|
“نفسي مع كل نفسٍ، تجهرُ بأنّ الحقيقة هي وطني” (لامارتين) أقرأ بين موت صديق، ورحيل رفيق عمر، نعياً معداً سلفاً، لا تنقصه الصرامة اللفظية، ولا تعوزه الاستذكارات التاريخية، ولا تفارق ديباجته، كلمات مثل: “الشاعر الكبير” أو “الهندي الأخير” أو “الساموراي الأخير”، أو “الأمريكي الأخير”. وساهمت وسائل الاتصال الحديثة، في إشاعة خطاب يركّب على الحزن وعلى الفرح على حد سواء، سهل الاستعمال، ليشمل الجواهري، أو شوقي، أو رامبو، أو شاتوبريان، أو أحد الذين ينتظرون موتهم المؤجل. هذا هو خطاب بقايا الرموز الثقافية للحرب الباردة، الذين كانت مناراتهم الهادية ذات يوم، مقررات المؤتمر الأول، أو المؤتمر العاشر، أو المؤتمر ما بعد العشرين، لهذا الحزب الشمولي أو ذاك. ومن واقع معاش، خارج الأسوار وداخلها، وأصحاب الأسماء معروفة لهؤلاء الشهود الأحياء، لم أسمع من هؤلاء، جملة واحدة، نعم جملة واحدة صحيحة، تلتزم الحق والحقيقة، بشأن شاعر عراقي، مثل بدر شاكر السياب، مهما كانت أخطاؤه السياسية وأسبابها، بحق حزب سياسي ما، لا بحق وطنه وشعبه. أحتفظ بذكريات شخصية لا يمكن ان تمحى من سجون نقرة السلمان، والحلة، وبعقوبة، والموصل، عن تلك الشتائم المريرة، والأوصاف البذيئة المستهجنة، بل وحملات الدس والتكريه المبرمج، بحق مجموعة من الشعراء والكتاب العراقيين، لأنهم كانوا لا يريدون تصنيفهم مع “ثقافة القطيع”. كثير من الناس لا يزال على قيد الحياة. وهؤلاء لا تزال “ذاكرتهم خضراء”، بصدد تعميهات التلفيق، ونسج الأكاذيب، واختراع القصص المهينة للكرامة الإنسانية، التي قيلت بحق مجموعات ثقافية عراقية، من مدارس مختلفة، بعضهم لا يزال على قيد الحياة. تلك هي رطانتهم العراقية، سابقاً والآن. أحد اصدقائي الخلص، الذي عرفته في سجن سلمان، بعدما تخلص من سجن نسخة “توده” الشاهنشاهي، كان لا يسلم من بذيء الكلام، حتى وهو في دمشق عند مطالع ثمانينات القرن الماضي، والشهود على هذه الحفلة الدموية كثير بينهم فلسطينيون. ولقد أصابني الهلع الأكبر، عندما عرض بين يدي، أحد قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بدمشق، النسخة الأصلية لرسالة من مسؤول أحد الأحزاب العراقية، بفصل كاتب عراقي من مجلة “الهدف” بسبب اختلاف في الرأي. صاحب الرسالة يعرف، وضحيته يعرف أيضاً، كيف أعيد ذلك الكاتب الى عمله، بعدما كان البصل والخبز قوت يومه المؤلف من خمس وعشرين ساعة. بدعة هذه الأيام ان بعض ورثة ثقافة التصفيات الأخلاقية، افتتحوا بازارات لنعي الكتّاب والشعراء العراقيين الذين يعانون من أمراض جسدية، وهم على فراش “الموت المؤجل”.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |