|
جادة حوار عراقي... مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب (الحلقة الثامنة)
د. سّيار الجميل
كيف يفكّرون ؟ كيف يتدّبرون ؟ انتقل الان الى الحلقة الثانية التي نشرها الاخ الدكتور كاظم حبيب في مناقشته السابقة لي .. وسوف اعالج في هذا الحوار عدة امور بحاجة الى تأمل وتفكير واعادة تقييم .. وخصوصا تلك التي تتعلق بالبحث عن وسائل وادوات جديدة تفتح الطريق لزراعة وعي جديد في مجتمعاتنا قاطبة ، خصوصا مع تطور المعرفة اليوم ، واستخدام اهم منتجات العصر . مسألة الانغلاق والانفتاح ساتوقف قليلا عند نص كتبه الدكتور حبيب وهو يقول : " نحن نعيش في القرن الحادي والعشرين, ولكن ما هو أسلوب أو طريقة التفكير لدى الإنسان العربي في المرحلة الراهنة, ومن أين يأتيه هذا الانغلاق الفكري والسياسي والاجتماعي ورفض العولمة وكأنها قضية خيار وليست عملية موضوعية لا يمكن تجاوزها. لقد تغير المجتمع البدوي وتغير الريف في الكثير من الدول العربية, كما تغيرت العواصم العربية, ولا شك في ذلك. لقد دخل الراديو والتلفزيون والفضائيات ونشرات الأخبار والتقارير والأفلام عبر التقنيات الحديثة , كما أصبح الإنترنيت أداة في العمل اليومي للكثير من الناس المتعلمين, ودخلت السيارة والقطار والطيارة, ودخلت الحارثة والحاصدة والدارسة, ودخلت الكثير من الخدمات من الغرب "الكافر!" حسب تعبير الإسلام عموماً والسياسي خصوصاً, ولكن ماذا تغير في هذا الإنسان في هذه المنطقة, سواء أكان هذا الإنسان عربياً أم من قومية أخرى في هذه الدول؟ وكيف يفكر هذا الإنسان وكيف يتعامل مع الأحداث الجارية في العالم " . انني اثمن هذه الاراء تماما كونها تصدر من رجل خبر الحياة الغربية والشرقية ، ويمكنني ان اضيف على ما قاله بأن مسألة الانغلاق الفكري والسياسي والاجتماعي لا تخص الانسان العربي وحده .. ان مجتمعاتنا في الشرق الاوسط قاطبة ، بما فيها اولئك الذين يحملون قصاصات ورقية باسم شهادات عليا ينتهون في حالة من الانغلاق حتى وهم في يقرأوون في جامعات غربية ، اذ لا يعرفون من الغرب الا اسمه ، اذ ليس لهم القدرة على المشاركة في الحياة الغربية ، فكيف بالاندماج .. انهم يذهبون ويرجعون وكأنهم مثلما ذهبوا رجعوا من دون اي ثقافة ولا اي اطلاع ولا اي تجربة ولا اي مشاركة ولا اي معرفة للحياة .. لننظر مجتمعات ايران وافغانستان والباكستان والاناضول والاكراد وبلوجستان والافارقة .. ان الانغلاق الفكري شيئ والانفتاح على العولمة شيئ آخر ! ان ثمة مجتمعات داخلية تصاحبها ازدواجية معايير فهي ليست صاحبة تفكير منفتح حسب ، بل انها ليست صاحبة تفكير واضح .. انها تتعامل بازدواجية وبثنائيات بل باكثر من صيغة ازاء اي قضية ، فتجدنا نعيش فوضى فكرية عارمة منذ اكثر من خمسين سنة في اغلب مجتمعاتنا .. يا عزيزي الدكتور كاظم المشكلة ليست فقط في مجتمعات عربية بحيث نقول لقد تغير المجتمع البدوي وتغير الريف في الكثير من الدول العربية ، كما تغيرت العواصم العربية ! المشكلة في كل مجتمعات الشرق الاوسط قاطبة ، بل اجد ان بعض المجتمعات العربية التي كانت بدوية صرفة قبل اربعين سنة من اليوم ، تجدها اليوم ـ كالتي كانت تجربة عيش واقامة فيها ـ انها يسودها النظام على احسن ما يكون ، بل وتجد البدو السابقين يتصرفون بكل لباقة وهم يلبسون انظف الملابس ويتعطرون ويعرفون كيف ينظموا انفسهم .. مشكلة التخلف .. اجتماعية قبل ان تكون سياسية ! ان مجتمعات الشرق الاوسط كلها متخلفة على اشد ما يكون التخلف .. فالتخلف لا ينحصر بالعرب وحدهم ! وكأن جيرانهم من الاقوام الاخرى قد اصبحوا متحضرين ومشاركين في الحضارة الانسانية وهم ما زالوا يتعاملون بمنطق العصور الوسطى او بمنطق القبائل البدائية ! وسواء دخلت التكنولوجيا والتلفزيون والانترنيت الى المجتمعات العربية ام لم تدخل فالمشكلة ليست بهذا التوصيف ، ان الصحافة والراديو والسينما قد وجدتا منذ عشرات السنين ولم يدرك المجتمع منها شيئا ، بل انني وجدت كبار المتخصصين وهم يعيشون في الغرب وما زالوا يؤدون تقاليدهم الاجتماعية القديمة على افضل ما يكون ، ولم ينفكوا ابدا من خصالهم التي تربوا عليها في مجتمعاتهم الكسيحة .. ان المجتمعات لا تتحول عن تقاليدها وعاداتها وافكارها بمجرد وجود تكنولوجيا وابنية وشوارع ما لم تتغير الذهنية المسيطرة على التفكير .. ما لم تتغير اساليب التعليم والتربويات .. ما لم تحدث نقلة نوعية في تنمية التفكير .. ما لم تؤمن المجتمعات بالتمدن الحقيقي وتصبح مالكة لحرياتها في الاعتقاد والتفكير والاختيار .. ما لم تتخلص من ربقة العقائد الاحادية .. ما لم تكن حيادية في تقييم الاشياء .. مشكلة الوعي : هل الاسلام مسؤولا ؟ وتكتب عزيزي قائلا : " ليس في هذا السؤال أي تمييع للمشكلة أو رفض فكرة غياب الوعي أو تخلفه, بل يفترض فينا الإجابة عن السؤال الرئيسي: لماذا يعيش الناس حالة غياب الوعي وتعطل العقل؟ لا شك في أن الإسلام والمؤسسة الدينية وشيوخ الدين لهم دورهم الأكبر في هذه المشكلة, وصحيح أن الدين والعشائرية والطائفية المقيتة لها دورها المتميز والكبير في ذلك, .. " . انني معك اوافقك الرأي والتفكير ، ولكن لا اوافقك الاسباب حول غيبوبة الوعي وتعطل العقل . لقد حصرت الدور الاكبر لهذه المشكلة في الاسلام والمؤسسة الدينية وشيوخ الدين .. ثم قلت ان الدين والعشائرية والطائفية المقيتة لها دورها المتميز والكبير في ذلك .. ولكن دعني اسأل : هل المشكلة في الاسلام ام في الدين ؟ واذا كان الاسلام فهل هو الاسلام السياسي ام الاسلام الحضاري ؟ هل الاسلام لم يقبل بالاجتهاد ؟ ولم يقبل بالمقاصد ؟ ولم يقبل بالاصلاح ؟ ولم يقبل بالفقه سواء كان قديما ام جديدا ؟ هل كانت المؤسسة الدينية حجر عثرة امام ما حصل من تقدم علمي وركام معرفي وانجاز حضاري في القرن الثالث الهجري؟ هل منعت المؤسسة الدينية الفيلسوف ابن رشد ان يكون استاذا للفلسفة في العالم ؟ هل منعت المؤسسة الدينية محمد اقبال من قول الشعر ؟ هل منع الازهر ام كلثوم ان لا تغنّي وتطرب الناس ؟ هل وقفت المؤسسة الدينية ضد تحرر المرأة في العراق ابان الخمسينيات والستينيات ؟ ومن تقصد يا عزيزي بشيوخ الاسلام ؟ ان هناك ثلاثة اصناف من هؤلاء الشيوخ : 1) علماء دين وفقهاء ومجتهدين كبار ليست لهم الا مؤسساتهم وحوزتهم .. 2) ووعاظ سلاطين معممين كيفما يكون رب الدار فهم يرقصون .. 3) وملالي وسدنة جوامع وحسينيات لا تأثير لهم الا في دواخل اماكن عباداتهم .. كل هؤلاء ان انتقلوا من وظائفهم الاجتماعية والاخلاقية والفقهية والوعظية ( وحتى ان كانوا اصحاب مصالح دنيوية تجارية ) التي هم افضل من يقوم بها الى ساسة واعلاميين واصحاب قرار ونواب واصحاب مصالح سياسية واعلامية وتشريعية باسم الاسلام السياسي واحزاب دينية فلقد حلت الكارثة .. ان الدين باستطاعتك تطويعه لكثرة الابواب التي تدخل منها اليه او تخرج منها عليه .. ولكن ان حل الاسلام السياسي فهو يصبح مشاركا لك في هندسة الحياة بل بعثرتها .. انك تستطيع ضبط اهواءه في المجتمع ولكن لا تستطيع مقاومة اجندته في الدولة .. وعليه ، فان مشكلتنا ليس مع الاسلام بحد ذاته ، بل ان اصبح ايديولوجيا سياسية مهيمنة تفرض اجندتها الاحادية على كل الحياة الدنيوية ففي ذلك قتل للحياة المدنية المعاصرة التي لا يمكن ان يستجيب لها رجال الدين مع مؤسساتهم كونها تقضي على مصالحهم وتكسباتهم وتمثيلياتهم والاعيبهم .. ان المجتمع الواعي سيكتشفهم ، ولكن ليس باستطاعته مواجهتهم ، ذلك ان المجتمعات قاطبة معهم ، فهم يتمسكون باسلحة المجتمع ، فكيف ان حلّت السلطة بايديهم . الغلو والتطرف ليس من الاسلام ان المشكلة ليست هنا يا صديقي ونحن نعالج غيبوبة الوعي .. المشكلة في كيفية صناعة المجتمع المدني بعيدا عن اي حزب ديني متعصب او تيار ديني متطرف .. المشكلة تكمن في كيفية اقناع من يمّثل هذا الطيف الملتهب بأن كل شيئ نسبي في هذه الحياة وليس هناك هذا الكم الواسع من المطلقات التي لا يمكن تصديقها تحت اي باب من التفكير .. المشكلة هو كيفية تخليص المجتمع من الاوهام المسيطرة ليست بالضرورة باسم الدين ، بل باسم التاريخ او باسم التراث او باسم العادات والتقاليد .. ان العشائرية والطائفية لا علاقة لهما بالدين ، ولكنهما من الاوبئة الفتاكة التي ليس من السهل ان تفك اعماق من يؤمن بها عنها .. انني قد صادفت بشرا تجده سويا من رجال ونساء ، بل وتجده يحمل تخصصا وثقافة ومنفصل تماما عن الدين وربما يغالي في ذلك كثيرا ، فازجره وانهيه احتراما لا تقديسا ، ولكن تجد مثل هذا البشر طائفي حتى النخاع سواء كان سنّيا ام شيعيا ام درزيا ام نصيريا .. الخ فالطائفية نزعة متشددة مغالية متطرفة في اقصى الضد لا علاقة لها بالدين وبالاسلام ابدا .. انما يعتمد الدين بابا للتمسح به من اجل تلك الطائفية الرعناء .. وما تجده في النزعة الطائفية تجده في النزعة العشائرية فالاسلام بعيد جدا عن القيم القبلية والعشائرية وبشكل واضح منصوص عليه ، ولكنها نزعة قديمة في الانتماء والتفاخر بالاعراق والهياكل والبطون والاطراف والاطراف .. وما تجده في النزعة العشائرية تجده في النزعة القومية الشوفينية التي تذهب بعيدا في تقديس الذات العرقية والثقافية وهي بعيدة جدا عن الاسلام ايضا الذي لا يعترف بها ابدا .. وهنا اود التنويه بأن النزعة القومية لم تنحصر لدى العرب الذين فشلوا في تحقيق ما نادوا به من خلالها كأيديولوجية ، بل نجدها لدى اغلب شعوب الشرق الاوسط وبمنتهى الاساليب الشوفينية العدائية ، فالعرب ليسوا وحدهم بقوميين فاشيين ، اذ ان هناك من سبقهم في طورانيته التركية وبارسيتيه الايرانية .. وهناك من لحق بهم جميعا من قوميات تريد استعادة ادوار لها في التاريخ ، او تأسيس ادوار قومية على حساب الاخرين . علاقات انتاج مشوهة وسياسات احزاب مؤدلجة !! وتستطرد قائلا : " وصحيح أن مجتمعاتنا منغلقة على نفسها بطرق وأساليب وأشكال أخرى تختلف عما كانت عليه في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين, ولكن ماذا يكمن وراء كل ذلك, وما هي الأرضية التي تعيد إنتاج ذلك؟ هل التخلف قدرنا وغياب الوعي نصيبنا, أم أن هناك عوامل كامنة وراء ذلك؟ هنا أحاول أن أتحرى عن تلك الأسباب والتي لم يخلو بحثك يا صديقي العزيز من تشخيصها, وأن كنت قد مررت عليها بسرعة, وأقصد بذلك حين أوردت موضوع الإنتاج وعلاقات الإنتاج وما ينشأ عنها ويبنى عليها من فكر وأسلوب تفكير وتعامل من جانب الفرد والمجتمع والنخب الحاكمة أو النخب المثقفة. من أين يأتي الوعي القاصر أو الوعي المشوه لدى الإنسان بالحياة المعاصرة وبالعولمة وبالمنجزات الهائلة التي أوصلت الإنسان إلى مستوى الحضارة الراقية الراهنة؟ " . هنا ما الذي يمكنني قوله للاخ حبيب ؟ ان قصدي يا صديقي العزيز هو ان مجتمعاتنا ازدادت انغلاقا وتحجرا عما كانت عليه في الماضي .. وان اردت ان ازيدك في تشخيص عواملها كوني قد مررت عليها بسرعة ـ كما تقول ـ والحق يبدو معك فان موضوع الانتاج وعلاقات الانتاج وما ينشأ عليها ويبنى عليها من فكر واسلوب تفكير وتعامل من جانب الفرد والمجتمع والنخب الحاكمة او النخب المثقفة .. فهي ـ عندي ـ لا تكفي ، بل وقد حللت في الحلقات السابقة كيف كان الانتاج في ظل علاقات انتاجية مهترئة مقارنة بما حدث في الخمسين سنة الاخيرة من حياتنا التي انتكست وهزمت شر هزيمة . وهنا ربما تخالفني التفكير عند هذه النقطة التي سابقى اضرب على اوتارها كثيرا لقناعتي ان ما حصل من جنايات سياسية من قبل القوميين والشيوعيين اليساريين والاشتراكيين والحركيين والبعثيين والاسلاميين بحق اجيالنا الجديدة يفوق كثيرا ما اقترفته القوى القديمة في المجتمع من محافظين واصلاحيين ومسلكيين ونهضويين ابان النصف الاول من القرن العشرين بحق اجيالنا الراحلة ! هنا ، لابد من اعادة نظر في ما حصل من جنايات سياسية داخلية بحق التحولات الاولى . هنا ينبغي ان ندرك ان الشرق الاوسط لم يحظ برعاية ابوية من قبل نخب متحضرة فعلا .. هنا لابد من الاعتراف كم ارتكب النهضويون الاوائل والمستنيرون والاصلاحيون والوفديون والدستوريين والاستقلاليون من اخطاء مقارنة بالاخطاء التي زاولها كل من القوميين والناصريين والبعثيين والحركيين والاشتراكيين والشيوعيين وكل قوى اليسار .. من اخطاء كبيرة وجسيمة كي يصل الاسلاميون اليوم الى السلطة في اهم ثلاث بلدان في الشرق الاوسط : ايران وتركيا والعراق .. علينا ان لا ننسى دور العوامل الخارجية في رعاية جملة من التيارات السياسية والقيادات العسكرية وجعلها في سدة الحكم لتأسيس دكتاتوريات فاشية في المنطقة .. علينا ان لا ننسى ما صنعه الانقلابيون من العسكريين السذج وما ولد من دكتاتوريات لم تعرف روح المصالحة ولا المسالمة ولا المسامحة .. ظاهرة الاستعمار : المصطلح واللا وعي به علينا ان لا ننسى ادوار التيارات الاجتماعية القديمة كي تصبح تيارات سياسية تصل درجة تعلق الناس بها حد التأليه .. لقد كانت الايديولوجيات التي استعيرت من مصادر لا علاقة لها بنا سببا في تشبث المجتمع بعاداته وتقاليده باسم التراث مرة وباسم الاصالة مرات .. لقد ادان الجميع ظاهرة " الاستعمار " وخصوصا في الاحزاب والقيادات والزعامات والاعلاميات لدى العرب خصوصا ، ولما عدت ابحث عن اصول استخدام هذه " الظاهرة " التي لم تتداولها اجيال ما قبل الحرب العالمية الاولى ، وجدت ان المصطلح اول ما استخدم في نهاية العشرينيات ومن ثم في الثلاثينيات من القرن العشرين ، ووصل ذروته في الستينيات والسبعينيات ، ويرجع في اصله الى استخدامه بشكل كبير بعد ثورة اكتوبر الاشتراكية عام 1927 ، اذ ترجم بداية مصطلح Colonialism ( اي : الاستعمار ) لأول مرة بعد الحرب العالمية الاولى ، ثم شاع مصطلح جديد ترجم بعدئذ وهو مصطلح Imperialism (أي : الاستعمار الجديد ) .. والفرق الاصطلاحي بين الاثنين ان الكولينيالية تعني الاستعمار القديم ، وان الامبريالية تعني : الاستعمار الجديد . وعليه ، فان الظاهرة برمتها مستعارة بالرغم من رفض الشعوب للقوى الغازية والمحتلة والمنتدبة والمتحالفة .. ان الوعي لم يستنبط حتى يومنا هذا بأن دول الشرق الاوسط قاطبة كانت ولم تزل فاقدة استقلاليتها وارادتها وان ىالشرق الاوسط برمته كان وسيبقى في رعاية الغرب بعد ان تحّول النفوذ من كل من البريطانيين والفرنسيين الى ايدي الامريكيين . ان الصراع الفكري والسياسي غير المتوازن بين الاحزاب اليسارية الشيوعية وبين الاحزاب الاصلاحية القومية وكلها عملت باسم الثورية والاشتراكية كذبا ونفاقا قد سببت شرخا عميقا في التفكير . لم تتقبل المجتمعات في الشرق الاوسط الثورة على التقاليد لا بالاعلام ولا بالاضطهاد .. ففقدت القوى اليسارية في مجملها ادوارها شيئا فشيئا لصالح قوى الوسط بعد ان فقد اليمين كل اوراقه ومصالحه في الانقلابات العسكرية .. لم تكن الاحزاب الاصلاحية والقومية وسطا بل انها نادت بالثورة القومية والاشتراكية العربية والتحرر العربي وتحرير فلسطين .. ولكنها وازنت بين المشيتين لكسب الناس فقالت بالاصالة والمعاصرة او التراث والتقدم .. انها بهذه الازدواجية عاشت زمنا ثم انتهت لئن هناك من جاء على اكتافها ليزيحها عن الطريق ويسيطر على المجتمع . نعم لقد ولد الوعي القاصر والمشوه اذ تتساءل : أين يأتي الوعي القاصر أو الوعي المشوه لدى الإنسان بالحياة المعاصرة وبالعولمة وبالمنجزات الهائلة التي أوصلت الإنسان إلى مستوى الحضارة الراقية الراهنة؟ ان مشكلة الوعي القاصر والمشوه قد خلقته التيارات المعاصرة نفسها ، فالتيارات المتخلفة هي حصيلة لما زاولته الاحزاب الجديدة . كيف ؟ رواسب التفكير الايديولوجي ان رواسب التفكير الايديولوجي الذي سيطر على حياتنا الفكرية والسياسية والثقافية في القرن العشرين ، لم يزل راسخا في عقول وضمائر بعض المثقفين والسياسيين والاكاديميين العراقيين ، بل وعند العديد من ابناء منطقتنا رسوخا كامنا ، وليس باستطاعتهم ابدا التخّلي عنه او التخلص منه برغم كل التبدلات والتحولات التي طرأت على حياتنا كاملة في يومنا هذا .. ان حياتنا السياسية في منطقة الشرق الاوسط تعيش اليوم فراغا سياسيا وفكريا هائلا بسبب انسحاب تيارين اساسيين من الساحة ، اي بمعنى انسحابه من تفكيرنا وواقعنا : اولاهما : الفكر القومي العربي الذي سيطر على عواطف الناس لمدة 30 سنة 1949 – 1979 ، لكي يحل بدله الاسلام السياسي الذي مع العام 2009 سيكمل ثلاثين سنة من حياته وسينفرج الوضع عن تفكير مختلف ربما سيقود الى مأساة تاريخية وربما سينتج حالة خلاص .. ولكننا نجهل طبيعته وعناصره حتى الان. اما ثانيهما : فكان يتمّثل بالشيوعية العالمية التي سادت في منطقتنا على مرحلتين : مرحلة التأسيس 1917- 1947 ومرحلة الحرب الباردة التي تبلورت لما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى العام 1977 مرورا بعهد الوفاق بين المعسكرين وقد ختم حياته بانهيار المنظومة الاشتراكية في مطلع التسعينيات من القرن العشرين .. ولم يكن هناك من بدائل الا السيطرة الكابيتالية (= هيمنة رؤوس الاموال ) التي تبلورت متطورة بشكل واسع لرؤوس الاموال اثر التحول التاريخي عن مرحلة الامبريالزم ( = الهيمنة السياسية ) .. وفي كل من هذه المراحل يعيش فراغا كبيرا كالذي يعيشه العالم الاسلامي (= واغلبه في عالم الجنوب ) .. ويعيش عالم ما بعد المنظومة الاشتراكية في حالة اخفاق لا في حالة صراع .. فلا القومية العربية ولا الشيوعية العالمية ولا الاسلام السياسي بقادر احدهما او ثلاثتهما على الوقوف امام هذا المارد الجديد الذي غير حياتنا ، وشرخ تفكيرنا ، وجعلنا جزءا من هوامشه .. وبنفس الوقت فان عالمنا في الجنوب ليس باستطاعته الحياة من دون عالم الشمال . علينا ان لا نكابر ، ذلك ان عالم الجنوب ليس لديه القدرة على ان يبقى 24 ساعة واقفا على رجليه من دون عالم الشمال .. وعالم الشمال هذا الذي يجثم على مصادر الطاقة وثروات الارض ويهيمن على علاقات الانتاج باختراق الشركات ورؤوس الاموال في عموم الارض وكل المنتجات والصناعات والاغذية والادوية والادوات والمنتجات والمواصلات وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات .. الخ هل تنفع معه ما تبقى لدينا نحن من فضلات ايديولوجية ومن استعراضات فارغة ومن شعارات طنانة ومن اشعار واقوال ومأثورات وصراخات وكتابات ؟ هل تنفع معه هذه الاساليب المضحكة التي يزاولها القادة وتمارسها النخب ( المثقفة ) وتؤمن بها المجتمعات في بيئاتنا التي تملؤها التناقضات ؟ العالم في قبضة المارد اي فكر هذا الذي نتشدق به باستطاعته ان يقاوم هذا المارد الكاسح الذي يبدو انه قابض على انفاس العالم كله ؟ اية ادوار واية مواقف يمكننا اتخاذها من اجل ان يلتفت الينا ؟ اية حقوق مضاعة على مدى مائة سنة يمكنها ان تعود الى قبضتنا ونحن لا ندري كيفية التعامل معه ؟ اية اهداف واية امنيات واية احلام كتلك التي آمنا بها وطلبنا تحقيقها يمكنها ان تكون اليوم بعد ان ضيعنا طرقنا وشتتنا جهودنا وقتلنا مشروعاتنا ؟؟ لماذا شعوب هنا قريبة وشعوب هناك بعيدة امتلكت الوعي بكل ما يجري وهي تعمل من اجل ان يكون لها مكان تحت الشمس .. في حين تعطلت قدراتنا وتجمدت عقولنا واصبحنا لا نفهم الا لغة الشتائم والتخوين والكراهية وتراكمات الاحقاد ؟ من علم ملايين الناس كل هذه الاقانيم السوداء ؟ من جعلهم ينشدّون دوما الى الوراء دون استقامة الطريق ؟ من جعلهم يلوكون النصوص صباح مساء وهم لا يدركون كم هو الزمن ثمين في مقياس الشعوب ؟ من علمهم هذا الكسل وهذا التواكل وهذا الاستسلام للاقدار ؟ من جعلهم لا يعرفون الا المثالب والسوالب في هذه الحياة ؟ من قيد افكارهم وسجنها في الغرف المظلمة ؟ من جعل تصوراتهم لا تبتعد اكثر من الاكل والنوم والتناسل وتلبية حاجات نداء الطبيعة ؟ ان زمننا هذا قد خلق للاذكياء والمبدعين والبشر الخلاقين والوعاة والحرفيين والمكتشفين .. ولا مكان للاغبياء والكسالى والمقلدين والمرددين والمتكلسين والنائمين والهائمين والخياليين .. ان زمننا الذي يمضى نحو الامام سيصبح غير زمننا .. وان المكان الذي نعيش فيه سيكون غير مكاننا .. العالم كله يدخل شيئا فشيئا في اطوار غير اطواره الاولى التي الفناها في القرن العشرين .. انه يدرك ان المارد المعاصر سيسحقه ان لم يهم بالتسارع ليس من اجل الخلاص ، بل من اجل ان يجد له مكانا جديدا في ظل المتغيرات سريعة الجريان .. ان المارد المعاصر لا يهمه الا كيف يحافظ على قوته وتكنولوجيته وتطور حضارته ونظم معلوماته ومصالح اقتصاداته .. الخ انه لا يمكنه البتة ان يتأخر عن سيرورته المتسارعة من اجل ان يفهم معنى عبارة معينة او نص كلاسيكي قديم او شعار سياسي لا يعني شيئا اليوم .. ان المارد المعاصر يهمه كيف يستحوذ على الايدي العاملة الرخيصة ويهمه كيف يسّوق بضاعته الكمالية واسلحته الفتاكة وسلعه الجديدة .. انه بقدر ما يهمه الانتاج وتحسينه يهمه ملايين المستهلكين .. دعونا منه كي نلتفت الى تياراتنا واهوائنا واتجاهاتنا .. مئة سنة مرت ولم تحقق القومية العربية اهدافها .. فهل ننتظر مائة سنة اخرى حتى تتحقق تلك الاهداف ؟ عشرات بل مئات الاحزاب الدينية الاسلامية ولدت في غضون اقل من ثلاثين سنة اثر ما سمي بـ " الصحوة الدينية " ، فهل ننتظر ثلاثين سنة اخرى من اجل ان يحقق الاسلاميون امنياتهم وتصوراتهم ؟ انتهت الشيوعية العالمية من فوق الارض بعد ان انتحرت على ايدي اصحابها ولم تكمل رسالتها .. ولم يزل هناك من يصفق للمارد الجديد وهو يسبح باسم صراع الطبقات ! انتهى بعض الحكام المتوحشين الذين حكموا بالحديد والنار .. ولم يزل هناك من يمجد ذكراهم بالرغم من كل ما اقترفوه بحق اوطانهم ومستقبل اجيالهم ! المهم ، ماذا نفعل اليوم ازاء العالم كله ؟ سيكون الجواب حتما مجرد فوضى كلامية وشعارات سياسية واستعراضات انشائية ومواعظ دينية ومأثورات تاريخية وخطابات عاطفية واشعار وجدانية واقاصيص شعبية ومؤتمرات فكرية وندوات سياسية وحزبية واعلاميات تلفزيونية وفضائية .. ان كلها لا تنفع ابدا .. اننا ان جمعنا كل مقترحات ومشروعات ومطالبات وتظاهرات الدنيا كلها ، فهي لا تساوي قلامة ظفر ازاء قرار يوقعه حاكم من الحكام .. او قانون تشرعه سلطة عليا . وعليه ، فان النخب العليا في اي مجتمع مطالبة بالضغط على الحكومات من اجل التغيير والتبديل في المناهج السياسية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية .. وكل ما من شأنه ان يأخذ بالتحولات التاريخية من دون اي طفرة وراثية لا اساس لها من الصحة ، ومن دون اي قفزة نوعية واهية ، ومن دون أي حرق للمراحل على مستوى الحزب الحاكم والشعب ياكل بعضه بعضا .. المطلوب تغيير جذري في النهج وانفتاح حقيقي على العصر .. مطلوب ان نكون واضحين في مقاصدنا واهدافنا ومنهجنا بعيدا عن اللف والدوران وعن اللعب بالتناقضات وعن ثنائية التراث والمعاصرة وعن ازدواجية المعايير وعلينا ان نسلك طريق التفكير المدني وفرض القانون واحترام الماضي لا تقديسه والبقاء ليل نهار في صوامعه البائسة .. الهند .. نموذجا متقدما من عالم الجنوب يقول الدكتور حبيب : " لو ألقينا نظرة على الهند التي أوردها الزميل الجميل كمثل للديمقراطية والتي لا أختلف معه في هذا التشخيص. ولكن ألا يرى الزميل معي أن الهند تعيش في مجتمعين , رغم التداخل بينهما, مجتمع مديني صناعي علماني متقدم وديمقراطي من جهة, ومجتمع آخر ريفي متخلف حيث المهراجات والراجات وأصحاب الإقطاعيات الواسعة حيث الاستغلال البشع والصراع الديني والمذهبي والقتل والتدمير ووأد البنات أو وضعهن في المعابد لأغراض مختلفة ... الخ. لا يختلف كثيراً في ممارسات التخلف بين أتباع الدين الإسلامي أو الهندوس, رغم ما في الدين الهندوسي من مسالمة وتسامح, ولكن يبقى الدين قاعدة للتخلف والتعصب والعنف " . هنا اتوقف قليلا محاورا لقول : عندما اوردت الهند نموذجا لما هو سائد في عالم الجنوب ازاء عالم الشمال كنت ادرك ان الديمقراطية فيها لم تصل الى ما وصلت اليه في سويسرا او كندا .. ولكن الهند تعيش تجربة ديمقراطية طويلة نشأت على اعقاب الاستقلال عن بريطانيا ، وكانت ولم تزل عضوا في الكومنولث البريطاني من دون ان يعترض هندي واحد على ذلك ! وينّصب رئيسا مسلما عليها برغم الصراع الاجتماعي بين الهندوس والمسلمين ! اننا لا نريد من الهند ان تكون مجتمعا اشتراكيا ، فالديمقراطية لا تفرض الاشتراكية ، لأن الاشتراكية وتجاربها ايضا لم تزاول الديمقراطية يا عزيزي الدكتور كاظم ... اذا كانت هناك في الهند مشكلات سكانية واقطاعات وراجات ومهراجات واستغلال .. الخ مما ذكرت فهل باستطاعتنا القول ان ليس هناك ديمقراطية في بريطانيا اذا لم يزل هناك لوردات واصحاب رؤوس اموال واستغلال رأسمالي ونظام ملكي قديم .. الخ مما اقول ؟؟ انني قد حددت الهند او البرازيل مثلا لما يجري فيهما من تحولات على مستوى الانتاج والكفاءات والاحتراف والعمل وساعات العمل والاستعانة بالخبرات الهندية في البرمجة والاتصالات والتوظيف لأنه شعب يعمل كي يأكل .. ولم يكن يوما يعتمد على ريع نفطه ليتكسب منه ! مع الاخذ بنظر الاعتبار ان الهند شبه قارة تزدحم بالسكان الى درجة لا يمكن تخيلها .. افليست تجربتها مثلا يحتذى خير من تجارب احادية حاولت بناء الاشتراكيات من دون ديمقراطية فتهاوت بسرعة جميعها . عودة للمرّبع الاول : هل تنجح الديمقراطية في مجتمعاتنا العربية ؟ يقول الدكتور حبيب : " المجتمعات في الدول العربية متخلفة وغير ناضجة للديمقراطية وغير قادرة على ممارستها, حيث يلعب الإسلام دوره في ذلك. والسؤال كيف يمكن تغيير هذه الحالة ابتداءً من الآن, هل يجري الحديث عن تغيير التربية والتعليم والثقافة, وهي مسائل مهمة, ولكن من يغير كل ذلك؟ ألا ترى إننا بحاجة إلى أرضية للتغيير بحيث تسمح للنخبة المثقفة أن تلعب دورها في عملية التغيير, لا أن يصادر السياسي دورها أو يحجمه أو يحتويه ويبعده عن التأثير المستقل في المجتمع؟ كما علينا أن نرى من يشارك في عملية التربية والتعليم, وهل في مقدور هؤلاء أن يلعبوا دوراً في عملية التغيير وفق المناهج التي تدرس في هذه الدول, وبشكل خاص المناهج الدينية والأمثل كثيرة, رغم أن بعضها أسوأ من غيرها, وحيث نجد منافسة بين الحكومات والمؤسسات الدينية وشيوخ الدين ". مع اعتزازي جدا بآراء الدكتور حبيب الذي اشاركه فيها كل الصواب حول تخلف المجتمعات ( ولكن ليس العربية فقط ، بل كل مجتمعات الشرق الاوسط ) ، فلابد من القول ان ارضية التغيير اساسية ، وهنا يعترف الاخ الدكتور حبيب بان مجتمعاتنا غير ناضجة للديمقراطية حيث نرجع معا الى المربع الاول الذي انطلقنا منه .. اذ يذكر الجميع ان هذا " الحوار " انطلق من مقال نشرته بعنوان ( هل تنجح الديمقراطية في مجتمعاتنا العربية ؟ ) .. ويشاركني الرجل ما قلته لأول مرة من ان تلك المجتمعات غير قادرة على ممارسة الديمقراطية . السؤال : هل الاسلام نفسه يلعب دوره في الضد من الديمقراطية فكرا وتطبيقا ؟ ام انها مشكلة رجال دين واحزاب دينية وبنية سياسية تتخذ من الدين وسيلة للانقضاض على الحياة السياسية وتحويلها الى سوق هرج ومرج ؟؟ الاسلام كأي دين لا يمكننا اقتلاعه من النفوس لأنه غير مسؤول اصلا عن هذا الواقع ، ولكن يمكنه ان يكون عاملا اجتماعيا رائعا في التعامل والمقاصد والاخلاقيات ، فكيفما يكون المجتمع يكون الاسلام وليس العكس ، وهذا ما المحه من طبيعة فهم كل مجتمع في العالم الاسلامي للاسلام ، فلكل بيئة منه اشكالها الاسلامية المختلفة عن الاخرى ، فهذا العراق هو غير تونس وهذه تركيا هي غير ايران وهذه المغرب هي غير السعودية وهذه لبنان هي غير اليمن .. الخ ان ارضية التغيير لا يمكنها ان تبنى ابدا بمعزل عن اصحاب قرار ، والنخبة المثقفة والواعية ليست بصاحبة قرار .. ان القضية ستكون محسومة تماما اذا ما صدر دستور ( = قانون اساسي ) لأي بلد يحدد الحقوق والواجبات ، ويؤسس لحياة مدنية ويكون مصدرا حقيقيا للتشريعات .. اذا نجح اي مجتمع بعلمنة الحياة وتأسيس فصل حقيقي للسلطات .. عند ذاك تستلهم كل التشريعات وتصدر كل القوانين ويمكن للنخبة ان يكون لها دورها في التغيير . خطل التعويل على النخبة ( المثقفة ) و ( الواعية ) اعترف بانني كنت على خطأ عندما دعيت في العام 1997 في كتابي ( العولمة الجديدة والمجال الحيوي للشرق الاوسط ) الى تشكيل برلمان للمثقفين العرب ليأخذ زمام المبادرة من اجل التغيير ، وقد نشرت الكاتبة اللبنانية تغريد بيضون دراسة مفصلة عن الكتاب المذكور ونشرتها في مجلة ( الاجتهاد ) اللبنانية التي يحررها الاخ الدكتور رضوان السيد .. انتقدتني صاحبتها لهذا الرأي وهذه الفكرة التي بدأت اخضعها للدراسة والتفكير مع الذات .. وخرجت بنتائج مهمة مخالفة لما كنت اؤمن به ، وقد كرستها في مقال عنوانه : " المثقفون العرب : ارتال وراء التخلف " ( النهار البيروتية والحوار المتمدن ، 30 /7/ 2003 وصحف اخرى ) قدمته بالنص التالي : " كنت قبل سنوات خلت أؤمن بأدوار المثقفين العرب في تحديث المجتمع.. وكنت ــ أيضا ــ اتأمل منهم وعلي ايديهم تحقيق كل التطلعات والامال الواسعة حتي وصل الأمر بي ان ادعو في كتابي (العولمة الجديدة والمجال الحيوي للشرق الاوسط: مفاهيم عصر قادم) الي ان تغدو نخب المثقفين العرب هي المحركة الاساسية لمستقبل التكوينات العربية في القرن الواحد والعشرين بدل الساسة! واعترف اليوم انني كنت واهما او بالاحري علي خطأ.. اذ اثبتت الايام لي ان جملة كبيرة من مصائبنا يشارك المثقف العربي غيره في تحملها او انه ضالع في اوزارها ويا للاسف الشديد!! لقد غيرت الايام الاخيرة قناعات كنت التزمها عن العرب بشكل عام ولابد من الجميع ان يعيدوا التفكير بكل تموجات الافعال وردود الافعال بعيدا عن التهويم والمخيالات والشعارات والكلام الفارغ الذي تدبجه ارتال ممن يسمون انفسهم بـ(المثقفين العرب) الذين يبدو لي انهم لا يعرفون ابسط موازنات التفكير ولا يتمتع قطاع كبير منهم بأفق واسع من الاولويات وانهم يتزاحمون من دون قراءات ولا تطوير ولا مقارنات ولا تغيير.. انهم يعشقون ان يرددوا الاقوال ويكرروا المصطلحات ويلوكوا الشعارات ويجتروا الخطابات المألوفة في مؤتمراتهم وصحفهم ومجلاتهم وشاشات فضائياتهم.. الخ وانها كلها قد اصبحت ادوات اعلامية متطورة في نحر مستقبلهم علي ايديهم! " . لماذا غيّرت قناعتي بالمثقفين العرب ؟ لقد غّيرت قناعاتي للاسباب التالية : 1/ لأنني وجدت ان النخبة هذه التي نتشدق بها لم تزل تحمل ترسبات مجتمعاتها ، فعميد كلية يتشدق بعشائريته ، وكاتب ومتخصص يحمل الدكتوراه يتشدق بطائفيته .. وآخر منغمس بشوفينيته مهما كان نوعها وانتمائها .. فضلا عن كونهم يغلّبون عواطفهم السياسية على الحقائق التاريخية والاجتماعية ... 2/ انها تصفق في غالبيتها للانظمة السياسية والتيارات الايديولوجية ، وتغدو ابواقا لاحزاب معينة او نظما سياسية معينة او تغدو على هوامش واعتاب سلطة .. وان قلة تبقى مستقلة ونظيفة ولكنها مهمّشة .. 3/ ان الخمسين سنة الاخيرة قد اختلط فيها الاخضر بسعر اليابس ، ولم نجد حتى بعد الفرز الا اناس يتشدقون بالثقافة وهم لا ثقافة لديهم ابدا ، بل تنقصهم ابسط المعلومات العامة . 4/ لم تنجح اي منظمة او مؤسسة او تجمع او مشروع عمل من قبل المثقفين العرب .. فكثيرة هي التجارب التي فشلت بدءا بتأليف انسكلوبيديا ومرورا بأي اتحاد للادباء مثلا ونزولا الى اي مشروع صغير . 5/ لم نعد نجد المثقف العضوي المهموم بقضايا مجتمعه ، وان وجدناه فهو ضائع بين تناقضات صنعها المثقفون العرب انفسهم احدهم ازاء الاخر فاستشرت الانويات والاعلاميات واسواق النخاسة السياسية وتدخل هذه او تلك من السلطات .. ونحن ندرك من هم رواد المهرجانات الثقافية والاستعراضات الشعرية .. الخ الاستنتاجات هنا اسأل : على ايدي من تتعلم الاجيال الجديدة ؟ انها تتعلم على ايدي اناس جعلتهم الاقدار اصحاب شهادات عليا .. بل وهناك رتل خفي تسلل الى مواقع عليا ومناصب سياسية ( في العراق خصوصا ) برز مؤخرا يتجرأ بحمل لقب الدكتوراه وهو لا يحملها ابدا .. بل وهو يتصدر في صنع القرار ولا يتورّع ابدا في الابقاء على كذبته من دون ادلة ومن دون استشهادات .. تقول لي النخبة المثقفة ، فاقول ان هذه النخبة بحاجة الى غربلة وان النخبة بحاجة الى وعي وان النخبة بحاجة الى اخلاق .. والى اصلاح والى اعادة تقييم والى اعادة تأسيس . ان ما حدث في الخمسين سنة الثانية من القرن العشرين قد اساء كثيرا لاسم المثقف والمثقفين . ان ارتالا كانوا وما زالوا من مثقفي سلطة ومن مروجي اعلام ومن كّتاب لدى قيادات ومن مزوري ثقافات .. وقد دخل الميدان اليوم رجال اعمال وتجار طفيليين ليسموا انفسهم بمثقفين ويستحوذوا باموالهم على الثقافة والمثقفين .. اننا امام مشكلة اخرى ، فالمجتمعات تنتظر من المثقف دوره ، والمثقف الحقيقي تائه وسط هذه التناقضات المريرة .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |