|
على الرغم من مرور عقد وأكثر من نصف العقد من الزمن على رحيله إلا أن أثره الإبداعي لا زال شاخصا ً بيننا، ينير الطريق للأجيال الصاعدة التي لابد وأن تمر بمحطته الفنية لتستزيد مما أضافه على جوهر العملية الإبداعية المسرحية في العراق عبر سنوات من العمل الدؤوب منذ نعومة أظفاره حتى لحظة وفاته، كما أن حضوره المعرفي كأستاذ ومخرج وممثل ساهم في ترسيخ الظاهرة الفنية المسرحية في العراق فهو ينتمي إلى جيل مهم من الرواد إستطاع بفضل إيمانه بقيمة العمل الفني وقدرته في تنمية العقل البشري، لقد إستطاع جلال أن يؤسس لحالة من الوعي الوطني على خلفية تعاطيه مع أبرز الموضوعات التي تشغل واقع المواطن العراقي حينذاك، وكانت حصيلة رحلته مع الفن المسرحي جملة من العروض المسرحية المتميزة التي إستندت إلى آليات التجريب ومجسات الجمال الفني، يعتبر الفنان الرائد المبدع المرحوم جلال صاحب البصمة المهمة في مستهل مسيرة المسرح العراقي التي تمثل طور التشكيل والتبلور من خلال تبنيه لطروحات إتجاهات مسرحية مختلفة ولاسيما مشروع المسرح الملحمي الذي أطلقه الألماني برشت بيد أن ما يحسب لجلال أنه حاول أن يسبغ روحا ً محلية على ذلك الطراز محاولا ً نسج نموذجه الخاص وهو بذلك يبتعد عن فخ الاستنتاخ والتقليد، وهو بهذا يسعى لإيجاد خصوصيته إستنادا ً إلى ضرورات المجتمع العراقي، ويمكن القول أن تجربة الفنان إبراهيم جلال لم تنفصل عن تجربة المسرح العراقي من حيث أنها تمثل سلسلة من التحولات والتغيرات الناجمة عن تفعيل مبدأ التجريب سواء فيما يتعلق بعمل الممثل وتشكيل بنية العرض أو غيرها من عناصر الخطاب الأخرى، وإذا ما تتبعنا مجمل منجزه المسرحي سنلمس حجم التطور الحاصل من عرض لآخر لذا فإن كثير من الأوساط النقدية والثقافية تعده المجدد الحقيقي في المسرح العراقي، ولعل لبنات التجديد تكمن في الثورة الفنية الممنهجة التي طرأت على جوهر المسرح التجريبي، ومن المعروف أنه ساهم في تجديد مناهج الإخراج في العراق عن طريق ترسيخ الطريقة العلمية في تفسير الفن وفي تحليل عناصره المختلفة، فضلا ً عن دراسة الظروف الزمكانية لمفردات مهمة في النص الدرامي لاسيما الشخصيات للخروج برؤية معبرة عميقة تسهم في دفع عجلة تفعيل منظومة العرض المسرحي، ولعل بصمته الفنية لعروض مثل { دائرة الفحم البغدادية }الذي تم إعداده عن مسرحية { دائرة الطباشير القوقازية} للألماني برشت، و{ البيك والسايق } الذي أعد عن مسرحية { السيد بونتلاوتابعه ماتي } لعل بصمته في هذه العروض تتجسد في طريقة التغريب الخاصة بجلال الذي إعتمدت على الأسلوب الشعبي في المسرح الذي قد يكون قريبا ً لشريحة واسعة من المتلقين ولكن هذا الأسلوب هو ليس الأسلوب الشعبي الفج الذي يعتمده أنصار المسرح التجاري بل هو أسلوب يستند إلى عوامل إقناع درامية وحجج تبرير تحمل من الفلسفة ما يجعلها وسيلة هامة في تشكيل الخطاب حيث أنه وضمن تلك العروض التي تعتمد ذلك الطابع الشعبي التجريبي إنما كان يمضي لإبراز التناقضات الاجتماعية التي تسود واقع المجتمع، فضلا ً عن إنه اراد أن يجسد واقع العلاقة بين الحديث والقديم بناء ً على إستنتاج واع ٍ مستلهم من دراسة علمية لمجمل الحيثيات المرتبطة بالقديم، كما أن تجاربه بمختلفها عكست إستجابة ذكية لضرورات التطور والمعاصرة ومع تجدد وتنوع إشتغالاته الجمالية والفلسفية ضرب فناننا مثالا ً على مدى فهمه لجدلية الإبداع الفني، لقد تمكن هذا الفنان من توظيف التراث الشعبي على أحسن وجه ممكن الأمر الذي جعل الكثير من المهتمين بشؤون التراث أن يعيدوا النظر في كيفية تقديمه للمتلقي في لحظة زمنية معاصرة، وعبر حقبة زمنية مليئة بالإبداع الفني الذي تناثرت شذراته بين عروض مختلفة سواء في { ست دراهم، الطوفان، المتنبي، رحلة الصحون الطائرة، مقامات أبو الورد، المومس الفاضلة، كاليغولا، وغيرها من العروض الأخرى المختلفة، وإنتهاء بآخر عرض له في سنة وفاته ألا وهو { الشيخ والغانية } يمكن للمرء أن يستنتج أبرز النقلات الفكرية والجمالية التي طرأت على ملكته الفنية الإخراجية ويبقى في النهاية تأثره الواضح للمنهج البرشتي، والواقعي الإشتراكي الذي حاول توظيفها وفق خصوصية تكوينية خاصة به ليسعى من خلال مخاطبة الذهنية العراقية التي وجدت في أعماله مصدرا ً لإثارة الوعي الوطني إزاء المشكلات التي يعاني منها المجتمع العراقي آنذاك حيث تمكن من تسليط الضوء عليها بسلاسة ووعي وجمالية عالية وجرأة في الطرح الفكري، نعم لقد غادرنا الفنان الكبير إبراهيم جلال بيد إننا مازلنا نقتات على ما تركه لنا من تركة إرث يمكن أن نضيف على بنيانه الشيء الكثير إذا ما إقتفينا أثره في البحث والفهم والحسية العالية فضلا ً عن معرفة الحاجة الحقيقية للمتلقي العراقي أو العربي، رحم الله عملاق المسرح العربي والعراقي إبراهيم جلال ..
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |