرات سياسية او على اية انقلابات عسكرية او اي تظاهرات شوارعية، او خطابات اعلامية او تحزبات ايديولوجية كالتي نجحت في تنفيذها ابان القرن العشرين... لقد انتقلت اليوم الى انواع اخرى من انظمة التدخل عبر الاختراقات الاقتصادية وهيمنة شركات عابرات القارات وانتقال رؤوس الاموال الى مكان للاستفادة من الايدي العاملة والسوق.. لم يعد الامريكيون يقبلون بوجود اية شركات مستفيدة من دون منافستها من خلال شل حركتها او شرائها او انهائها تماما.. لم يعد يهمها ابقاء هذا النظام السياسي او ذاك الموديل الزعاماتي ما دامت قد أمنت مصالحها لدى هذا او ذاك.. انها اليوم اقوى قوة مسيطرة على العالم بنفوذها الاقتصادي، وان ما تملكه من تريولانات لا يمكن ان يتوقف رقمه ابدا. انها تبحث عن الحلقة الاضعف سياسيا في هذا العالم، ولا تبحث عن الحلقة الاقوى كونها لا تريد اي منافسة لها مهما كان الثمن.. واستطاعت خلال السنتين المنصرمتين ان تجعل كل اوروبا بيديها من خلال متغيرات المانيا وفرنسا لصالح القوة الاعظم التي تمتلكها.. اما اليابان والصين، فلقد اغرقتهما برؤوس اموال امريكية، ولم تفعل ذلك مع روسيا التي لم تستطع ان تصلح اقتصادها حتى الان بعد ان شلّ سقوط الاتحاد السوفييتي تلك القوة في ثنائية الاستقطاب. علينا ان نعرف امريكا من تكون اليوم.. وان نفكّر بطريقة علمية في كل الاجراءات التي تنفّذها في هذا العالم.. علينا ان نتخّلص من اللغة الثورية والحماسية والشعاراتية التي لم تعد تجدي نفعا ابدا في هذه المرحلة.. علينا ان نراقب اوضاع العالم بكل دوله ومجتمعاته ونقيس مدى التحدي والاستجابة لهذا الكاوبوي القادم الذي استقطب الارادة الدولية وهيمن من خلال مصالحه على كل مصائر العالم.. علينا ان نفّكر بالسؤال القائل : لماذا تريد الولايات المتحدة البقاء سيدة مطلقة للقرن الواحد والعشرين ؟ كنت قبل عشر سنوات اقول بأن امريكا ستبقى سيدة العالم لخمسين سنة فقط، ولكن مجريات الاحداث والتطور التاريخي الحاصل لكبح جماح اوروبا الاتحادية واختراقات اقتصادات عملاق شرق آسيا يمنحني الثقة بأن اقول ان امريكا ستبقى سيدة القرن الجديد بلا منازع! علينا ان نفكر طويلا بكل تحركاتها اليوم في اغنى منطقة في العالم.. ان مشكلات الشرق الاوسط لا تعني بالنسبة لامريكا شيئا بقدر كيفية تأمين مصالحها في المنطقة.. انها لن تغادر الشرق الاوسط بعد ان وصلته باساليب مباشرة او غير مباشرة.. ان رهانها اليوم هو الاستحواذ على الطاقة مهما كانت الاثمان وهي تعلم بأن العراق وايران ومنطقة الخليج تعد اقوى خزين للبترول، فاذا كانت قد هيمنت على العراق، فلم يبق امامها الا ايران، وهي تدرك بأن معنى الاستحواذ لا يعني السرقة، بل يعني التحكم به من دون اي طرف قوي آخر لمئة سنة قادمة! انها تريد ان تكون سيدة الطاقة في هذا العالم لمئة سنة قادمة، وان لا يجرؤ كائنا من كان ان يقف امامها.. ان رهانها اليوم ايران ومن ثم فنزويلا.. واعتقد انها تقّدم الاهم على المهم، فبدأت بالعراق وستنتهي بفنزويلا عبر ايران.. ان اهم ما يمكن فعله هو الوعي بامريكا وفهم سياساتها التي تسّيرها مصالحها القومية وادراك افكارها قبل معاداتها او الاستسلام لها... ثمة مواقف متناقضة من الامريكيين وسياساتهم، اذ يقف البعض مواقف في الضد منها وشتمها، في حين يقف الاخرون بالاستسلام لها وتمجيد خطواتها.. بل ويذهبون بعيدا في التعويل على امريكا في الديمقراطية وتأسيس انظمة ودول وكيانات.. من دون ان يعلموا بأن امريكا لا يهمها الا العمل بما تجده يتفق مع مصالحها اولا واخيرا. انها تدرك مثلا ان الديمقراطية لا يمكن نجاحها في بيئات متخلفة تماما، ولكنها تسوّقها في مكان دون مكان آخر.. وهي تسكت مباشرة عن نظام كانت تصفه بـ"متوحش" لأنها أمنت مصالحها لديه! ان من يتعامل مع امريكا ينبغي معرفة مجموعة حقائق واساليب في كيفية التعامل معها.. عليه ان يدرك بأنها تحقق ارباحا كبرى في توظيف رؤوس اموالها في هذا المكان دون ذاك.. وعليه ان يدرك بأنها لا تريد الا اثمانا باهضة لما تريده ان يكون.. وعليه ان يدرك بأن هذه الصفقة او تلك من شراء معدات وكماليات واسلحة وسيارات.. لا تنفعه ابدا، ولكنها طريقة للحصول على مليارات! وعليه ان يدرك بأن امريكا ستدفع سعرا للبرميل مهما وصل، ولكنها هي التي تقرر لمن يأخذ هذا ويعطي ذاك! امريكا ترى مصالحها من خلال شركاتها الكبرى التي اخذت تخترق كل هذا العالم.. ولا تجدها في مؤسستها العسكرية التي لم تستخدمها الا عند الضرورة القصوى! ما يهم امريكا اليوم هو تطويع الشعوب على ممارساتها، وبنفس طويل، واتباع كل الوسائل في ذلك! ان الارهاب العالمي الذي تحاربه امريكا اليوم، كانت هي نفسها قد ساهمت في بلورته قبل ربع قرن، واعتقد انها خلقته ليكون من اهم التحديات التي تواجهها لتسويقه للعالم كاهم وسيلة لاختراق العالم والهيمنة عليه.. فهل وعينا الدرس او ادركنا جملة من الدروس ؟ هل فهمنا بما لا يقبل مجالا للشك هذا"المشروع"الخطير من اجل حماية الحضارة الانسانية ـ كما يّصرح بذلك المدافعون عن السياسة الامريكية اليوم ـ ؟ وكم تعلمنا مسارات الاحداث الصعبة التي دارت رحاها منذ ثلاثين سنة حتى الان ما الذي تحقق لامريكا وما الذي تسعى لتحقيقه في المستقبل المنظور. المهم ان نعي كيفية مواجهة متغيرات العالم الامريكية والتعامل مع ذلك على امتداد قرن من الزمن.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |