الأحداث التي تمر بها المنطقة العربية تجعل المرء يقترب من التسليم بأن قيم الشهامة والضيافة ونصرة الملهوف تخرج في المناسبات فقط وتستخدم عند الحاجة، وبمعايير مزدوجة، وبعض ساسة العراق الحاليين هم أدرى أكثر من أي شخص بهذه الأوضاع والممارسات التي جوبهوا به أثناء اغترابهم ومع ذلك تجدهم يشحذون السكين لطرد الملهوف ويستعدون على الضعيف!.

انشغلت المنطقة في الأشهر الأخيرة باحتمالات التوغل التركي في إقليم كردستان العراق، على خلفية إدعاء تركيا أن عناصر حزب العمال الكردستاني ب ك ك تتخذ من شمال العراق منطلقا لاعتداءات على مصالحها، ورغم توالي التهديدات التركية بالتدخل العسكري واجتياح الحدود، فإن الموقف العربي "الرسمي" كان في غالبه سلبيا وأحيانا متوافقا مع التهديد التركي مثلما فعلت سوريا عندما زار رئيسها تركيا مؤخراً حيث أبدى "تفهمه" لنيتها ضرب العراق وهي كما نعلم دولة عربية "جارة".

 ويعلم المتابعون أن التهديد التركي ينبع أساسا من فشلها في الالتحاق بالاتحاد الأوربي الذي ينتقد سجلها في مجال حقوق الإنسان و معاملة الأكراد بصفة خاصة، كما يعد التصعيد التركي ردا على إثارة الكونجرس الأمريكي لمسألة المذابح التي تمت على يد السلطات التركية ضد الأرمن العام 1915.

أما مسألة ب ك ك فالكل يجزم أن وجود الأعداد المحدودة منهم بجبال قنديل ومنذ أكثر من عقد من الزمان لا يشكل خطرا لدولة بحجم تركيا العسكري، لكنها مجرد حجة لتحصد أنقرة امتيازات في معارك أخرى. وبتأييد نظم عربية للموقف التركي في مسألة ب ك ك وتجاهلها لكون التهديد يمس دولة عربية "شقيقة" هي العراق فإنهم ببساطة يقفون في صالح أنقرة لتحصد مكاسب في معارك لا ناقة للعرب فيها ولا جمل.

 لقد استضافت سوريا عبد الله أوجلان على أراضيها حتى العام 1998 وكثيرا ما  وصف خطاب هذا الحزب بأنه يهدف للتحرر الوطني وأنه يكافح الفاشية التركية، وبالطبع كان هذا التبرير عندما كان صوت الصراع السوري التركي على الإسكندرونة مسموعاً وكان هناك مشاكل على اقتسام مياه الفرات خاصة مع بناء تركيا لسدود على نهر الفرات تمنع المياه بما يهدد الحياة الزراعية في سوريا، لكنه وببساطة وفي أكتوبر من العام 1998 أجبر أوجلان على مغادرة البلاد في صفقة مع تركيا عدو الأمس، وفجأة تغير الخطاب السوري ضد أوجلان رغم بقاء لواء الاسكندرونة حتى الآن تحت السيطرة التركية ورغم عدم الاستجابة للمطالب السورية في اقتسام مياه الفرات بصورة عادلة والآن تؤيد سوريا تركيا في تهديدها بالحرب ضد ب ك ك،فما سر انقلاب المواقف هكذا؟ هكذا إذن تنقلب الأحوال في يوم وليلة؟

 إن الخضوع التام والتسليم بالغطرسة التركية سيعجِّل باليوم الذي تتاجر فيه تركيا بمياه دجلة والفرات، وقد يعزز هذا نية أوساط في أنقرة لبيعها للعراق وسوريا بمقابل، وسيجعل من اليمين التركي القومي والديني متحكما بتهديداته وآلته العسكرية في المنطقة ككل، طالما أن هذه التهديدات التي تجد "التفهم" من دول الجوار بدلا من رفض لغة القوة. الغريب أن اليمين التركي متأصل في الحياة السياسية هناك بصورة فجة، أذكر جيدا أثناء دراستي العليا في ليفربول أوائل السبعينات أنه بينما كان معظم الطلبة (بريطانيين وأجانب)ينتصرون للأفكار التقدمية و اليسارية، وحدهم الطلبة الأتراك كانوا يؤمنون بأفكار يمينية ومحافظة تغلفها نزعة شوفينية تجاه القوميات الأخرى، أكاد أن أجزم أن النخبة التي تحكم الآن سواء كان العسكر في مجلس الأمن القومي الأعلى أو حزب أردوغان المتمسح بالإسلام لا يخرجون كثيرا عن هذه العقلية في التفكير ورفض قبول الآخر.

مئات

 لكن ما يدهش المرء أكثر هو هذا التساهل مع العنجهية التركية، ففي الأزمة الأخيرة لم نسمع أحدا يقول أن ب ك ك ضيف على العراق، مثلما كانوا يقولون أن مجاهدي خلق ضيوفا عليه في زمن صدام، أو مثلما كان يدافع البعض عن استضافة سوريا لحزب العمال الكردستاني حتى العام 1998. والكل الآن يتبارى للهجوم على ب ك ك ، سواء في ذلك الغرب وأمريكا وحتى بعض النواب العراقيين، الكل يصف الحزب المذكور بالإرهابيين، ولست أفهم ما هو الفرق بين ب ك ك وحزب الله وحماس والجهاد، وما هو معيار الإرهاب والتحرر والمقاومة؟ هل هو فضفاض ومتغير من فترة لأخرى بهذا الشكل؟ ثم لماذا تجد هذه الفصائل من يدافع عنها أو يلتمس لها الأعذار؛ فالحركات الإسلامية غالبا ماتجد عونا لها على مدار العالم الإسلامي، والحركات المتصل نشاطها بالصراع العربي الإسرائيلي تجد تدعيما في 22 دولة عربية بخلاف دعم من دول إسلامية، لكن الأكراد ذي الأربعين مليون نسمة ليس لديهم دعم رسمي من هذا القبيل حتى على المستوى الأدبي لا تساندهم أي دولة، فهم ليسوا دولة بعد ولا ممثل لهم ولا حتى "فراش" بالمنظمات الدولية.

والكل تقريبا صمت عندما ثارت ثائرة أنقرة على أقل من مئات الأفراد محصورين بجبال قنديل، فلماذا حمت السكين على ب ك ك وحده بهذا الشكل؟ هل كان في الأمر نية مبيتة؟

 لست أدافع هنا عن الخط الفكري لحزب العمال الكردستاني ولكن يساورني القلق من قبول البعض حتى داخل البرلمان العراقي للغطرسة التركية لحد حشد 100ألف تركي والتهديد باجتياز الحدود لمحاربة أقل من مئات معظمهم هاربون منذ عام 1998 وبعضهم أفنى شبابه في العمل مع ب ك ك ثم لا يستطيع العودة لتركيا لعدم ضمان نزاهة أي محاكمة قد تجرى له هذا إذا لم يقتلوا فور وصولهم، كما أن بعض العناصر من الفتيات اللواتي التحقن وهن في عمر المراهقة بالحزب، وغالبا لن تقبل عوائلهم بعودتهم ولن يسلموا من الجندرمة التركية تنكيلاً أو اعتقالاً أو اغتصابا، ببساطة العاقل يفهم سر تحصن هؤلاء بقنديل حسب المثل العراقي " شنو يوديك ع المر غير الأمرّ" ويعلم المتابعون جيدا أن غالب هذه العناصر لم تعد ترفع السلاح، فما الضرر من بقاء هؤلاء طالما لا يشكلون خطرا على أحد- وهو التصور الأقرب للعقل ومعطيات الجغرافيا السياسية فكيف يهدد المتحصنون بكهوف الجبال الثلجية بلا أسلحة متقدمة  تركيا على بعد آلاف الكيلومترات؟

يؤلم المرء أكثر أن بعض أعضاء البرلمان والحكومة الحالية عانوا في زمن صدام من المنفى والتشرد، ويفهمون أن الإعادة القسرية للاجيء هي حكم نافذ بالموت عليه وهو ما يتعارض مع أي مواثيق دولية أو قيم إنسانية ناهيك عن مباديء الأديان.

 ويبدو أن قيم الضيافة لها تقدير في أماكن أخرى من العالم، ففي زيارة لي لأفغانستان في أبريل2001 بينما كان نظام طالبان المدعوم من القاعدة لازال يحكم هناك، وضمن عملي بالأمم المتحدة كان علي التنقل بين عدة مدن لمتابعة المشاكل المتعلقة بأمن الغذائي والزراعة والصحة الحيوانية ورفع تقارير بها للأمم المتحدة، كذلك التنقل لأماكن الكلأ التي ضربها الجفاف في ذاك العام،

حيث ذهبت من إسلام أباد بباكستان بالطائرة إلى هيرات القريبة من الحدود الإيرانية ومن هناك بدأت جولاتي الميدانية .. ولاهتمامي بقضية الرحل الرعاة (كوج) وتأثير الجفاف عليهم حيث كانت عدادهم حوالي أكثر من ربع مليون عائلة، لكنه تراجع  لأقل من عشرين ألف بعد الحرب والجفاف.

وأثناء جولاتي انتهيت إلى مدينة "قندهار" جنوب البلاد وهي عاصمة للبشتون، وهناك التقيت بعض الأطباء البيطريين المحليين الذين جمعتني وإياهم لقاءات على هامش العمل وأخرى شخصية وعرفت معاناتهم مع نظام متعسف مثل طالبان وتراكم سنوات الحرب والإهمال في التنمية، وقد أسروا لي بوضوح برفضهم لما تمثله طالبان والدعم الذي تقدمه لمقاتلي القاعدة (وغالبهم ممن اصطلح على تسميتهم بالمجاهدين العرب)على أرض بلادهم وعندما سألت لما لا يتم طردهم ويمنعوا بذلك عن أنفسهم غضب أمريكا والغرب، قالوا ببساطة "مه مان عزيز" أي ضيوف أعزاء بمعنى أنهم طالما حلوا علينا ضيوفا فلا نستطيع طردهم حتى لو أدى ذلك لمشاكل، وبالفعل وبعد أشهر بدأت الحرب الأمريكية بالفعل لمطاردة هؤلاء"الضيوف" ودفع الشعب الأفغاني الكثير وسقطت حكومة طالبان.

 لقد اختبرت بنفسي تقديس الضيف واحترامه الذي عوملت به، وأنا الغريب عن هذه البلد ويبدو اسمي الشيعي واضحا فيما ارتدي الملابس الأوربية وذقني حليق، وأجادلهم في معتقداتهم وأعمال طالبان. لقد وجدت لدى هؤلاء الكرم الشديد مع الغريب والتعامل برحمة وتقدير مع الضيف.

 وبعد أن أنهيت عملي الميداني وصلت لمدينة اسبن بولداك وهي تبعد 100كم من "قندهار" وهي مدينة حدودية بين أفغانستان وباكستان، وتذكرك تماما بالعصور الحجرية من حيث كونها مدينة بدائية مهملة يكاد ينعدم فيها التعمير والبناء، وأراضيها صعبة العبور، من هناك ختمت جواز سفري الأممي وعبرت لأصل للجهة الأخرى من الحدود، لكن المسئول الباكستاني هناك رفض، قائلا أنه ينبغي علي أن طالما دخلت افغانستان عبر مطار هيرات فعلي أن أعود لهيرات ومنها أخرج لباكستان! استمرت المجادلات وعدت للحدود أربع مرات واتصل الجانب الأفغاني "الطالباني" بسفيرهم وقتها في إسلام أباد عبد السلام ضعيف وطمأنني تليفونيا ورحب بي ووصفني أيضا بنفس الكلمة الشهيرة ببساطة "مه مان عزيز"  علما أنه ونظامه كانا في صراع شديد مع الأمم المتحدة التي كنت أحد أعضائها في مهمتي تلك، لكن تقدير الضيف والغريب بقى واستمر حتى تمت الموافقة على عبوري، ويحضرني هنا من كل هذه المعاناة والتعقيد هو الموقف الشجاع من 4 أفغان كانوا مرافقين لي ولم يتركوني لآخر لحظة حتى اطمئنوا على سلامتي، وأوصلوني لمدينة في قويته بباكستان.

إن مثل هذه المواقف تجعلني أصدق أن قيم الشهامة تظهر حقا في الأزمات وليست مجرد كلمات تنطق وخطب رنانة تلقى على المسامع.

 ولعل أكثر ما أدهشني حول الأزمة التركية الأخيرة هو التنصل من أي قيم مماثلة يتشدق بها الساسة في بلادنا، تحديدا الطريقة المستكينة والمتواطئة التي يقابل بها بعض الساسة العراقيين دعاوى تركيا ويطالبون بتسليم قيادات ب ك ك دون خجل، قد يمكننا فهم تصريحات متشنجة ضد ب ك ك ومتعاطفة مع تركيا عندما تصدر من أمثال العاني والحديثي والسامرائي والمطلك ، هؤلاء لم يكونوا يوما مشردين وعاشوا في كنف نظام هجر الآلاف وشردهم، واستفادوا بصورة أو أخرى منه، كيف يمكن بالمقابل تفسير ترحيب نائب مثل علي العسكري بتهديدات تركيا؟ أما المفجع حقاً فهو ذاك التصريح الذي تبرعت به لوجه الله النائبة عن كتلة الائتلاف والمسئولة بلجنة الأطفال في البرلمان العراقي، والتي دافعت فيه عن أمن تركيا أكثر من دفاعها عن أمن بلدها العراق، وأبدت تفهما لتهديد تركيا بضرب العراق وقالت أن ب ك ك مشكلة لكل دول الجوار، فهل النائبة تمثل الشعب العراقي وتلتزم بحماية حدود دولتها أم تمثل دول الجوار؟ وهل نست السيدة  النائبة مع مشاغلها شقيقها الشهيد الكردي الفيلي الذي قتل غدرا على يد عملاء لنظام البعث الصدامي، وهل نسيت السيدة النائبة أن معاناة أهلها من الكرد الفيلية مازالت مستمرة لكن التودد لتركيا هو الخيار المفضل للنائبة بدلا من الحديث عن معاناة العراق والعراقيين وأهل ملتها الذين لا نصير لهم.

هكذا إذن يبدو أن المطالبة بطرد بقايا ب ك ك وتسليمهم ليلاقوا الإعدام على يد الجيش التركي لم يعد شيئا مخجلاً ولا يمثل هذا التسليم أي انتهاك للمباديء الإنسانية والقيم، وأين أنتي يا حمرة الخجل؟ 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com