|
ليس هذا العنوان من عندي، ولكنه نعت اقتبسته من مذكرات الرفيق باقر إبراهيم الموسوي، التي قرأتها في سويعات منسوخة عن النسخة الأصلية عندما كان النظام البائد جاثما على أنفاس العراقيين، وقد أعارني إياها احد الرفاق مساء على أن أعيدها صباح اليوم التالي، فكانت ليلة ليلاء قضيتها سائحا في ربوع الحزب الشيوعي ومسيرته الظافرة، وما اختزنته ذاكرة أبو خوله من أيام النضال المجيد الذي خاضه الحزب من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية وبناء الدولة الديمقراطية وضمان الحياة الحرة الكريمة للعراقيين، فكان أن علق هذا اللقب الطريف في ذاكرتي، وآن لي أن أضعه عنوانا لما سأتطرق إليه من منعطفات حياة الشهيد الراحل، ولا أدعي أني أحطت بجوانبه، أو استوعبت مداها البعيد، ولكنها ذكريات ربما يحتفظ آخرين بأكثر منه، رأيت إذاعتها لعل في الباقين من ينتبه إلى هذا الجانب ، ويدلي بدلوه لينشر ما في ذاكرته عن هذا المناضل الكبير الذي عاش شيوعيا مناضل، ومات شيوعيا باسل، أفنى زهرة شبابه في النضال الوطني، وجعل عائلته المناضلة هدف لمضايقات السلطات الجائرة التي هيمنت على مقدرات العراق الحديث فأذاقتها الويلات، وكان على قيادة الحزب ورفاق الشهيد أن يولوا عائلته ما تستحق من عناية، ولكن (العين بصيرة واليد قصيرة) فقد حمل التغيير الجديد في طياته الكثير من التداعيات التي أفرزت أطرافا تناست التاريخ المجيد للشيوعيين العراقيين، وحاولت طمس تاريخهم الناصع، وتهميش أدوارهم، وإسدال الستار على مآثرهم الرائعة، فطفت على السطح أسماء ما كانت يوما تعد في أوساط المناضلين، وتسلق السلالم الكثيرون ممن عاشوا على فتات الموائد، ومن لاذوا في أكناف الأجانب، ليتصدروا الواجهة ويقطفون ثمار الجهود الرائعة لرواد النضال الوطني من الشيوعيين العراقيين، وعز على محافظة بابل التي تعرف تاريخ الشهيد وبطولاته، أن يكون أسم الشهيد معلما لأحد شوارعه، أو أسما لمدرسة من مدارسه، وهذه هي سنن الحياة أن يعلوا شأوا الوصوليين والانتهازيين، ويخبو نجم المناضلين والمكافحين، ولكن ستبقى أسمائهم في الضمير الوطني وفي ذاكرة الأجيال، أبناء بررة لعراق المآثر والأمجاد، عراق الشهداء الذين عطروا بدمائهم أديمه، وارتقوا مشانق المجد والشرف رافعي الرؤوس، باسمي الثغور، هازئين بعتاة الجلادين، ولابد للأيام أن تدور دورتها وترتفع الهامات العراقية الشامخة لتناطح الذرى في عراق الكرامة والمجد، العراق الجديد الذي تسوده المحبة والوئام وترفرف في سمائه حمامات السلام، وأن ترتفع رايات النصر خفاقة في ربوعه، تعلن للآتين ميلاد الفجر الواعد، تحت ظل وطن واحد وشعب واعد. وكاظم الجاسم أسم لا ينسى في مسيرة الحزب الشيوعي العراقي، وعلم من أعلام الفرات الأوسط، لما اتسم به من روح كفاحية ، وما تحلى به من جهادية عالية يفتقر إليها الكثيرون، وما قام به من أعمال باهرة يعجز عنها صناديد الرجال، فقد تفرغ للعمل الحزبي وصرف حياته للعمل السياسي، ونذر نفسه لخدمة حزبه وشعبه، فكان ملكا للحزب في أي وقت، مما جعله قطب الرحى لجميع الأحداث الجارية في الفرات الأوسط، وندر أن حدث أمر دون أن يكون في صلبه، ، وكان لتأثيره الاجتماعي وموقعه في الريف الأثر الكبير في رفد مسيرة الحزب بالكثير من المناضلين الذين لا زالوا يشار لهم بالبنان، وله تأثيره في الكسب الحزبي وامتداد التنظيم إلى أماكن لم يكن الوصول إليها سهل، فكان يجوب القرى والأرياف على قدميه للأشراف على الخلايا وإيجاد المرتكزات التنظيمية ، ومتابعة التنظيم، حتى ندر أن تجد قرية أو تجمع صغير لا يوجد فيه شيوعي أو أكثر، ولا يزال الكثير ممن كسبهم للحزب يواكبون مسيرته ويذكرون رفيقهم بما يستحقه من الإكبار والإجلال. وكانت منطقة الفرات الأوسط تمتد لمساحات شاسعة ابتداء من قضاء المحمودية التابع إلى بغداد حالي، وانتهاء بمحافظة المثنى حاليا التي كانت قضاء تابع للواء الديوانية، وكانت كربلاء بامتدادها الواسع بما فيها قضاء النجف سابقا من توابع تنظيم الفرات الأوسط فيما كان التنظيم يمتد إلى النعمانية التابعة لمحافظة واسط، وهذه المساحة الواسعة تتطلب جهدا استثنائيا لمتابعة التنظيم فيها أذا علمنا أن المواصلات تلك الأيام كانت بدائية في أكثر الأحيان ويسلكون في تنقلاتهم الطرق الريفية التي تبعد عن مراكز المدن خوفا من القبض عليهم لأن جلهم كانوا من المطلوبين للسلطات الحاكمة، ولا يمكن لهم الظهور في الأماكن العامة أو دخول المدن بشكل مكشوف. ولد الشهيد في قرية البو شناوة التي تبعد عن مركز المحافظة بحدود 10 كم سنة 1927في أسرة فلاحية، وشب ونما بين الفلاحين، عاش همومهم ومشاكلهم وعرف أوضاعهم الاجتماعية والمعيشية الصعبة في ظل الهيمنة المقرفة لرجال الإقطاع والملاكين، وتعسف الحكم الملكي في التعامل مع أبناء الشعب والفقراء منهم خاصة، وبدء يشعر بعمق المعاناة ، فكان انحيازه السافر لأبناء طبقته من الفلاحين المتعبين والعمال الكادحين، مما وفر الأرضية الصلبة لتأثره بالفكر الماركسي الهادف إلى إزالة الفوارق الطبقية، ورفع الظلم والغبن عن الطبقة العاملة والشغيلة جمعاء، فكان أن أنتظم في صفوف الحزب الشيوعي في سن مبكرة، وأندفع بتفان وإخلاص للعمل الحزبي، فكان نشاطه الدائب وحماسه للعمل وراء اختياره لمهام كثيرة، فكان دائب الحركة كثير التنقل، لا يتقاعس عن تنفيذ أصعب المهام وأكثرها تعقيدا فقد كلف ذات يوم بعد كبس المطابع الحزبية في بغداد بنقل مطبعة من الحلة إلى بغداد، فسلك الطرق الريفية الوعرة وأوصلها إلى المقر العام ماشيا على قدميه وهو يحملها دون أن يشعر بما يشعر به غيره من ثقل هذه المهمة والمخاطر المترتبة عليه، ورغم محدودية معلوماته النظرية وقابليته الفكرية إلا أنه يتمتع بقدرات تنظيمية لا يستطيع الوفاء بها إلا القلة القليلة من الشيوعيين، وكان محيط عمله الفرات الأوسط بما يتطلبه الريف من قدرات لا يستطيع النهوض بأعبائها إلا أبناءه المتمرسين في عاداته وتقاليده والقادرين على اجتياز مفاوزه ومسالكه الوعرة، وطبيعة التنظيم الريفي تتطلب إمكانيات عالية ليس من السهل الوفاء به، فالقرى المتباعدة، والبيوت المتناثرة تستدعي من المنظم الجيد الانتقال والحركة الكثيرة، والصبر والدأب المتواصل في أدارة التنظيم، وبعض القرى قد توجد فيها خلية أو أكثر، فيما توجد في أخرى ركيزة أو فرد، وعلى المنظم إيصال المنشور أو التبليغ أو عقد الاجتماع وإدامة الصلة بخلاياه المتناثرة ونواتاته المتباعدة، أو رفاقه المتفرقين، مما يستدعي قيامه بجولات قد تمتد لأسابيع، وهذا ما يعرفه العاملين في الريف، وكان الفقيد على ما حدثني رفاقه العاملين معه ينطلق في جولاته التنظيمية من قرية إلى أخرى، ومن دار إلى دار، غدائه عند هذا وعشائه عند آخر، فيما يضطر للمبيت لدى هذا الرفيق أو ذاك، وفي تلك الأيام لا توجد وسائط للنقل كما هو الحال هذه الأيام، فيجوب الأرياف على قدميه المجردتين، أو يستعين بالدواب للتنقل من منطقة إلى أخرى، وقد يضطر لركوب المشحوف للوصول إلى الأهوار، ومن مستلزمات العمل الريفي الإلمام بعاداتهم وتقاليدهم وطبائعهم ولهجتهم والمصطلحات المتداولة في مجتمعاتهم وهو ما يسمى بالحسجه أو الكلام الملغز الذي لا يدرك خافيه إلا من تمرس بالريف وعاش بين أهاليه وما يتعلق بشؤون الزراعة وتربية الحيوانات، والجاهل بأمور الريف يتعذر عليه العمل فيه، فقد تواجهه بعض الحالات التي تتطلب المعالجة الآنية التي تلاءم طبيعة الريف، وسنتطرق إلى بعض الأمور والمفارقات التي تتطلب الحلول الآنية السريعة، وسرعة البديهة، لذلك يتطلب العمل ألفلاحي رجال من طراز خاص، كان الشهيد مثالا رائعا بين العاملين في الأوساط الريفية. وقد أستثمر علاقاته الاجتماعية في تنشيط العمل الحزبي، ورفد الحزب بالشخصيات الاجتماعية المؤثرة، وتمكن بالتعاون مع الشيخ خليف العبد علي السبع شيخ آلبو طيف من تشكيل جمعية الملاكين الأحرار، التي كان لها الدور الفاعل في الحركة الفلاحية وهو ما سنتطرق إليه في فصل قادم. وتنسم مسؤوليات عدة حتى أصبح مرشحا للجنة المركزية وهو ما سنورده في محله من هذه الذكريات، ولي دعوة للرفاق الذين عملوا تزويدي بما لديهم من معلومات عنه أو الكتابة عما يعرفون من أخباره وحوادثه تمهيدا لتبويبها وإصدار كتاب مستقل ليأخذ مكانه اللائق بين الخالدين من شهداء الحزب الشيوعي، وما في ذلك من مساهمة في كتابة تاريخ الحزب التي تحتاج إلى جهود مثابرة في الجمع والتوثيق ، وفي الحلقة القادمة نتناول صفحة جديدة من نضاله المجيد.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |