الكتابة قرب الخط الساخن

 

 

محمد علي محيي الدين

abu.zahid@yahoo.com

صدر عن دار المرتضى للأخ الأستاذ عبد الهادي فنجان ألساعدي كتاب جديد ضم في طياته مقالات كتبت بعد الاحتلال الأمريكي، تناول فيها الكثير من الشؤون والشجون العراقية، بأسلوب بليغ مركز تجلت فيه البراعة الأدبية للكاتب الفاضل وأعاد إلى الأذهان المقالات الرائعة التي كان يكتبها الأستاذ إبراهيم صالح شكر في الصحف العراقية بأسلوبه السهل الممتنع، وطريقته الجذابة في العرض والتحليل، ورغم وصفه لكتاباته أنها قريبة من الخط الساخن، إلا إنها والحق يقال قد تجاوزت الخطوط الأمامية للجبهات العراقية، فالكاتب الكريم يعيش في قلب الحدث غير عابئ بما تناثر حوله من الشظايا الغربية والشرقية، يقول ما يقوله في تحد واضح دون خشية أن يصيبه  رذاذ الإرهاب والقتل، او تصيبه سهام البغي والجهل على خلاف الكثيرين الذين أغلقوا أبوابهم وسدوا آذانهم جاهلين أو متجاهلين أزيز الرصاص وجحيم المفخخات وسموم التخلف التي بدأت تسري في شرايين الشعب العراقي وتغير من لونه وطعمه ليعود باهتا دون طعم أو لون.

وهذه المقالات نشرت في جريدة الأهالي العراقية، التي أخذت على عاتقها أماطة اللثام عن الكثير من الخفاي، وتجاوزت المحظورات في أطروحاته، ولم تعبأ بالخطوط الساخنة  أو الحمراء، وتجاوزت كل هذا لتقول كلمة الحق بجرأة تفتقر إليها الصحافة العراقية في الداخل، وتميزت بعد انحيازها لجهة دون أخرى، وكتابها من أقصى اليمين الى أقصى اليسار، كل يدلي برأيه دون مانع أو تدخل من هيئة تحريرها ، وطرحت ملفات ساخنة تحجم عن الدخول فيها أكثر الصحف العراقية، خوفا من الرمال المتحركة من كل جانب ومكان  والكاتب الصديق حمل معول البناء في زمن الهدم والتخريب، ومعوله قلم صغير له أثر كبير في الإطاحة بالكثير من المسلمات، فقد أستلهم من التراث العربي والإنساني ما يعينه على تلمس الطريق للوصول الى نهاية النفق،  فكانت وخزاته ونقداته تصيب قلب الهدف بتشخيص رائع لمواطن الداء وقدرة على أيجاد الدواء، وتوزعت سهامه الصائبة على مختلف الجوانب لتصيب مكامن الخلل وترشد الى مواقع الزلل، ولم يحابي أو يجامل على حساب الحقائق،  أو يحسب للعقابيل حساب، ، فكان دبوسه يخز الوزير في خاصرته والمسئول في مؤخرته، ولكن هل قرء هؤلاء ما كتب، لا أعتقد فعلمي أن جلهم لا يقرءون أو يكتبون، ولا يفهمون من الحياة إلا ملء بطونهم وتخدير عقولهم وإشباع رغباتهم والعيش خارج أطار الزمن وعلى هامش الحياة، ناعمين بلذائذ الشم والأكل دون أن يفكروا أن في قحفتهم دماغ له حق من الزمن ولو ساعة في الشهر.

وكان فاتحة المقالات (أين حقي) في أشارة موحية الى رائعة الشاعر الراحل محمد صالح بحر العلوم، وكيف عاد لهذه الكلمة ألقها ورونقها لتكون على لسان الجماهير في مطالبتهم بحقوقهم المشروعة، فكان المتقاعد يلهج به، والمعلم يصدح بأنغامه، والعمال والفلاحين يهزجون بها وكل يطالب بحق مستلب، وكيف أن الشعوب التي ابتليت بمثل ما أبتلينا به، كانت لها مواقفها في بناء وأعمار بلدها لتوفر قيادات وطنية شريفة تسعى للبناء بالتعاون مع شعوبها التي ضحت بكل شيء من أجل أعادة بناء وطنه، في الوقت الذي أصبح فيه قادتنا السياسيين أساس المشكلة دون ،  يكونوا جزء من حلها.

وفي نهر الحكمة عقد مقارنة بين احتلال اليابان واحتلال العراق، وكيف وقع إمبراطور اليابان على وثيقة الاستسلام دون قراءتها ، وعندما سئل عن السبب أجاب بأنه لا فرق هناك ما دامت ملزمة التطبيق، وكيف تحولت اليابان من بلد مستعمر الى دعامة من دعائم الاقتصاد العالمي ، بفضل قيادتها التي استطاعت الارتقاء بها لسلوكها الطريق الصائب في الوصول الى شاطئ الأمان.

 وفي بحثه عن الحلقة المفقودة في القضية الفلسطينية ، وجدها تكمن في قلب  النظريات الموجودة والسعي لبناء المجتمع العربي على أسس سليمة قبل السعي لتحرير ما أغتصب، مقارنا بين ضياع فلسطين وضياع جزر الكوريل، وكيف أن اليابان انصرفت لبناء بلدها بانتظار الوقت المناسب لأعادته، في الوقت الذي لم نكتفي بضياع فلسطين بل أضفنا الضفة الغربية وغزة والجولان وسيناء، لنبقى نرقص على أنغام الحروب التي لم نجن من ورائها غير المزيد من الخسائر في الأرض والرجال، ومزيد من التنازلات.

وفي القضية الكردية ينعى على القيادات السياسية تشرذمها وفكرها الشمولي ومحاولتها بسط نفوذها وهيمنتها واجتثاث الآخر،  وتلاعب دول الجوار بمصائر الشعب الكردي لتذبذب مواقف القيادات الكردية وانحيازها الى هذا الطرف أو ذاك، وعدم محاولتها التقرب من شعبها لوضع الأسس السليمة لبناء الدولة الكردستانية، اعتمادا على الشعب بعيدا عن الأثرة والتسلط والهيمنة وتقوية النفوذ، وينعى عليها افتقارها للديمقراطية مما جعلها  تمارس الشمولية في تعاملها مع الداخل الكردستاني، ويرى أن التوجه الكردي يفقد مصداقيته في الوحدة لوجود خلافات عاصفة بين الحزبين الرئيسين الذين لم يتمكنا من نسيان خلافاتهم وتوحيد صفوفهم، فكيف لمثل هؤلاء توحيد الشعب الكردي على أمر سواء، إذا كانوا بمثل هذه العقلية من التخلف والخلاف.

وله في حقوق المرأة رأي تجاوز به الخطوط الحمراء في دعوته الصارخة لتنقية الموروث التاريخي مما علق به من أوضار المخرقين ودسائس الواضعين، ويبدأ بمناقشة كلام منسوب للأمام علي، شدد فيه النكير على المرأة وأحلها بمرتبة دونها مرتبة البهائم، عازيا ذلك الى الكذب والتدليس في الرواية، مفندا ما جاء في هذه الكلمة بشواهد من القرآن الكريم، ليخلص من ذلك الى الدعوة لأن تتبوأ  المرأة مكانها في المجتمع إذا علمنا أنها تسهم ببنائه أكثر مما يسهم الرجال، ودعا النساء الى النضال من أجل حقوقهن الاجتماعية الهادفة لأن الحقوق تؤخذ ولا تعطى، وعلى المرأة التسلح بالعلم والإسهام بالنهضة العلمية لا ،  تكون المطالبة بحقوقها من خلال الأمور التي لا تغني إنسانيته، وأن تكون مجرد آلة نصف عارية جميلة لعرض الأزياء وواجهة بلورية لاستقبال الزبائن في المكاتب، وأداة لهو لأوقات المساء والسهرات لرجال الأعمال.

ولا يتناسى الآثار المسروقة، وينعى على الإنسان الشرقي إهماله لتراثه الخالد، في الوقت الذي تهتم الشعوب التي لا تمتلك جزء منه، بآثارها ومتاحفه، فيما نقوم نحن أصحاب الكم الهائل من الإرث التراثي بإهمال آثارنا وتركها عرضة للنهب والضياع، ويورد مثلا رائعا لاهتمام البعض بهذا التراث، وما قام به الأخ الأستاذ كامل سلمان الجبوري مدير المتحف الوثائقي لثورة العشرين، عندما زاره وزير الأعلام آنذاك شفيق الكمالي فطلب منه أن يعطيه أرشيفه الذي يحتوي على (21000) ألف صورة ووثيقة لزعماء ورجال ثورة العشرين وشوارع النجف وحاراته، وكل ما يمت بصلة لتاريخ العراق الحديث، مقابل أن يعطيه (21000) ألف دينار وهو مبلغ ضخم يستطيع شراء سبعة دور راقية به، ولكنه رفض طلب الوزير ولو مقابل 21 مليون دينار، فاقتنع الوزير المذكور واكتفى من الزيارة بما رآه من كنوز الكتب ونوادر المخطوطات، ولكن هذا التراث النفيس نهب عام 1991.

ويصب جام غضبه على وزارة الثقافة العراقية التي اختير لها وزير أمي لا يعرف الفرق بين الضاء والضاد، ولا التاء القصيرة من التاء الطويلة، ولا يعرف من الثقافة حتى أسمها ، وسبقه وزير آخر كان شرطيا فأراد تحويلها الى ثكنة حربية فرفع كلمة الأستاذ من المخاطبة وأحل محلها كلمة سيدي ، فكيف لبلد تزدهر ثقافته إذا كان وزراء ثقافته بهذا المستوى الضحل من العلم والثقافة، ويرى في الضلع الثالث لمثلث الانتخابات، ويريد به التيار الديمقراطي، فانه يحتاج كما يرى الكاتب الى أن نستبدل أسم الشيء المحصور في منطقة القحف بالدماغ بدل الرأس، ونسمح باستعماله بعد أن ظل مغلقا وممنوعا من الاستعمال لقرون عديدة، لأن غياب الوعي يدفع بالإنسان للغرق بالماء الآسن.

وعند حديثه عن الكتل السياسية وفقدان الخطاب العراقي، يرى أن تكون المهمة الآنية إعادة بناء الإنسان ، وأن تكون هذه أولى المهمات في برامج الأحزاب السياسية، لا بناء واعتمار البني التحتية، لأن بناء الإنسان بناء سليما سيؤدي حتما الى الأعمار والرفاه الذي ينادي  الجميع بسعيهم لانجازه، وأن تتضمن تلك البرامج الحفاظ على  أثار وتراث العراق الذي غدا نهبا مقسما بين الو اغلين والعابثين بأمن العراق وشؤونه الداخلية.

ويعزوا (سنوات التيه العربي) الى الصراع الطبقي الذي بدأ واضحا في خطاب  أول اشتراكي في الإسلام أبو ذر الغفاري عندما قال(أعجب لامرئ يبات جائعا ولا يشهر سيفه)وهو من تجليات الخطاب اليساري الثوري الموجه للجماهير الفقيرة، فيما كان الخطاب الآخر يوجه لقادة القوم وأمرائهم(متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار)عازيا الفرق الكبير بين الخطابين لطبيعة التوجه واختلاف الأصول، فالأول خطاب للطبقات المسحوقة ودعوة للثورة والانقلاب على الواقع، فيما كان الثاني موجها للطبقة الحاكمة، ويعزو الفشل العربي في أدارة الأزمات الى  ضعف الخطاب وتوجيهه الوجهة الخاطئة، فإذا كان التيه الإسرائيلي كما تقول الأساطير أربعون عاما لأنهم عبدوا عجل، فقد عبدنا عجولا كثيرة ستودي بنا الى تيه قد يستمر لقرون، ومحنة الثقافة في العالم الثالث تجلت في عرض الشاعر الجزائري أبو بك زمال كليته للبيع، وهي انعكاس لمأساة ومحنة العقل العربي، في الوقت الذي تمنح الحكومة الفرنسية راتبا تقاعديا لكاتب ألف كتابا واحد، فيما ألف شمران الياسري  رباعيته الخالدة التي تفوق أروع الروايات العالمية فأعرضت الوزارة عن طبعها في العهد القديم، وتجاوزتها في العهد الجديد، ورحل الياسري عن دنياه خالي الوفاض إلا من ذكرى عطرة لا زالت تعبق في سماء الأدب العراقي.

أما رؤية الهدف من عين واحدة فهو تجليات للحالة العراقية المعاصرة وإرهاص لعبثية النظرة الأحادية الى الأشياء التي لا زالت طاغية على التفكير العراقي، وما شكونا منه سابقا صار هدف نسير عليه، فلا زالت الأنا السياسية تطوف إرجاء الزمان والمكان، ولا زالت المعادلة الخاطئة بوصلة لمسيرة العراق الجديد، بعد أن تعكز الجميع على معادلات خاطئة باعتماد المحاصصة طريقا لبناء الدولة، مما جعلها عرجاء تفتقر لأبسط مقومات الوجود، وتحمل في داخلها بوادر تفككها وتلاشيها بما خلقت من عقل جديد ينح لأحادية مغرقة بالانغلاق والتقوقع ويمهد لبناء يفتقر الى الأساس السليم فاقم  الفرقة الاجتماعية، وفي النبوءات الخاطئة والفشل في رؤية المستقبل ينعى الارتداد نحو الماضي، وعدم استيعاب مسيرة التاريخ ودراسة الأشياء وفق منظور حديث، ولا زلنا أسرى الماضي العقيم بتناقضاته ونهيم بتاريخ يحتاج الى تنقية ودراسة تخرج ما علق به من أوضار، ولا زلنا بانتظار البدر الطالع من ثنايات الوداع، دون أن تفصح السماء الملبدة بالغيوم عن بصيص لوجود بدر، وفي الوقت الذي سار به العالم الى أمام لا زلنا نراوح في مكاننا حالمين برحمة السماء، وكان علماؤنا يبحثون عما يحيل المعادن الرخيصة الى ذهب، فيما أستطاع الغرب أيجاد ما هو أثمن من الذهب، أن ما يفصلنا عن المستقبل هو تمسكنا بالماضي وإضفاء هالة من القداسة عليه ولا زالت الأمة بانتظار الرجل لسوبرمان الذي تتوسم فيه القدرة على انتشالها من واقعها الذي تعيش فيه، يقول بريخت، "الويل للأمة التي تنتظر بطل، أين تركنا الفكر والثقافة، لمن تركناها ، إننا أكثر الشعوب التي تتعامل بالممنوع...إننا من الشعوب التي تحصر الشرف بما بين الساقين، ولكننا ننسى بأن الكلمة الصادقة، الموعد الصحيح والتطور الفكري والتقني هي التي تضمن الشرف...كنا خير أمة أخرجت للناس أما الآن فأننا أكثر الأمم التي جردت الكلمة من شرفها والإنسان من قيمته الحقيقية".

وأخيرا "أين نتوجه، يقال في الأثر(استقبلوا البلاء بالدعاء) وهل من محنة أشد من محنة الجهل، وهل من محنة أشد من أن يسلط عليكم شراركم فتدعون فلا يستجاب لكم..ويقول الرسول ص "إذا تولى  وال أمر رعية وهو يعلم أن بينهم من هو أعلم منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين" وعندما تعوي علينا كلاب الحوأب يأتي احد قادة الفتنة بخمسين أعرابيا ليقسموا بأنها ليست منطقة الحوأب، إنما هي عالم آخر تسكنه الجن والمردة، عن الرسول(خير القبور الدوارس) فلماذا قبورنا عالية وقبور الأجانب دوارس، بينما بناياتنا دارسة ومبانيهم شاهقة"...!!!

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com