|
أضحك في سري كثيرا وأنا أتصور مقدار الغيض والحنق الذي سيثيره عنوان موضوعي هذا عند البعض، فأن تكون ملكا حتى لو كان على الورق فقط، معناه أن عندك عرشا وتاجا وصولجانا، وبعض الناس لن يسكتوا حتى يطيحون بعرشك ويسلبون تاجك وصولجانك،, وهذا الكلام نابع من تجربتي الشخصية كملكة على العراق . ستوديوهات مجمع البث التلفزيوني الذي سلمته لنا شركة يابانيةعام 1981، كواحد من أفخر مجمعات البث في العالم، كفاءة وفخامة . قام الأمريكان في هجومهم الساحق الماحق على العراق في 1991 بقصف هذا المجمع وتحويله الى تراب متناثر، بحجة الضغط على صدام لسحب قواته من الكويت، وهكذا عدنا الى إستوديو 6 الذي تأسس ربما منذ اليوم الأول لبناء مؤسسة الإذاعة والتلفزيون في الصالحية، أجهزته قديمة، وبناؤه متهالك، وتعيش على كيبلاته المتآكله أعداد مهولة من الفئران . ذات يوم من شهر تشرين الثاني عام 1991 كنت أقرأ الأخبار من ستوديو 6، أنهيت عملي ربما عند السابعة والنصف مساءا، وبمجرد مغادرتي الإستوديو طلبني هاتفيا شخص من دائرة السينما والمسرح، قال إنه الأستاذ محمد أبو الفتح، مساعد المخرج الأستاذ محمد شكري جميل، يبلغني أن الأستاذ شكري جميل يريد مقابلتي يوم غد في دائرة السينما والمسرح . لم أعر الأمر أية أهمية، كنت أعرف أن الأستاذ محمد شكري جميل يتحضر لإخراج فلم سينمائي عنوانه (الملك غازي)، وبحكم كوني معدة ومقدمة للعديد من البرامج الثقافية التي تعنى بالآداب والفنون، فمن المؤكد أنه سيطلب مني تغطية إعلامية لعمله، وسأرى ما يمكن تقديمه له . ذهبت في اليوم التالي الى دائرة السينما والمسرح، فوجدت أن الأستاذ محمد شكري جميل قد إفتتح في أحد طوابقها ورشة عمل كبيرة جدا، مئات الصور المعلقة على الحيطان، وعشرات الملفات مكدسة على طاولات منتشرة هنا وهناك في المكان، وعشرات المجاميع من البشر الذين يتحدثون الى بعضهم في وقت واحد مناقشين تصوراتهم وإحتياجاتهم . سلمت على الأستاذ محمد شكري فنظر في وجهي نظرة فاحصة، إستغربت منها، ثم تجاذب معي أطراف حديث مكون من عدة كلمات، وأنهى حديثه مع المجموعة التي كانت معه ثم إلتفت إلي وقال : تعالي، وأخذني لنجلس الى طاولة صغيرة وسط هذا الحشد من البشر . سألني : هل عملت في السينما ؟ قلت : لا لم أعمل . فقال : هل ترغبين العمل في السينما ؟ ضحكت وقلت : لم أفكر بالموضوع، هل عندك دور لي ؟ فقام من مكانه، وجلب ملفا به العديد من الصور، وقدمه لي، قال : أريدك أن تمثلي هذا الدور . فتحت الملف، وكانت المفاجئة، فقد كانت جميع الصور تخص ستي أم فيصل، الملكة عالية آخر ملكات العراق طيب الله ثراها وتغمدها بواسع رحمته . أخذت منه الملف ووعدته بالتفكير في الأمر وعدت الى البيت . تشاورت مع الأستاذ زوجي بالموضوع، وزوجي رجل ذو خبرة وموهبة وإختصاص، وهو مخرج سينمائي يملك شركة للإنتاج السينمائي والتلفزيوني، فنصحني بعدم إعطاء أي رأي إلا بعد قراءة سيناريو الفلم، ومعرفة أسماء بقية فريق العمل الذين سيشاركون في تنفيذ هذا الفلم . بعد عدة أيام بعثت لي دائرة السينما والمسرح مغلفا كبيرا فيه السيناريو، قرأناه أنا وزوجي، ولم تكن لنا أي تحفظات عليه، ثم استفهمنا عن من سيكون بقية العاملين،, وبعد يومين أبلغت الأستاذ محمد شكري بأنني وافقت على العمل معه في الفلم . عندها نظر الي وسألني : كم هو وزنك ؟ قلت : 56 كيلو فقال : سنصور بعد شهرين، يجب أن تفقدي 5 أو 6 كيلوات، قللي أكلك، وإعملي تمارين رياضة، وواضبي على تمارين التنفس والإسترخاء، وخلال الفترة المقبلة ستكون علاقتك مباشرة مع الست إمتثال الطائي لتحضير ملابسك في الفلم، ومع الأستاذ طه الهلالي لإختيار تصفيفات الشعر وشكل الماكياج، وانا سأزودك ببعض الكتب والمصادر لتقرأي عن حياة الملكة عالية، حتى تفهمي دوافعها وتعرفين كيف تتقنين تمثيل دورها، وبعد غد يجب أن تحضري جلسة تصوير فوتوغرافي لممثلي الفلم. حين ذهبت بعد ذاك الغد الى جلسة التصوير، وجدتهم وضعوا صورة كبيرة للملكة عالية، تقرر تحويل شكلي إليها، وهكذا قامت مصففة الشعر باسمة شابو بتصفيف شعري بنفس تسريحة الملكة، وقام الماكيير طه الهلالي بعمل ماكياج شبيه بها تماما، لبست ثوبا يشبه ثوبها وعقدا يشبه عقدها،, وإلتقطت لي عشرات الصور . بعد ثلاثة أيام صدرت كل الصحف والمجلات العراقية تحمل صور الملكة عالية والى جانبها صورتي الشبيهة بها، وكل العناوين تقول : ميسون البياتي ستؤدي دور الملكة عالية . وكان ذلك إيذانا بفتح باب جهنم علي، فإذا كانت (لغيرة النسوان طعم الخنجر) كما يغني كاظم الساهر،, فهو يغني عن (غيرة النسوان) من الرجال أو على الرجال . لكنه لم يعرف طعم غيرة النسوان وهن (جميع)، سلطهن الزمان على (واحدة)، ليدفعنها ثمن عرش من وهم وتمثيل كن جميعهن حالمات بالإستحواذ عليه . أقول حقا وعن تجربة إن غيرة النسوان من النسوان (لها طعم الخنجر المسموم) . والأكثر سمية منها هي غيرة الرجل (من) إمرأة . بعض السيدات والآنسات من الممثلات العراقيات اللواتي فاتهن الدور وجدنها فرصة للتنكيل بي، إحداهن صرحت للصحف : أنا كنت المرشحة لدور الملكة عالية ولا أعرف كيف وصل الدور الى ميسون البياتي !!!؟ مع أن هذه الممثلة سيدة ستينية العمر، وليس لي أعتراض على عمرها مع تقديري له، لكننا كنا نؤدي دور الملكة عالية وهي بعمر 28 سنة . أما ما حيك في الخفاء والعلن، فالله الشافي المعافي . بعض زميلاتي المذيعات إنتهزنها فرصة، فصرح عدد منهن للصحف أنهن لن يمثلن ومهما كان الدور المعروض عليهن . أما أكثرهن سما فقد كانت زميلتي المذيعة عريفة الحفل في فندق مريديان التي رفضت قراءة إسمي كي أصعد الى المنصة لتسلم ميدالية عن دوري في تجسيد شخصية الملكة عالية، مع أنه أسم، حتى عدوك له إسم تستطيع قراءته ولفظه لكن غيرة النسوان من النسوان لها طعم الخنجر المسموم كما قلت . واضبت على القراءة عن شخصية الملكة، وإتصلت بواحد من أقرب الناس لها وهو طبيبها الخاص الأستاذ الدكتور كمال السامرائي، الذي إستقبلني في بيته الجميل في العيواضية، وحدثني عنها وأعطاني تصورا كبيرا عن اسلوبها في الكلام ولكنتها بالحديث، وبعض من اسرارها التي لن أبيح لنفسي كشفها لكنها ساعدتني على تقمص دورها . كما واضبت على الجوع والرياضة، وقضيت عدة أيام أتعرف على قصر الزهور الذي كانت تعيش فيه الملكة تلك الفترة . وخرجت عدة مرات مع الست إمتثال الطائي لشراء الملابس والمجوهرات الملكية، وخلال هذه الفترة صبغوا لي شعري باللون السود الفاحم الذي كان موضة الثلاثينات من القرن الماضي . الملكة عالية وكما ظهرت في الفلم لم يكن لها أي دور سياسي، لذلك كانت علاقتها محصورة بزوجها والعائلة الملكية، ومجموعة الخدم والعبيد في القصر . لذلك كان علي ان أتكلم كثيرا مع الفنان المبدع ستار خضير الذي قام بدور الملك غازي، ليس بنبرة صوتي كميسون، وإنما بنبرة صوتي كعالية . ونفس هذا التمرين مع الفنان محمد طعمة التميمي الذي قام بدور الوصي عبد الإله، وكذلك إدامة مثل هذا التمرين مع أسيل سامي التي قامت بدور الأميرة عابدية، ورشا هاني التي قامت بدور الأميرة وجدان . أسهل تواصل كان بيني وبين الفنانة الكبيرة فاطمة الربيعي التي أدت دور الملكة نفيسة، فهي ممثلة محترفة لا تجيد دورها فقط وإنما تساعد الممثل المقابل على إتقان دوره ايضا . أما أصعب تواصل فقد كان بيني وبين الطفل همام فاضل الذي مثل دور الأمير فيصل الصغير الذي سيكون فيما بعد هو الملك فيصل الثاني، كان طفلا في حدود الخامسة من العمر ويشعر بالحرج من أجواء القصر ومعدات الإنارة والتصوير، ويرفض معاملتي له كأم، أشعر به حين أحمله (تمثيلا) الى فراشه لينام وكأنه قطعة من الخشب بين ذراعي . علاقة هامشية في الفلم ربطتني بالعبد (وصل) الذي أدى دوره الفنان عزيز خيون، ونفس هذه العلاقة مع العبد (سعيد) الذي أدى دوره الفنان عز الدين طابو، فمع العبد وصل لم أكن حاضرة إلا في مشهد إغتياله في غرفته بالقصر الملكي أطل من الدور العلوى ناظرة من الشباك الى جثته محمولة على نقالة وهي تغادر القصر بسيارة إسعاف الى المشرحة . أما مع العبد سعيد فكان يجمعني به مشهد واحد هو مشهد الحديقة عندما يسقط الأمير فيصل من عربته الملكية التي يجرها حصان قزم من نوع (سي سي) فأركض لحمله وإدخاله الى القصر ويكون العبد سعيد بجواره لأنه هو المسؤول عن قيادة هذه العربة . نوري السعيد (فيصل الياسري) ورشيد عالي الكيلاني (سامي السراج) والعقداء الأربعة (جواد الشكرجي وسامي قفطان ونزار السامرائي وغازي التكريتي) وكذلك السفير البريطاني،, كانوا يزورون القصر الملكي، ولكن للقاء الملك وحده، ولم يجمعني بهم غير مشهد صامت حزين، وجنازة الملك غازي مسجاة في بهو القصر الرئيسي لإلقاء نظرة الوداع عليها . عدا عن هؤلاء فلا توجد لي أي مشاهد مع بقية ممثلي الفلم، وصورت مشاهدي كلها في قصر الزهور عدا مشهد واحد كان في المقبرة الملكية، ومشهد واحد كان جولة ملكية في بغداد بالسيارة . في قصر الزهور كان يوجد معظم الأثاث الملكي لذلك قمنا بإستعماله ولم نحتج الى أثاث إضافي . صالة الطعام كانت مليئة بأطقم المائدة من الصيني المختوم بختم التاج الملكي وإسم الملك غازي، وكذلك أدوات المائدة الذهبية من شوك وملاعق وسكاكين . سألنا عن اللوحة الزيتية المرسومة فيها صورة الملكة عالية، والتي لدينا منها نسخة فوتوغرافية بالأبيض والسود فقط،, قيل لنا إن تلك اللوحة أحرقت في وزارة الدفاع بعد ثورة 14 تموز . في أحد المشاهد إحتجنا الى غرامافون يستمع به أصحاب الجلالة الى الموسيقى, فإستعنا بأحد الموسرين الذي كان يملك هذه التحفة القديمة. ونفس الشيء بالنسبة الى أدوات حلاقة الملك الذهبية، لكننا حين إحتجنا الى سيارة ملكية موديل منتصف الثلاثينات، طال البحث ولم تعثر إدارة الفلم على هذه السيارة لذلك تم الإتفاق مع حداد عراقي ماهر فصنع لنا (جسم سيارة) يشبه تماما سيارة الملك غازي التي نملك صورها، وتم صبغه بالأزرق السماوي، وتنجيد المقاعد بجلد أزرق سماوي نفس لون السيارة، وضع هذا التكوين على عربة يسحبها كرين، وفوق هذا الكرين وضعت أجهزة الصوت والتصوير ووقف العاملون الذين يديرونها . من أحرج المواقف التي مرت علي كل حياتي، هو يوم قرر صاحب الجلالة الملك غازي المعظم وصاحبة الجلالة الملكة عالية المعظمة القيام بجولة ملكية في أنحاء بغداد بهذه السيارة . تجمهر علينا أهل بغداد للفرجة بطريقة كالتي كانت تظهر في نشرات الأخبار حين يتجمهر الناس حول صدام في زياراته الميدانية . وفي الوقت الذي سيارتنا لا تمشي بل يسحبها كرين وجلالة الملك (يمثل) أنه يسوقها، وعليك أن تتماسك وتبقى في (الدور) ولا تخرج عنه رغم ضجة الشارع وتجمهر الناس، لأن الكاميرات الموضوعة امامك تصور حتى شاردة العين، وكاميرا السينما حساسة الى حد اللعنة والحمد لله أنه كان مشهدا دون حوار، لذلك تمت معالجة كل الضوضاء أثناء المونتاج . بسبب الخوف من محاسبة المخرج محمد شكري جميل لنا والذي سيكون عسيرا إذا أفشلنا له تصوير هذا المشهد، أقرر أن ذلك اليوم كان يوما مشهودا من أيام حياتي . إنتهى تصوير مشاهدي في الفلم بمدة شهر واحد . غادرت موقع التصوير عائدة الى عملي في التلفزيون، لكن فريق العمل إستمر بتصوير بقية المشاهد والمواقع، ثم جاء دور التحميض والتقطيع والمونتاج . تم إفتتاح عرض الفلم في 2 شباط 1992 في قاعة المسرح الوطني . كنا قد أعلننا عن موعد الإفتتاح ووزعنا بطاقات الدعوة الى وسط المثقفين والإعلاميين والفنانين قبل حوالي أسبوعين من ذلك التاريخ، وكان إفتتاح فلم الملك غازي حدثا كبيرا في بغداد تلك الفترة مع كل الهالة الإعلامية التي صاحبت مراحل إنجازه . من الحسنات التي تحسب للفلم،, أنه تم بعد عرضه التعرف على مكان دفن الملك فيصل الثاني . فبعد عرض الفلم وإطمئنان الناس الى رد الإعتبار لهذه العائلة التي لم يسلم من الموت قتلا أي من رجالها الذين تولوا الحكم، لا فيصل الأول ولا غازي ولا عبد الاله ولا فيصل الثاني، تكلمت مربية الملك أنه بعد قتله وخوفها أن يجري لجثته ما جرى لجثة نوري السعيد وجثة عبد الاله، قامت بمساعدة زوجها بتهريب الجثة ودفنها في مكان مجهول منذ 1958 ولغاية 1992، وعند فتح المكان، وجدت فيه فعلا عظام رجل ميت، أخذت الى التحليل لكن نتيجة بالسلب أو الإيجاب لم تعلن بعد ذلك . حظيت بتقدير الناس لي عن دوري في فلم الملك غازي، وصار بعضهم تحببا ينادوني بإسم : ستي أم فيصل، أو : ستي صاحبة الجلالة . لكن ذلك وكما قلنا أثار حفيظة النسوان علي بشكل غير مسبوق، وتندلع النار من مستصغر الشرر . بعد خمس سنوات من عرض الفلم ... أكملت 25 سنة من عملي في الإعلام، فكرمتني مجلة (فنون) بأن أجرى معي الصحفي الأستاذ سيف الدين سلبي لقاءا عنوانه (المذيعة الدكتورة ميسون البياتي تحتفل بمرور 25 سنة على بدء عملها الإذاعي), وكان ذلك اللقاء جولة شاملة على كل ما أنجزته خلال ربع قرن في الإذاعة والتلفزيون، حين وصلنا الى سؤالي عن تجربتي في فلم الملك غازي، وكنت خلال الخمس سنوات الماضية قد نالني ما نالني من (المعجبات) من المشاكل الجدية والحقيقية بسبب هذه التجربة، لذلك تضاحكنا أنا والأستاذ سيف عندما قررت توجيه الرد (للمعجبات) قائلة : دور الملكة عالية أضاف لي الكثير من الفخر بنفسي .. لأنه ليست كل النساء صالحات لتمثيل أدوار الملكات، ولا أنسى بأن النص وطني ويحمل قيمة تاريخية وسياسية ومن هنا كان مبرر قبولي للدور . وقد وجدت تعاطفا واهتماما كبيرين من الناس للشخصية والدور . يسأل الأستاذ سيف : وهل يمكن ان تعيدي التجربة ؟ ترد ميسون بضحكة عالية وتقول : اذا كان هناك أدوار ملكات فقط . في مفتتح العام 2008 ... أهدي ألف تحية الى العراق العظيم الى الصخر والحجر الى الشجر والنهر والى الطير والبشر كل عام وأنتم العراق
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |