ألعاب الأطفال جريمة كبرى للسلطات العراقية

 

فرات المحسن

f_almohsen@hotmail.com

يشير تحقيق نشر في أحدى الصحف حول البيع المباشر لملابس الشرطة العراقية والحرس الوطني والتجهيزات الأخرى المكملة لها في أحد الأسواق الموجودة وسط العاصمة بغداد.ويسجل التحقيق نوع التعامل الموجود في تلك السوق، حيث عمد صاحب أحدى محال بيع تلك الملابس الى تهديد مصور التحقيق بالقتل أن هو ألتقط صورة لمحله الذي علقت في واجهته تلك الملابس والتي تباع للراغبين بسعر لا يتعدى 50 دولارا. توضح ثورة غضب البائع وتهديداته الى أن تلك الملابس تباع في الغالب للمليشيات ومرتكبي الجرائم وباتت سلعة رائجة بين تلك الأوساط.في المقابل فان عذر السلطات الحاكمة حاول التغطية على مثل تلك الأفعال بالرد على الصحفي بالقول أن لا وجود لقانون يمنع بيع مثل هذه الملابس، وهو عذر يبدوا مضحكا لا بل سمجا ومخادعا ويلمح لوجود تواطأ علني بين بعض الأوساط في مؤسسات الدولة والعصابات المنتفعة من بيع وشراء مثل تلك السلع، مما يجعل الحكومة العراقية غير قادرة على منع استيرادها وبيعها، أو غير موقنة أساسا بخطورة ما يعنيه الترويج لمثل هذه البضائع،  أو هي مشلولة اليد ولا تتجرأ على أخذ زمام المبادرة والسيطرة على بيعها وشرائها بالرغم من التحذيرات الكثيرة والتنبيه الذي أطلقه البعض من السياسيين والمواطنين الذين يستشعرون الخطر من عمليات الخطف والتسليب والقتل التي تقع يوميا وتنسب لقوات الشرطة والجيش العراقي اللذان يسارعان لإبداء دهشتهما من وقوع مثل تلك الأحداث وينسبانها الى مجهولين يرتدون أزياء تلك المؤسستين.

لحد الآن لا تملك السلطة أية سياسة عقلانية تنظر فيها لوضع الشارع العراقي المحتقن، وبالرغم من زحمة الأقوال والشعارات والترويج للمصالحة الوطنية والسلم الاجتماعي الذي يدعيه البعض.وكذلك الخطاب الديني الذي يحض على نهج طريق الحق والعدل والسلام والمحبة،الذي تغرق به الأحزاب الدينية شوارع العراق ، فأن استراتيجياتها وسلوكها يجافيان كليا تلك القيم، وبات واضحا أن ازدواج المعايير الأسلوب المفضل لتفسير الكثير من الأفعال والأعمال المستهجنة وغير الأخلاقية التي ترتكب ويجري التمويه عليها بمقولات فارغة مخادعة ومضللة.

تعد تنشأة الطفل والحفاظ على خصوصياته ومنع الأذى عنه ووضع الخطط المناسبة لرعايته من أولى مهمات الدول والجماعات المتحضرة ( أقول المتحضرة) وقد نحت الكثير من المقولات الدينية عند مختلف شعوب الأرض وكذلك القوانين الوضعية في ذات الاتجاه.وقد نصت اتفاقية حقوق الطفل التي تعتبر جمهورية العراق أحدى الدول الموقعة عليها، في المادة 29 منها على :

1. توافق الدول الأطراف على أن يكون تعليم الطفل موجها نحو:

(أ) تنمية شخصية الطفل ومواهبه وقدراته العقلية والبدنية إلى أقصى إمكانياتها،

(ب) تنمية احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية والمبادئ المكرسة في ميثاق الأمم المتحدة،

(ج) تنمية احترام ذوى الطفل وهويته الثقافية ولغته وقيمة الخاصة، والقيم الوطنية للبلد الذي يعيش فيه الطفل والبلد الذي نشأ فيه في الأصل والحضارات المختلفة عن حضارته،

(د) إعداد الطفل لحياة تستشعر المسؤولية في مجتمع حر، بروح من التفاهم والسلم والتسامح والمساواة بين الجنسين والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات الإثنية والوطنية والدينية والأشخاص الذين ينتمون إلى السكان الأصليين

ونصت المادة 17 من ذات الوثيقة على:

تعترف الدول الأطراف بالوظيفة الهامة التي تؤديها وسائط الإعلام وتضمن إمكانية حصول الطفل على المعلومات والمواد من شتى المصادر الوطنية والدولية، وبخاصة تلك التي تستهدف تعزيز رفاهيته الاجتماعية والروحية والمعنوية وصحته الجسدية والعقلية، وتحقيقا لهذه الغاية، تقوم الدول الأطراف بما يلي:

(أ) تشجيع وسائط الإعلام على نشر المعلومات والمواد ذات المنفعة الاجتماعية والثقافية للطفل ووفقا لروح المادة 29،

 (هـ) تشجيع وضع مبادئ توجيهية ملائمة لوقاية الطفل من المعلومات والمواد التي تضر بصالحه، مع وضع أحكام المادتين 13 و 18 في الاعتبار.

الغريب أن المادة المدونة في الدستور العراقي الذي صوت عليه عام 2005 تحمل ذات الرقم الموجود في اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة وهو الرقم 29 الذي يشير الى :

المادة 29 من الدستور العراقي

 أولا

 بـ تكفل الدولة حماية الأمومة والطفولة والشيخوخة، وترعى النشئ والشباب وتوفر لهم الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم وقدراتهم.

 ثالثاًـ يحظر الاستغلال الاقتصادي للأطفال بصوره كافة، وتتخذ الدولة الإجراءات الكفيلة بحمايتهم.

رابعاًـ تمنع أشكال العنف والتعسف في الأسرة والمدرسة والمجتمع. 

بينت دراسة متخصصة لمنظمة اليونيسيف التابعة للأمم المتحدة في بغداد، أن عدد الأطفال الأيتام في العراق يقدر بنحو 4 ـ 5 ملايين طفل وأنهم في تزايد نتيجة الأعمال المسلحة والوضع الأمني غير المستقر.في مواجهة هذا الوضع المأساوي فأن المؤسسات الحكومية تفتقر لرؤية واضحة ومنهج فعلي يتبنى استراتيجية تعنى بشؤون الطفل اليتيم، وانما الأدهى ما في المسألة أنها جعلت الأمر سائبا وعلى قاعدة ((لها حلال الذي يحلها)).وعلى هذا المنوال تخلت تلك المؤسسات عن كل ما يساعد على إنقاذ الطفولة وكفالة الطفل والحفاظ عليه ومنعه من الانزلاق والسير في المسالك والطرق الخطرة والمؤذية،وامتنعت عن وضع الخطط والبرامج التي تدفع عنه الأذى والسلوك المشين وتمنعه من الاشتراك في العنف والولوج في عالم الجريمة،وهناك بعض مؤسسات فقيرة شحيحة الموارد لا تقدم إلا النزر اليسير ولعدد يبدوا صفرا أمام الأرقام المهولة من الأطفال اليتامى والفقراء.فلا توجد حلول واقعية ومباشرة ومستعجلة لدى السلطات العراقية للسيطرة على العمالة المبكرة للأطفال والتسرب من المدارس وأرقام اليتامى والمشردين المتزايدة لا بل المرعبة.ويبدوا أن الحكومة باتت مقتنعة بأن مثل هذه المهمة ملقاة على عاتق منظمات المجتمع المدني التي تتلقى المساعدات من المنظمات الدولية وهي لوحدها كفيلة بإيجاد الحلول لمثل هذه المعضلة وواجب الحكومة ينحصر في الوقت الراهن في مقارعة الإرهاب دون المهمات الأخرى.لذا قامت السلطات بإغلاق دور الأيتام الخاصة واقتصرت رعايتها على ما تعداده 469 ينتشرون في 15 دارا للرعاية الحكومية حسب ما أوردته جريدة المدى في عددها المرقم 1116 الصادر يوم 18 / 12 /2007.

ومن النماذج التي من الممكن أن تعطي الصورة الحقيقية لعدم اهتمام السلطات العراقية بشأن الطفولة ذلك الانتشار الواسع للعب السلاح والعنف بين الأطفال.فان كانت سلطة حزب البعث قد عملت على تغذية روح القسوة وتنشأة أجيال من العراقيين المخربين نفسيا وجسديا بمشروعها الفاشي المتمثل بعسكرة المجتمع حيث يترافق رفع العلم صباحا في جميع المدارس برشقات من البنادق وزج صغار السن في معسكرات الفتوة وجيش القدس والطلائع.فأن الحكومات المتعاقبة ما بعد سقوط البعث أهملت كليا شأن الطفل وتركته وحيدا في موجهة وضع متأزم ودموي وفقر مدقع يدفع لاستغلاله وإشراكه في عالم الجريمة الواسع.ولم يقتصر الأمر على هذه الصورة بل أنها غضت الطرف عن انتشار لعب السلاح بين الأطفال دون مراعاة للوضع العراقي المحتقن والوضع النفسي للأطفال بالذات. والذي يترافق مع منظر الانتشار الواسع في الشوارع لعصابات الجريمة والمليشيات وجيوش المحتل والقوى العسكرية للسلطة.ولم تتوقف السلطات العراقية مليا عند هذا الخطر وتضعه في الحسبان كونه يشكل ليس فقط عامل خطورة وإيذاء للطفولة، وانما يعد عملية تخريب متعمد لنفوس أجيال قادمة سوف تبقى متمسكة بلغة السلاح والعنف كحلول للنزاعات والخلافات.

رغم تحذيرات منظمات المجتمع المدني المهتمة بشؤون الطفل من انتشار ثقافة السلاح بين الأطفال فأن الحكومة أغلقت آذانها عن جميع النداءات وتركت الأمر على الغارب وتحت تصرف مجرمي وتجار العنف والحروب من الموردين لهذه الألعاب، الذين لا يهمهم غير كسب الأرباح وبعد ذلك فليأتي الطوفان. ففي مفارقة غريبة يطابق الصبية بين مشاهد العنف في الألعاب الالكترونية مثل ((خماسي، معركة الشوارع، معركة بغداد، القوات الخاصة)) وبين مشاهد الدم التي يشاهدونها يوميا بسبب نشاط المليشيات وقوات الاحتلال في مناطق متعددة من بغداد وبقية مدن المحافظات، فبعد أن أصبح مشاهدة جثة رجل مقتول على قارعة الطريق من الأمور العادية، فان الألعاب اليوم تأخذ منهجها في محاكاة القتل والنزاع بين المليشيات، أو بينها وبين الأمريكان أو عمليات الاغتيال ومشاهد السطو ونصب الدوريات والكمائن.وقد استطاع تجار الألعاب ومنها ألعاب السلاح تغذية السوق العراقية بالكثير من أنواع اللعب البلاستيكية والأقراص الليزرية التي تحاكي فعل العنف اليومي الجاري في شوارع العراق دون أن يكون هناك رادع أو ضوابط من قبل الحكومة. فصاحب متجر كبير أستعد لاستقبال العيد بتوفير وتهيئة أنواع كثيرة من لعب الأطفال وبالذات لعب الأسلحة التي تضم نماذج متنوعة لبنادق ومسدسات ومفرقعات قائلا : أن هذه الألعاب هي الأكثر رواجا بين الأطفال وهي المفضلة لديهم بعدما اعتادوا مشاهدتها على حقيقتها وسماع أصوات لعلعتها لسنوات طوال.وهي بالنسبة له تدر عوائد كبيرة.

وفي التفاته محسوبة بدقة اختارت قناة فضائية عراقية تبث من بلد خليجي، أيام عيد الأضحى لتوزع في محافظة البصرة وعلى بعض أطفالها لعب عديدة كهدية بمناسبة العيد وكان جل الهدايا مقدم لأولاد اختيروا بعناية وعن عمد بين سن العاشرة والثالثة عشر حيث وزعت عليهم لعب بنادق رشاشة تماثل ما يتنكبه جنود الاحتلال.بادرة القناة الفضائية تحمل دلالة كبيرة عن توجه مقصود لوسيلة إعلامية ولمدينة البصرة بالذات التي يطغي على شوارعها التوتر الدائم بسبب سيطرة وتنازع الأحزاب الدينية ومليشياتها.

ربما أن المشرع العراقي لم يلتفت لنوعية الإلزام الموجب وضعه من أجل أن تأخذ به السلطات للحد من مثل هذه الحالات لذا لم يضع في حساباته أن لا وجود لتشابه بين شيكاغو وتكساس مع المدن العراقية لذا فضل أن يترك الأمر على الغارب. وليس من الموجب قطع أرزاق الناس حتى وأن كان ذلك على حساب تخريب نفوس الأطفال ونشر وإشاعة لغة القسوة والجريمة بينهم.وربما لبعض المتنفذين في المؤسسات الحكومية خيار يتوافق مع هذا الأمر وعلى المؤسسات صاحبة الشأن الاكتفاء بالتفرج. وربما أيضا أن لغة العنف وحوار الأسلحة من صفات الفروسية والشجاعة والأيمان التي أوصت بها بعض المقولات التي لامناص من الالتزام بها كي لا يكفر البعض ويخالف النواميس والمقدسات.  

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com