|
من اين تشتق ثقافة تمجيد الموت مفاهيمها؟
محمد حسين الرفاعي صدور العدد 36 من مجلة قضايا اسلامية معاصرة صدر في بيروت|||| العدد35-36 (شتاء وربيع2008) من مجلة قضايا اسلامية معاصرة، التي يصدرها مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد،. وتناول العدد ملفا بعنوان ( الارهاب وباء والعنف مرض : من اين تشتق ثقافة تمجيد الموت مفاهيمها). واستوعب الملف مجموعة مساهمات، فتناول رئيس التحرير الدكتور عبدالجبار الرفاعي في المقدمة قضية ( انقاذ النزعة الانسانية في الدين) واشار فيها الى ان التعصب والعدوانية والاستغلال ظواهر متفشية في الاجتماع البشري عبر التاريخ, كما ان عنف الانسان ضد أخيه الانسان ليس طارئا في الحياة, بل هو سلوك بيولوجي, وسياسي, واجتماعي, وديني, وثقافي مترسخ في دنيا الانسان. وان رسالة الأديان ومقاصدها الكلية تتلخص في إشاعة السلم والتراحم والمحبة بين الناس, والسعي لتجفيف منابع العنف والعدوانية والتعصب , ولكن طالما تم طمس تلك الرسالة ونقضها, بنشوء جماعات وفرق لاتقتصر على إعلان انتمائها للدين, وانما تصر على احتكار تمثيله, وتحرص على مخاصمة أية جماعة غيرها تقدم فهما مختلفا للدين. وتهتم تلك الجماعات بتطوير أساليبها الدعوية باستمرار, وتسعى للهيمنة على الدين والدنيا, وتكريس الانغلاق على الذات, ومطاردة أية محاولة تهدف الى نقدها, وإهدار دم الاشخاص الذين يصوبون مفاهيمها, ويفضحون انتهاكاتها لانسانية الانسان, وتزييفها لأهداف الدين, وإهدارها للقيم الروحية. وان البشرية اليوم بأمس الحاجة الى تعزيز النزعة الانسانية, عبر استيعاب الحياة الروحية الخصبة في الدين, وإحياء التجارب الايمانية المتنوعة, تلك التجارب التي تمنح اصحابها رؤيا, يصبح فيها العالم ساطعا, شفيفا, ممتلأً بالمعنى. يتخلق فيه الانسان بأخلاق الله, وتغدو صفات الله مؤشرات وغايات عظمى لمخلوقاته, يجب ان يكدح الجميع للتماهي معها, والانخراط في مدياتها الرحبة.وان السبيل للتخلق بأخلاق الرحمن انما يتحقق عبر انقاذ النزعة الانسانية في الدين، و اضاءة ابعاده الاخلاقية والمعنوية والرمزية والجمالية، وتطهير التدين من كافة اشكال الكراهية والاكراهات. ولا ريب في ان ذلك لا يعني اختزال الانسان في مجموعة مفاهيم وقيم مثالية، تتعالى على بشريته، وتصيره كائنا سماويا مجردا، منسلخا عن عالمه الارضي، مثلما تريد بعض الاتجاهات الصوفية والدعوات الرهبانية، بل يعني انقاذ النزعة الانسانية ايجاد حالة من التوازن والانسجام بين متطلبات جسده من حيث هو كائن بشري، وامكانية غرس وتنمية روح التصالح مع العالم، والتناغم مع ايقاع الكون، وتكريس حالة الانتماء للوجود، والتعاطف مع كافة الكائنات الحية والشفقة عليها، وتعزيز اخلاقية المحبة، وتدريب المشاعر والاحاسيس والعواطف على القيم النبيلة، والسعي لاكتشاف روافد ومنابع الهام الطاقة الحيوية الايجابية في هذا العالم، والتواصل العضوي معها. وهذا يعني استيحاء صفات الرحمة والمحبة والسلام ونحوها من الرحمن، وليس صفات الموت والانتقام ونحوها من الله تعالى. وفي باب حوارات ضم العدد حوارا مع الدكتور عادل عبدالمهدي بعنوان ( الارهاب وباء والعنف مرض) عالج فيه الجذور المتنوعة للارهاب والعنف، وميز بينهما، اذ اعتبر العنف بمثابة المرض ، والمرض ظاهرة طبيعية في الحياة لا يمكن ايقافها، اما الارهاب فهو بمثابة الوباء، وتكمن خطورة الاوبئة في انها عندما تتفشي تمارس ابادة شاملة لكل بقعة تجتاحها. واوضح الدكتور عبدالمهدي ان كافة أشكال العنف لاتحصل فجأة, وليست هي النهاية بل هي البداية, انها في الافكار الاولى. عندما تحتويها الافكار الاولى وتكون في البداية افكارا خجولة أو أفكارا غير ظاهرة، لكنها تشكل اساساً محدداً لبناء عندما تشكل نواة فكرة لنفي الآخر, هذه تكون بدايات لنوع من الاستئصال الواسع المساحة, فمثلا عندما نلاحظ فكرا, يقول: انا الحضارة الأعلى, وكل الحضارات الاخرى هي معرقلة, ويجب ان تزول. أو أنا الانسان الارقى, وكل انسان آخر هو متخلف لن ينتج انسانا متطورا, وهذه هي حالة عبثية مكلفة يجب ان تزول, أو كل نظرية, سواء كانت بأساس قومي أو طبقى تبني اساسات لنفي الآخر وعدم التعايش مع الآخر, تحمل جينات, تحمل مقومات نمو فكرة عنيفة, تتجه الى الارهاب والاستئصال, هذا البناء الفكري الأول لنفي الآخر, وليس التعايش معه أو الاختلاف مع الآخر أو العيش بجانب الآخر.كل هذه الافكار التي يعج بها تاريخ الايديولوجيات, مدارس قديمة أو حديثة تحمل بذورا لفكرة الاستئصال والارهاب والعنف, موجودة في الديانات, موجودة في الافكار العلمانية, في الحضارة الحديثة, في الحضارات القديمة, وبالتالي كيف تغذى كل بذرة, اذا غذيت ووجدت لها مصادر نمو, شمس , مياه, مقومات, تنمو, تصبح هي الفكرة الاساسية المسيطرة. يمكن لفكر مسيحي ان يذهب بهذا الاتجاه, يمكن لفكر اسلامي ان يذهب بهذا الاتجاه, يمكن لفكر يهودي ان يذهب بهذا الاتجاه، ويمكن لفكر علماني ماركسي ان يذهب بهذا الاتجاه. . عندما تجد ان الحياة لن تتقدم الاّ باستئصال طبقة اخرى, او لم تتقدم الاّ باستئصال دين آخر, او لم تتقدم الاّ باستئصال حضارة اخرى. مقومات بناء الفكرة الارهابية أو الفكرة الاستئصالية تكون قد تأسست, كم سترعى هذه الفكرة, كم ستجد مقومات نمو وغذاء؟ وفي جوابه عن سؤال تفشي العنف واتساعها في مجتمعاتنا شدد الاستاذ السيد عبدالمهدي على اليأس,وانغلاق المشروع التاريخي, وقسوة الطرف الآخر, فالارهاب الذي مارسه الطرف الآخر في القرون والعقود الماضية ، كلها عملت على انتاج نفسيات متكلسة, لها قناعات مطلقة, ليست مستعدة ان ترى حقائق جديدة. المشروع التاريخي مغلق, لم تعد له آفاق رحبة, لأن الآخر ساهم في اغلاق المشروع التاريخي, ليس فقط من يذهب الى الارهاب, الآخر ساهم في اغلاق اي أفق تاريخي لابناء هذه المنطقة, وبالتالي تتحرك كل النظريات ومنها نظرية الارهاب, وان بلغت الابادة الشاملة كرد للابادة الشاملة الاولى. لن يحصل مسار وأفق جديد. هذه القسوة الشديدة التي تنطلق خلال سنوات هي مخزون لقسوة متراكمة لعدة قرون, لذلك هذا يجعل مهمة المعتدلين والمصلحين ومناهضي العنف ومناهضي الارهاب صعبة للغاية, تحتاج لوقفة شجاعة للقول ان هذا ظلم وذاك ظلم عندما يستهدف الابرياء بهذا الشكل. في العراق مثلا لايوجد عنوان سياسي للعنف, العنف السياسي هو زرع الرعب الشامل, واستسلام الجميع لمشروع السيطرة والاستئصال النهائي. لاوجود لآخر, نفي الآخر بالمطلق, كما سعت محاولات تاريخية قبل عقود وقرون ان تنفي الآخر بالمطلق, فالاسلوب الخاطئ ربّى منهجاً خاطئاً, وهذا المنهج جرى تعميمه, وسيذهب الى مدياته القصوى, ثم يكتشف اصحابه ينهارون بالتدريج, كما يكتشف المجتمع ان مثل هذا الرد ليس هو الرد الصحيح على عنف تمت ممارسته في وقت معين. والظروف اليوم تمكننا من اعادة التوازن وفتح الآفاق بطرق غير عنيفة, بطرق تعترف بالآخر, وتفهم الحقائق الجديدة, وتبني مباني حضارية في صالح الانتقام التاريخي لما حصل بنا, ليس الانتقام التاريخي بقتل الآخر بقدر ما هو ببناء الذات, بناء النفس, بناء المجتمعات الحالية, التحرر من أي استبداد ساعد في تطور نظريات العنف, فالعنف له تربية, له بناء فكري متكامل, له نشأة, له تاريخ, ومن ثم يحصل هذا النوع , اليوم معظم العمليات يتم الاصرار على ابرازها بأبشع شكل. في العمل السياسي سابقا, حتى مفهوم الاغتيال السياسي كان مرفوضا, اليوم ليس فقط اصبح مقبولا, بل اصبح من يقوم بالعمل ينشر البشاعة لادخال الخوف, وهذه نظريات نفسية معروفة استخدمت في روسيا خصوصا من قبل النازية ولها منظرون, في كيفية ممارسة العنف , ثم وضع صليب معقوف كاشارة انك لم تمارس العنف في كل مرة, يكفي انك تمارسه ببشاعة لمرة واحدة لكي تحقق نتائج الاستئصال, كما قورن بين وجود الصليب المعقوف وحادثة معينة, فالناس تستسلم لهذا الشكل من أشكال السيطرة الشمولية, فما يجري الآن هدفه اعلامي, نشر هذه الصورة بأوسع طريقة ممكنة, حينذاك العمليات اللاحقة ستسهل, اعمال بشعة جدا تأتي من القاعدة, أم من الصهاينة, أو تأتي من الفاشستيين, أو تأتي من أي طرف يحمل العنف, تكفي لادخال الرعب والسيطرة على المناطق, والغاء الآخر. اعتقد ان هذه أمور تتجاوز الارهاب التكتيكي لتدخل في تعاريف الارهاب الشمولي, الارهاب الاستراتيجي الذي يريد ان يكون هناك طرف واحد ولايضع مساحة لأي طرف آخر. كما نبه الدكتور عبدالمهدي الى ان هذا تفسير للظاهرة التاريخية, فعندما يقال ان الفقر كافر, ليس معنى ذلك ان نكون كفرة, كيف نفسر الظاهرة (كاد الفقر ان يكون كفرا), (لو كان الكفر رجلاّ لقتلته). هذا تفسير للظاهرة, وليس شرعنتها, لان في الأخير الانسان مسؤول عن اعماله, والحركات مسؤولة عن أعمالها, فعندما تلجأ الى الخيارات الخاطئة, وكما ذكرنا مثلا في الرؤية الاسلامية الكلية, ليست هذه هي حلول لم تمارس سابقا, مورست من قبل جماعات سرعان مااستطاع الاسلام ان يعزلها عبر التاريخ, مرت فترات شبيهة لكن استطاع الاسلام ببنيته, بمنظومته الفكرية, ان يطرد هذه الافكار. فهذا تفسير وليس شرعنة, نحتاج الى تفسير, لماذا حصل المرض الفلاني, لأنه نشـأ عن كثرة التدخين, لماذا هناك بغاء، وهناك ظواهر اجتماعية متنوعة, وهكذا. وجاء الحوار الثاني مع الاستاذ مصطفى ملكيان بعنوان( لا اكراه في الدين: العنف هو الوسيلة الخطأ للتدين والمعنوية والفضيلة) . شرح فيه مفهوم العنف وما يمتاز به العمل العنيف عن سواه ، واشار الى أن العنف من الأمور اللازم تصنيفها في خانة الشرور التي لابدّ منها، فينبغي أن يتجه مسار البحث نحو تحديد طبيعة الأحوال والاوضاع التي يكون من السائغ فيها اللجوء الى العنف.وان ارتكاب هذا الشر (اللابدّ منه) لا يجوز إلاّ بعد توافر اربعة شروط؛ ثلاثة منها شيئية واقعية ((Objective والشرط الرابع ذهني نفسي (Subjective). الأول من هذه الشروط: أن يكون استخدام العنف مسبوقاً باللجوء الى قوة الاقناع، وذلك ــــ كما يصفها برتراند راسل ــــ تهدف الى خلق قناعة لدى الآخر بأن هذا العمل صحيح أو غير صحيح، وذلك عن طريق البرهنة والاستدلال، ما من شأنه أن يؤثر على قناعات قطاعات مهمة من الناس بعد معرفتهم لحقيقة العمل المفروض خيراً أم شراً.فإذا لم تحقق هذه الوسيلة هدفها، ننتقل الى اسلوب آخر وهو الترغيب من أجل تحفيز القسم المتبقي من الناس، والذين لم يتمّ اقناعهم بالاسلوب الاول، وحثّهم على اتباع نهج معين. فإن بقي أناس لايستجيبون لا للأسلوب الأول (الأقناع) ولاللأسلوب الثاني (الترغيب) يتعيّن علينا تجربة الأسلوب الثالث وهو (الإلجاء)، وذلك عبر الاستفادة من ادوات الضبط والقانون من جيش وشرطة وما شابه. فإذا لم تفلح أيٌّ من هذه الطرق الثلاث في تحقيق المبتغى جاز لنا حينئذٍ اللجوء الى العنف كخيار أخير. الشرط الثاني: أن العنف الذى نلجأ اليه لا يكون الاّ بموجب القوانين والمقررات العادلة. وأنبّه الى انني لم اقل هنا (بموجب القوانين) بل (بموجب القوانين العادلة) فقط، وهذه النقطة غاية في الاهمية، ذلك أنه من الممكن افتراض دولة معينة يصل فيها أنصار العنف الى مواقع التشريع، بالفعل، أوعبر النفوذ والضغط وشراء الذمم، فيتوصلون الى سنّ قوانين وتشريعات تتناغم و تطلعاتهم، ومن ثم يلجأون الى ارتكاب العنف بموجب تلك القوانين، ويصبح كلّ من يعارضهم خارجاً عن القانون. متمرداً عليه، وبالتالي يكون الداعية الى العنف ملتزماً بالقانون، في حال أن خصيمه متمرّد عليه! وتفادياً للوقوع في مأزق كهذا، أنصح الذين يكثرون الكلام في لزوم التمسّك بالقانون وعدم اللجوء للعنف، أن يستعملوا اصطلاح (القانون العادل)، والاّ فبمقدور معارضيهم أن يخرسوا اصواتهم بالقانون نفسه ، الذي ربما يتمكنون من تمريره بشكل أو آخر من اشكال الضغط والخداع والترهيب. والحاصل أن القانون لا يعني العدالة بالضرورة، لأن القوانين فيها ما هو عادل وما هو غير عادل. اما الشرط الثالث: وهو امتداد للشرط الثاني، فيتمثل بوجوب ان يتم الاقتصار على ادنى حدٍّ ممكن من العنف. ولكي يتبيّن لنا هذا الحدّ الادنى يجب ان نفهم ما الذي يقود اليه استخدام العنف من نتائج ومعطيات، وبعبارة اخرى: ما الذي نهدف اليه من اللجوء الى العنف؛ هذا الخيار الذي صنّفناه في دائرة الشرّ الذي لابدّ منه. هذه الشروط الثلاثة تعدّ من الشروط الواقعية الخارجية لجواز استخدام العنف كوسيلة. ويبقى الشرط الرابع، وهو شرط نفسي وجداني، حيث لا يسوغ لنا اللجوء الى العنف إلاّ من باب الشفقة والرأفة بالفرد والمجتمع، وليس من باب التشفي والانتقام والتنفيس عن حقد داخلي، فإن من يلجأ الى العنف بموجب القانون العادل بحقِّ شخص آخر ينبغي أن يتحلى بحالة وجدانية مماثلة للحالة التي تهيمن على وجدان الوالدين لدى قيامهما بتأديب الاولاد. اذ المفروض ان ما يدعو الوالدين الى استخدام العنف احياناً بحق اولادهما هو شدة الحرص والمحبة حيالهم، لا أنهم يرغبون بالانتقام منهم.. لابدّ لمن يلجأ للعنف بموجب القانون العادل ان يتحلى بتلك الحالة النفسانية التي يتحلى بها الطبيب الجراح في غرفة العمليات حيال مرضاه! بالطبع لا سبيل للتأكد من تحقق الشرط الرابع، لصعوبة ادراك حقيقة الحالة الباطنية لأيّ انسان، ولذلك ليس لهذا الشرط قيمة قضائية، لأن القضاء يتعاطى مع الأمور الحسية المدركة، ولكنه - اي الشرط الرابع - يصلح كآلية يدرك بواسطتها الانسان طبيعة توجهاته في ممارسة العنف، ويضع نفسه على المحكّ من خلال مراجعة ذاته ووجدانه، وتحديد طبيعة المشاعر التي يحملها حينما يلجأ الى العنف، فهل هو سبع ضارٍ يرتدي زيّ انسان، أم أنه كائن انساني لطيف لا يلجأ للعنف الاّ كوسيلة لحمل الناس على فعل ما فيه صلاحهم (العنف الايجابي) أو ترك ما فيه ضرر او خطرعليهم (العنف السلبي). وبشكل عام فإن اللجوء الى العنف في غير هذه الموارد المذكورة اعلاه يعدّ امراً غير مقبول بتاتاً. ويضيف الاستاذ ملكيان أن العنف شرّ لابدّ منه احياناً، وفي ضوء ذلك ليس بوسع ايٍّ كان ان يحذف العنف من قاموس مفرداته اصلاً، والاسلام بالطبع لم ينبذ العنف كلياً، وثمة موارد عديدة جوّز فيها اللجوء اليه، ولكن ليس في جميع الاحوال طبعاً، هذا اولاً. ثانياً: ان الفقه التقليدي الذي تمخر به حوزاتنا العلمية يشتمل على ما هو غثّ وسمين، وما هو حقّ وباطل؛ بحيث لا يستطيع المرء ان يلتزم بكلِّ ما موجود في المنجز الفقهي الراهن. والمسلم - بوصفه مسلماً - ملزم فقط باتباع مقررات الكتاب والسنة المعتبرة، وهو ما اصطلح عليه بالاسلام الأول، في حين ان الفقه الموجود بين ايدينا هو من الاسلام الثاني، واعني به الشروح والتفاسير التي اقترحها الفقهاء والعلماء للاسلام الاول، وهذه الشروحات قد تكون صائبة، وقد لا تكون، فهي ليست بالوحي المنزل، خاصة وان الفقهاء انفسهم يختلفون في كثير من المواطن، وينقضون آراء بعضهم، وحتى في موارد اتفاقهم واجماعهم على رأي معين لا يمكن الركون الى صحة ما ذهبوا اليه، إذ لا استحالة منطقية في اجماعهم على خطأ. ولكن ينبغي الاقرار ايضاً ان الفقه التقليدي يشكّل مستنداً مناسباً جداً لمن يتبنى فكرة الترويج للعنف، واضفاء المشروعية عليه. ومن هنا أوصي جميع من يدخلون في جدل مع مؤيدي العنف ان يتجنبوا المحاججة معهم على ضوء المسلّمات الفقهية، لأنهم بذلك يحكمون على انفسهم بالهزيمة سلفاً. والسبيل الوحيد لتفنيد آراء أنصار العنف، هو جرّهم الى ساحة نقاش اعمق بمستويين: المستوى الاول: هو فلسفة الفقه، ففي هذه المرحلة نناضل على مستوى المسلمات الفقهية التقليدية، ونبحث في اصل امكانية القبول بها. ومن ثم ننقل الجدل والنقاش الى مستوى ثان اعمق حيث فلسفة الدين، ليكون الحديث في هذه المرحلة فيما نترقبه من الدين والمنجزات التي نتطلع اليها منه. ان الذي يدخل في حوار مع أنصار العنف ومؤيديه بعد قبوله بمنهجية الفقه التقليدي ومتبنياته، تكون حاله حال من اعترف بأن (أ = ب) و(ب = ج) ويريد مع ذلك ان يتملّص من الاعتراف بأن (أ = ج) ! وهذا غير ممكن، لأن من يريد ان يناقش في أن (أ = ج) لا بدّ له - اولاً- من التشكيك بأحدى القضيتين (أ = ب) و (ب = ج) أو كليهما معاً. ومن جهتي أنا؛ أعلن استعدادي الكامل للمشاركة في مناظرة حقيقية على هذين المستويين؛ فلسفة الفقه وفلسفة الدين. ثالثا: ان الكثير من مظاهر العنف التي نشهدها هذه الايام لا تنسجم حتى مع متبنيات الفقه التقليدي وموازينه المتعارفة. ذلك الفقه الذي يصرّح بأن من حقِّ حاكم الشرع اذا اكتشف ان احدهم يبيع الخمر ان يريق الخمر الموجود في القوارير، ولا يحقّ له كسر القوارير التي حوت الخمرة. اين هذا الفقه من تدمير بيوت العبادة، واحراق المكتبات، والهجوم على مرتادي دور السينما، او اغتيال اصحاب الاقلام الحرة؟! ما يدعو للاسف حقاً ان في اوساطنا من يروج للعنف، ويشرعنه على نحو لم يجرؤ عليه حتى جورج سورال كبير المنظّرين للعنف في الغرب. (يلاحظ انني استعمل عبارة الترويج للعنف بدلاً من التنظير له بحق اصحابنا، وذلك ان الكثير من هؤلاء أعجز من ان يقوموا بالتنظير).. لا أدري ما الذي يغيظ البعض ويمنعهم من تبني قراءة للاسلام تحترم انسانية الانسان، وتضمن له حقوقه وكرامته، ما دام يوجد لهذه القراءة مستند صحيح، حتى في النص الديني الموروث، مع شيء من المرونة في الفهم، والمروءة في التطبيق؟! ويؤكد ملكيان في الختام على ان العنف اسلوب عقيم وسنة سيئة, و يقول بصراحة: لا يلجأ للعنف سوى من يعجز عن الإتيان ببرهان مقنع قويّ، ويتحامل على فطرية الاحساس الغريزي لدى الانسان. اما اذا كان للمرء أدلته المقنعة وتفهّمه لمقتضيات الغريزة والفطرة الانسانية فلن يجد في نفسه مبرراً للاقدام على العنف وممارسة اساليبه المقيتة. وليس العنف وسيلة ناجحة لنصرة الفضيلة, ولا التدين, ولا المعنوية, هذا هو جوهر(لا اكراه في الدين). لا يكون ابن ادم انساناً فاضلاً بمعنى الكلمة الاّ اذا كانت حركته على ضوء حرية الاختيار, لا ان يقدم على جملة من الاعمال والافعال الظاهرية من دون قناعة بها وانما خوفاً على النفس ودرءاً للاذى.وان الدين والتدين المجردين عن الحب, والجمال, والخير, والحرية, والعقلانية, ونشدان الحقيقة, ليسا مطلوبين من قبل الله, ولا مرغوبين لدى عباده, والذي يصرّ على تقديم دين الله للناس مجرداً عن هذه العناصر والمقومات, فلا يسهم الاّ في عزلة الدين عن البيئة والوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه. وتضمن العدد ندوة عالجت( بنية العنف ومنابعه واشكاله وتجلياته) شارك فيها: 1ـ الشيخ محمد مجتهد شبستري ـ أستاذ في كلية الإلهيات بجامعة طهران ـ قسم فلسفة الدين والعرفان. 2ـ الدكتور أبو بكر باقادر ـ أستاذ علم الاجتماع في جامعة الملك عبد العزيز بجدة.3ـ الدكتورة سعاد الحكيم ـ أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف في الجامعة اللبنانية، ورئيس مركز دندرة الثقافي.4ـ الدكتور هشام داود ـ باحث في الانثروبولوجيا الاجتماعية في المركز القومي الفرنسي للبحوث العلمية في باريس.وبصراحته المعروفة تحدث الشيخ محد مجتهد شبستري عن العنف فقال: أنا أركز على العنف في مجتمعاتنا ولا أريد ان أبحث المسائل العامة المرتبطة بالعنف، بل أركز على مجتمعاتنا الإسلامية. أظن ان كثيراً من الأمور التي نراها الآن عنفاً ونشعر بأنها عنف ، لم تكن عنفاً في الزمن القديم. ذلك ان القيم الإنسانية تغيرت، والعواطف الإنسانية تغيرت. وإذا حاولنا ان نقول مثلاً: لم يكن في العصور القديمة بين المسلمين عنف. ولكن كافة أشكال العنف قد حدثت الآن لدى جماعات العنف، كجماعة التكفير، فهذا شيء غير صحيح تاريخياً. العنف دائماً كان موجوداً بين الأديان السماوية، في قوانينها، في تشريعاتها، وفي تعامل المؤمنين مع الكافرين، وغير ذلك. ويمكن ان نشير إلى نصوص كثيرة في الكتب الدينية المختلفة، النصوص التي تصدق العنف بمعناه الحديث. إذن ينبغي ان نقول ان الشعور بامتلاك الحقيقة وانعدام التعددية، كان موجوداً في مجتمعاتنا، لأن المسلمين كانوا لا يعرفون منبعاً للمعرفة إلا منبعاً واحداً, وهو الدين، هو الكتب السماوية. أنا أتكلم من الناحية الابستمولوجية. فعندما لايكون منبع المعرفة إلا منبعاً واحداً هو الكتب السماوية، فهذا يولد العنف على أية حال، لأن من يعتقدون بهذه الكتب، كل منهم يقول: أنا أمتلك تمام الحقيقة، باعتبار تمام الحقيقة موجود في الكتب الدينية، وهذا كتاب ديني سماوي، فكل الحقيقة موجودة فيه، وأنا أفهم هذا، فأنا أمتلك تمام الحقيقة. إنما العلاج ان نرى ونفهم ان منابع المعرفة وينابيعها تعددت، لا في القرون الأخيرة بل في تاريخ البشرية على الدوام كانت ينابيع المعرفة متعددة. والنصوص الدينية كانت واحدة من منابع المعرفة، لا المنبع الوحيد, الفلسفة كانت منبعاً آخر ، العلوم كانت منبعا ًايضاً لا سيما الجديدة، كلها منابع للمعرفة. وعندما نلاحظ ان الحياة الإنسانية فيها منابع متعددة للمعرفة، والدين أحد هذه المنابع، هنا تكون تعددية في المعرفة. وعندما تتعدد منابع المعرفة فلا يمكن ان يقول الإنسان اني أمتلك تمام الحقيقة، لأنه لا يوجد إنسان يقول انا أمتلك كل العلوم، أنا أمتلك كل منابع المعرفة. إذن كل الحقيقة لا توجد إلا عند كل البشر، ولايمكن ان يمتلكها إنسان واحد، وإنما يمتلكها كل البشر بمجموع تاريخهم وتاريخ المعرفة. من هنا يجب التسليم بهذا الأمر، أي ان منبع المعرفة الإنسانية ليس فقط النصوص الدينية، بل توجد منابع معرفية أخرى. ولابد ان يتحقق جدل بين هذه المنابع المتعددة للمعرفة. وفي هذه الحالة لا يمكن ان يقول مسلم: أنا امتلك الحقيقة وحدي، لأن الكتاب السماوي موجود عندي. كما لا يمكن ان يقول شخص آخر الفلسفة عندي، ويقول شخص ثالث العلم عندي، لأن ينابيع المعرفة متعددة. هذا هو مفتاح ورمز للتعددية الحقيقية والواقعية. ينبغي ان نخرج من إطارنا الضيق أولاً، ونعترف بهذه الحقيقة من الناحية الابستمولوجية المعرفية، حتى ندرك انه لا يضر إيماننا ان نقول ان المنابع المعرفية متعددة، ولا نمتلك الحقيقة فقط من الكتب المقدسة، وهذا يفضي إلى قراءة إنسانية للنصوص الدينية. لابد ان نقرأ النصوص الدينية قراءة إنسانية وليس قراءة إلهية. ما أدعيه بأننا نحن بشر، والنبي الذي خاطبنا كان بشراً، ونحن نواجه الظواهر البشرية في حادثة الوحي أيضاً، وليس بيننا وبين الله اتصال في حادثة الوحي، إنما نحن نواجه بشراً وإنساناً يدعي النبوة والوحي، ولابد ان نفهم ماذا يقول. هذه هي القراءة الإنسانية للدين. وبعدما نقرأ الدين والنصوص الدينية قراءة إنسانية يكون فهمها تعددياً. وبذلك يمكن ان ننفتح على العالم، وننفتح على الفرق الأخرى، كذلك ننفتح على العلوم، وعلى الفلسفة. ونخرج من هذا الميدان الضيق الذي نعيش فيه بصفتنا مسلمين، ويخلق لنا مشاكل كثيرة. ولخص الدكتور ابوبكر باقادر المنابع التي يستقي منها العنف بقوله: 1 ــــ إذا كان الإنسان يعتقد بأنه يمتلك الحقيقة، ولا توجد الحقيقة المطلقة إلا لديه، وان غيره دائماً على خطأ، هنا يبدأ الشرخ الأساسي في اللاتسامح مع الآخر، ويصبح وقتئذ من الطقوس إكراه الآخر وقسره على ما يعتقد انه الجادة المستقيمة، باستخدام العنف المقدس أو العنف المشرعن. في هذا الإطار نجد ان مجموعة من الفرق الدينية ارتكزت على حديث الفرقة الناجية. ولذلك تدعي بعض الجماعات الإسلامية بأنها الفرقة الناجية وغيرها من الفرق هي الضالة. وينجم عن هذا الاعتقاد ما يلي: أ- الشعور بالاستعلاء، بفعل الاعتقاد بامتلاك النجاة. ب- الشعور بالتبرم من الخصم ،لأنه في نظرها يدافع عن الخطأ، أو يتبنى الخطأ. جـ- البحث عن وسائل تؤكد الشعور بالاستعلاء، فإذا كان لدى أصحاب الفرقة الناجية القوة أو السلطة فإن ذلك يعد مبرراً كافياً لتوظيف ذلك في إكراه الآخر وزجه في الطريق الذي يقوده الى النجاة . وهذا لا يقتصر على المسلمين، وإنما نجده في طائفة من الأديان والشرائع، التي تصف من لا يتفق مع معتقدها الرسمي بالهرطقة. إن الشعور بالفرقة الناجية لا يشكل فرقة فقط لا تستطيع ان تتفاعل مع الفرق الأخرى، وإنما هي في واقع الأمر تخلق ديناً جديداً، أو رؤية جديدة تلغي بالضرورة الآخرين، وجزء من هذا الإلغاء يقود الى العنف احيانا . هذه المسألة الأولى. 2ــــ المسألة الثانية: ان النصوص في كل الأديان، ومنها الإسلام, تبلور في تراثها وتكرس مفهوم الفرقة الناجية، وان ما سواها من الفرق هالكة، وبذلك يستحق الذين كفروا الطرد والإبعاد, بل يستحقون ان يعاملوا معاملة عنيفة، من أجل ان ينخرطوا في الفرقة الناجية، أو يتم التخلص منهم. كما ان الشعور بامتلاك الحقيقة يقيني، واليقين يفضي إلى ان صاحبه لا يرى رأياً آخر في مقابله، وبالتالي يقوده ذلك إلى توفر مبرر أخلاقي لديه لنفي الآخر واستئصاله. ولولا شعورك بأنك تمتلك الحقيقة، وان لديك من النصوص ما يشرع لامتلاكك لهذه الحقيقة، فلا يتوافر مبرر لإلغاء الآخر أخلاقياً، وذلك لن يجعلك إلا متسامحاً. وهذه النظرة نجدها أيضاً عند بعض البروتستانت، فانهم لا يرفضون الآخر جزافاً، وانما لديهم تبرير لاهوتي يؤكد على انهم هم الفرقة الناجية، فيسوغ لهم ممارسة أية وسيلة من أجل ان ينتشر الدين الحق، ومن يعارضهم يكون عرضة لسياط العنف. نشدد على ان أحد أهم منابع العنف هو اليقينية بأن الآخر على خطأ، ومن ثم يُستحل دمه وماله وعرضه، ويصبح المبرر الأخلاقي هو انه أما ان يعود إلى الحق وإلا فهو لا يستحق الحياة. وهذا عنف لا عقلاني، وهو ما نشهده اليوم يفترس مجتمعاتنا, وقد ساد من قبل في الغرب لدى بعض الفرق الدينية البروتستانتية التي اعتقدت انها فرقاً ناجية. وكانت الكاثوليكية بهذه الصورة في مرحلة من تاريخها، وربما الأمر يتكرر بشكل مستمر على هذه الصورة لدى الفرق في الأديان الأخرى. ان العنف عندئذ يصبح عقيدة تبرر أخلاقياً، ولا يحتاج أصحاب هذا الرأي في التفسير مبرراً له،كالتدافع أو الاقتصاد أو المال أو المصالح، بالرغم من انه ينجم عن ذلك ايضا. واحالت الدكتورة سعاد الحكيم العنف الى العوالم الجوانية العميقة للبشر فإن العنف المسلح يبدأ من داخل الإنسان، كل ما هو في الظاهر يبدأ من داخل الإنسان، من ثقافة الإنسان، من نفسية الإنسان، من الأفكار التي تربى عليها، من نظم القيم التي يحملها، كل هذا يبدأ من داخل الإنسان.لم يظهر العنف فجأة في تاريخنا، ولا ظهر بهذه الحدة بين عشية وضحاها، وانما ظهر على مراحل، لم نكن على وعي تام بملابساتها، فقد كان يظهر بمرحلة، وكل مرة يزداد ويتجلى في أكثر من ميدان. مع الوضع الاجتماعي المتردي، ومع التمزق الداخلي، والعنف الذي يمارس على الإنسان من الداخل، يوجد شرخ في أعماق الإنسان اليوم، وبهذا الشرخ الكامن في الأعماق يتربى الحقد والفساد والتباغض بين الناس. كل هذه المشاعر من التباغض تترجم إلى بغض الآخر، إلى الوقوف ضد الآخر. وان أي اختلاف عقائدي يصبح سبباً وذريعة لتفجير العنف الداخلي. وتسائل الدكتور هشام داود : هل العنف غريزة طبيعية لدى الانسان؟ واجاب: في الحقيقة قيل وكتب الكثير حول هذه الاشكالية, والجملة الأكثر تردداً تلك المنسوبة للفيلسوف هوبز (الانسان ذئب لأخيه الانسان ...). والغريب، رغم تكرار هذه الجملة حد دخولها حيز الأقوال الكلاسيكية والمأثورات الكلامية، نلاحظ بأن جل" من يردد قول هوبز ينسى بأن الفيلسوف كان يقول بأن: (الأنسان ذئب لأخيه الانسان في حالته الطبيعية)، أى في حالته الطبيعية الفطرية. وهوبز لم يبق منفرداً في ذلك، حيث لحقه الكثيرون، منهم على سبيل المثال العالم النفساني النمساوي سيغموند فرويد. هذا الأخير كان يرى بأن الثقافات والحضارات كانت تدخل العديد من التقييد لتحديد وتقنين العنف. في المقابل، كان هناك تيار تاريخي معاكس، وأحد أعمدته الفكرية المهمة هو الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، الذي كان يرى بأن الأنسان مسالم منذ البدء وبالفطرة, ولكن المصالح الأنانية والملكية الخاصة والمراتبية الاجتماعية هي التي خلقت العنف وقننت له. بكلمة أخرى، عند روسو المسير يبدأ بشكل معاكس تماماً. النقطة الثانية التي أعتقدها مهمة في هذا السياق.حضور موضوعة العنف اليوم في جل مناظرات معشر المثقفين والباحثين: عن أصوله، أسبابه ومظاهره (إن كانت دينية، سياسية، اقتصادية، أسرية، الخ) بل وأنشأت فروع علمية وأكاديمية خاصة لهذا الغرض. والغريب بأن غالبية الدراسات الجادة التي يقوم بها المؤرخون تشير إلى أن العنف في تراجع وإن نسبة ممارسته في المجتمع هي في تراجع أكيد ! ترى من أين يأتينا هذا الاحساس المتناقض كوننا نعيش عنفا منفلتا ومتفشيا ومعولما، في حين تشير الدراسات العلمية الى تراجع العنف ومظاهره ؟ في زمن الثورة المعلوماتية والاتصالات، أي منذ أن تحول العالم إلى قرية صغيرة, ولد إنطباع زائف لدى الانسان بأننا نعيش في بعض الأحيان حالة حصار وإبادة بشرية. بل حتى عنف الطبيعة التي كانت موجودة منذ الخليقة, وأدت في الماضي السحيق إلى انقراض العديد من الأصناف الحية, نراها بعيوننا المجردة اليوم أشد هولاً مما مضى. خذوا على سبيل المثال ما حصل في جنوب شرق آسيا من كارثة بشرية كبرى (كارثة تسونامي)، لو لم تكن الصورة مباشرة وسريعة, لما خلق إحساس لدينا بضعف الانسان أمام الطبيعة وهول الكارثة ولكانت الفاجعة تنقل بعد فترة طويلة نسبياً عن طريق حوليات وشواهد مكتوبة, كما حصل مع ذات الظاهرة في القرون الماضية. الجديد هنا كوننا نعيش اليوم في فترة نقلتنا تماماً من التاريخ المستعاد إلى لحظة المشاركة الآنية. يمكنني أن استطرد في الحديث حول العنف المعولم أو المكوكب: مثلاً تهاوي برجي مدينة نيويورك بعد الهجوم الارهابي لجماعات القاعدة في عام 2001. وفي بحثه عن البنى الاجتماعية للعنف اثار الاستاذ هشام داود قضيتين للنقاش: الاولى: من خلال قراءتنا للتاريخ العربي والأسلامي الوسيط, بل وحتى المتقدم منه, نلاحظ الكثير من النصوص المتعلقة بمفهوم العدل والعدلية. في المقابل لا نرى ما يوازيها من الاهمية حول مفهوم الحرية. التراث الأسلامي يتوقف دائماً عند تلك الثنائية الفلسفية: الظلم والعدالة, ويشبعهما بمحتوى سياسي وديني ـ أخلاقي. ولكن لا نعثر على ما يذكر حول ثنائية مفهومية أخرى: الطغيان والتعسف من جهة, والحرية من جهة أخرى. بمعنى آخر، الحرية تشكل مفهوماً جديداً في تراثنا, مما دفع بالعديد من المثقفين العرب والمسلمين لخوض محاولات فكرية لإستنباط الحرية من مفهوم العدالة. الثانية، والمهمة تتعلق باشكالية السلطة. عملية بناء السلطة وإدارتها في مجتمعاتنا أصابها الكثير من التشويه (وهذا ليس بشيء خاص بواقعنا العربي فحسب, بل نراها عند المئات من المجتمعات البشرية الأخرى) لحد أنها أختزلت بالعنف حصرا. بطبيعة الحال هذا تبسيط مفرط ودراماتيكي أستغلته في الغالب الانظمة السياسية القائمة. السلطة تعني علمياً وقبل كل شيء واقعين: العنف والرضى أو القبول. العنف هو الاسهل عند المعاينة من قبل العامة والمختصين على حد سواء (أجهزة أمنية وقمعية، شرطة وجيوش، قوانين ردعية، عقوبات، الخ). الرضى في المقابل يعني أشياء عدة, وعلى غاية من التعقيد: الرضى يعني القبول بشخص أو فئة أو مجموعة وقدراتها على إدارة شؤون المجتمع، السلطة تعني أيضاً القدرة على الحكم. أيضاً، السلطة تظهر أو يتم اظهارها من خلال الفئة الحاكمة, كونها تمتلك مسحة وصفة استثنائية (قداسية، ايديولوجية، رمزية عالية، الخ). على السلطة أن تظهر كونها أساسية وضرورية لاعادة انتاج المجتمع ككل, وبالتالي هي الرابط بين تعدديته. في المقابل، على القابضين على السلطة اظهار الأمكانات العملية والتصميم بأنهم قادرون على ممارسة العنف عند الحاجة للحفاظ على وحدة المجتمع, والاهم في ذلك على أن تظهر ممارسة العنف هذه ضرورة من قبل عامة الشعب. طبعاً، أنا اتكلم هنا في العموميات النظرية، في حين تأخذ السلطة أشكالاً عديدة وملموسة وفق السياق التاريخي والثقافي والحضاري لكل مجتمع. في أجزاء مهمة من أوربا، على سبيل المثال، تم اعتماد الشكل البرلماني التمثيلي للسلطة مع انتخابات دورية وضمان حقوق الأقليات السياسية والدينية والثقافية وتداول للسلطة السياسية. للأسف في مجتمعاتنا العربية، وكون هشاشة البنى الاجتماعية، أخذت الدولة منحى التعسف بإسم التحديث والصهر الاجتماعي, لخلق شعب وثقافة وطنية جامعة. في غالب الاحيان كانت هذه العملية محكومة حصراً بالعنف, مع تجاهل آليات السلطة الأخرى, من رضى وقبول وتداول للسلطة ورموز ومخيال مشترك... الخ. ما ظهر في الآخر ليس إلا العنف فقط! إذن القول بأن الرجوع للاصول والتراث كفيل لوحده بأن يسعفنا بمفتاح النجاة ما هو إلا كسل معرفي صارخ. المجتمعات العربية اليوم أمام تحدي حضاري كبير: هل لها ان تكيف التراث والتاريخ مع المتطلبات اليوم وحاجات الانسان المعاصرة, أم تبقى عند اطلال الماضي الذي ولى والى الأبد؟ وفي باب دراسات نشرت المجلة عدة بحوث، فكتب الدكتور ماهر الشريف دراسة موسعة عن ( المصلحين الجدد من دعاة اللاعنف وموقفهم من الجهاد) واشار فيها الى انه في مواجهة العنف المسلح الذي لجأت إليه بعض الحركات الإسلامية، ومارسته تحت اسم "الجهاد "، دعا بعض العلماء والمفكرين المسلمين، الذين اندرجوا، إلى هذا الحد أم ذاك، في تيار الإصلاح الديني، إلى تبني منهج اللاعنف في الدعوة إلى الإسلام، ورأى بعضهم أن ظاهرة العنف المسلح قد نبعت من الترابط الذي أقيم بين الإسلام والسياسة، بينما أكد بعضهم الآخر أن القضاء على هذه الظاهرة لا يمكن أن يتم دون إعادة النظر في فقه الجهاد الموروث عن إسلام العصر الوسيط. وسأحاول فيما يتبع أن أتوقف عند مساهمات أربعة من هؤلاء العلماء والمفكرين المسلمين، وهم الإمام محمد مهدي شمس الدين، والشيخ جودت سعيد، والشيخ خليل عبد الكريم، والمفكر محمد شحرور. وتناول عالم الاجتماع اوستن تي. ترك( علم اجتماع الارهاب)في بحث ترجمه الدكتور ابو بكر باقادر، فخلص الى انه كيفما يقارب الفرد الدراسة السوسيولوجية للإرهاب, فإن الهدف المميز هو تطوير تفسير لأسبابه وديناميات تسارعه وتباطئه بالنسبة لأشكال أخرى من العنف السياسي وتأثيره على إستقرار وتغير النظام الإجتماعي. ولقد حدد ترك (2002 د) إطارا لتحليل الديناميات الإجمالية المشمولة في التقدم من عنف إجباري إلى عنف جسدي إلى عنف تدميري والتي تعد أكثرها تطرفا هو الإرهاب. والإفتراض الأساسي هو أن الإرهاب نهاية عملية صراع وصل إلى هذا الحد المتطرف, ينتهي إما إلى إزالة الطرف الآخر أو إلى إلحاق الضرر البالغ بالطرفين. وإذا ماافترضنا أنه يجب على الطرفين الإستمرار في الحياة أو العيش بالقرب من بعضها البعض والإعتماد على بعضها البعض , فإن على الناجين أن يبدأوا عملية بحث جديدة على علاقة ممكنة. وسواء كان بالإمكان إيقاف " الحروب الكونية " قبل أن يقضي طرف على الآخر أو للطرفين على بعضها البعض وأن ينتهي بقبول ضرورة إعتراف كل طرف بحقوق وجود الآخر, لا يزال لم يقرر بعد. وعالج الدكتور محمد الطالبي العلاقة العضوية بين التكفير والعنف السياسي، فقال: إن السؤال الذي ألقيه على نفسي في كآبة شديدة إلى حد القلق ـــ ولا مانع من ان يلقيه كل على نفسه ـــ هو هذا: لقد تألم المسلمون كثيراً في الماضي من التوظيف السياسي للإسلام، فخدموا من خدموا، وعارضوا من عارضوا، واتخذوا من الدين مقافز للسلطة، وركبوه مطايا يحدوها حادي التكفير والهجرة، فتفرقت بهم السبل... فهل سنبقى على هذه الحالة إلى الأبد؟ أم هل سنعتبر بالتاريخ ـــ وقد أراده مسكويه تجارب وابن خلدون عبراً ـــ فنقطع عما تألمنا منه، وشق صفوفنا، وفرق فرقنا إلى حد تكفير بعضنا البعض، واستحلال دمائنا، ثورة وردعاً، بأوجه يعسر حصرها؟ وهل من المعقول ان نقرأ اليوم، في جريدة واسعة الانتشار، مقرها الأساسي (Main Office) بلندن، وتحمل اسم ((المسلمون)) ما نصه بقلم (دكتور) يدعى العدوي: ((لابد من تطبيق حد الردة لإغلاق باب الشياطين))، ويعني ذلك من يعتبرهم بمقياسه ملحدين، مضيفاً: ((فالكلام عن حرية التدين محددة بما يراه علماء الدين أنفسهم)) وعلماء الدين، وهنا يربض الخطر المزعج والمتربص بأقدس الحريات، يرون إلى اليوم، وبالإجماع، قتل المرتد ما لم يتب! (انظر المسلمون ـــ السنة السابعة ـــ العدد 333، 24رمضان 1411/12/4/1991ــ ص3) في حين انه لا نص البتة من قبيل قتل المرتد في القرآن، وقد روينا نماذج من تاريخنا في هذا الصدد، فأهلاً وسهلاً بدواوين التفتيش وانتصاب المشانق لو انتصرت الدعوة إلى قتل المرتد...! فأين نحن من أبسط حقوق الإنسان؟ فالمهددون بالقتل علانية، أليس من حقهم المشروع ان يحولوا، بكل الوسائل التي تمليها ((حرارة الروح))، دون اعتلاء جلاديهم منصة السلطة! فمن يلومهم على الدفاع عن حياتهم قبل خروج التهديد من القول إلى الفعل، وقبل ان يلمسوا حبل المشنقة في أعناقهم؟ وعندما يملي التكتيك على البعض ان يلينوا كلامهم، أليس من الحذر المشروع ان ينسبوا في كل ذلك إلى التقية والكتمان، والقعود المؤقت، في انتظار البروز والظهور، اقتداء بمن نظروا للعنف والسرية في سالف تاريخنا؟ ما لم تحدث ثورة في عقليتنا، يتبعها تجديد جذري لفكرنا الديني، تبقى الحيرة ويبقى السؤال. أما أنا كمسلم، فإني أذكر قوله تعالى: ]لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين[ (البقرة: من الآية 256)، وقولـه: ]وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[ (الأنعام: من الآية164)، وقولــه: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[ (المائدة:105)، وقوله: ]ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم[ (فصلت: من الآية34). هذا هو هدي القرآن، المسلم يدفع في كل شيء ((بالتي هي أحسن)) ويفوض الأمر إلى الله، مرجعنا جميعاً إليه، فيقضي بيننا فيما فيه نختلف. وكان نبينا أخلاقه القرآن، وعلى هذه القاعدة فالأمر بالمعروف، بالنسبة لي، توسط بين تطرفين: في طرف الانغماس في عدم الاهتمام وعدم الاكتراث واللامبالاة إلى حد الانطواء في راحة الأنانية، انطواء دودة القز في دفء فيلجتها، وتفضيل رفاهة الجلوس على الربوة، أي الاستقالة أمام الفساد وقوى الشر، مما يؤدي إلى انخرام المجتمع، وضياع الخير، وتقويض تضامن الأمة. وفي الطرف المقابل المغالاة في الإنكار إلى حد الاعتداء على حرية الغير، وسلبه حقه في تقرير مصيره، واختيار أسلوب حياته، مما يؤدي إلى القهر والإكراه، وفي خاتمة المطاف إلى ممارسة الإرهاب والعنف. وقد حذرنا الرسول، الذي كما أشرنا كانت أخلاقه القرآن من كلا التطرفين، فنبهنا ((ان الدين النصيحة))، وان ((الأعمال بالنيات))، وان ((الأمة كالجسد الواحد)) كما نبهنا ان ((المسلم من سلم الناس من يده ولسانه)) وقد قال الجاحظ ((لكل مقام مقال))، فلكل حالة أساليبها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكل جيل وعصر موازينه، ونحن نعترف ان المعادلة ليست يسيرة، فالحياة مع الناس تستوجب من أعلى الهرم إلى أسفله تنازلات عادلة ومتوازنة، وتعديلات متواصلة. والقاعدة تبقى في كل الحالات التعايش السلمي على أساس تبادل الاحترام، حتى تزدهر الطاقات الكامنة في الإنسان، في كل إنسان، والناس كلهم عيال الله. ويكتب الدكتور ابو يعرب المرزوقي عن (هرمينوطيقا تعريف الارهاب) فيخلص الى أن المماحكات البيزنطية العربية في تعريف الإرهاب سببها التهرب من النقد الذاتي للأنظمة العربية في علاقتها بمعارضاتها، علاقتها بها التي صيرت المعارضات إرهابية بظلمهم اللامحدود وبعدم تمكين المعارضين من التعبير السلمي عن مطالبهم، وفي علاقتها بحركة التحرير التي جعلها ضعف الأنظمة وديماغوجيتها للحصول على شرعية كاذبة بحصر الظلم في النوع الخارجي, التغطية عن النوع الداخلي تخلط بين التعبير الساذج عن أمزجة أمراء الفصائل والخطط التحريرية التي تقتضي طبيعة الحروب التحريرية أن تكون وسائل للوصول في الغاية إلى تفاهم ما مع العدو ولو إلى حين. أما تعميق الأحقاد إلى حد يتعذر معه تعايش منظمات حركة التحرير فيما بينها فضلا عن التعايش مع العدو الذي قد يصبح صديقا، كما يقتضي ذلك منطق التحرير فإنه ليس حرب تحرير بل هو عين الإرهاب، إذ هو لا يتجاوز التنفيس عن حالات غضبية ترد الفعل ولا تفعل، ومن ثم فهو لايمت إلى الفعل السياسي بصلة ولعل المزايدات التوريطية للحركات ذات التاريخ الارهابي العريق في الحضارة الاسلامية عللها أعمق مما نتصور، كما بينت الاحداث الأخيرة في الوطن المسلوب الثاني. ويحلل الاستاذ محمد عطوان مفهوم ( المقدس وحدود الصدام بين الجماعات السياسية في العراق) فيستنتج في الأخير أن التغييب التاريخي للبنى/للنصوص يجعلها تتضخم كعلامة ـ بتعبير دريدا ـ تضخما مطلقاً. التضخم بذاته الذي يشير من خلال وجه أو ظل له إلى عَرَض، حتى لكأن حقبة تاريخية ـ ميتافيزيقية باتت مطالبة بأن تحدد فضائها الإشكالي كله كلغة، مهددة في حياتها، ضائعة ومبلبلة لكونها لم تعد تعرف حدودا لها، ومحالة إلى تناهيها الخاص. ولذلك تتحايل بعض البنى/النصوص لتبني شرعية سياسية لها وتعبئ وتحشد الجماعات، وتستخدم التحشيد هنا كأداة لاستبعاد بنى/نصوص أخرى، إلى جانب استخدامه (التحشيد) كإحدى أدوات السياسة التي تتعامل بها في علاقاتها مع القوى الأخرى التي تصل إلى حد التكفير والتسقيط والاقتتال في الاحتمالات المتوقعة. حتى يفهم العنف الواقع ـ في ضوء تلك العلاقات ـ على أنه النزوع الذي يتغذى على ما تفيض به رمزية النصوص وقداستها، وما يمكن أن تستجيب لمفرزاتها مواقف الجماعة المؤمنة بها ضمن مسكونية وعي خطيئي لا انفكاك منه. ويحصل تبعا لما نرى تماهي تلك الجماعات بنصوصها المطروحة ما يدفعها إلى أن تنتج عنفا في المعادلة الصراعية عبر عقل كلي (عليم) ومدبر يشتغل نيابة عن المجموع ويحل في مخيلته، بطريقة تُلبس الفرد ـ إن وجد ـ لبوسا جماعيا استتباعيا. ويتسائل الدكتور محمد الشيخ في عنوان دراسته المنشورة في الملف( هل كانت الحضارة العربية الاسلامية حضارة حوار؟) ويحرص على الحفر والتنقيب فيكتشف وجود تيارين عميقين متناقضين متصارعين: تيار "أهل الحرف" المضيق على الحوار، وتيار "أهل الروح" المنشرح للحوار المقبل عليه. ولقد ظل هذان التياران يتعايشان تارة ويتوجهان تارة أخرى، بل وجدا تجسيدهما في الحقبة الواحدة، بله المدرسة الواحدة، بله المفكر الواحد. وفي زماننا هذا يكاد يسير هذان التياران إلى المواجهة الحاسمة. يتغذى التيار المحافظ من انكسارات الواقع العربي، جاعلا من فكر القرن السابع الهجري حذيته وقدوته. إذ ما أشبه ظروف أيامنا هذه بما حدث بعد الحروب الصليبية والغزو المغولي! وكأن مفكري القرن السابع الهجري حشروا من قبر! ويتعزز التيار الثاني بالمجتمع الدولي وبالفكر الحقوقي الكوني وبالشرعة العالمية لحقوق الإنسان يجعل منها تراثا له وميراثا. إلا أنه يواجه تحديات خطيرة: أولها أن أخطر الأدلوجات هي لما يصير الدين أدلوجة. آنها يستوفي كل المقومات التي قد تحوله من "رحمة" إلى "سلاح": ففيه الجواب على كل سؤال، كائنا ما كان معرفيا أم اقتصاديا أم اجتماعيا أم سياسيا، وفيه شحنة الإيمان القوية التي تشحن الأنفس وتستذر التعاطف...ويواجه، ثاني ما يواجه، صعوبات من نوع آخر: إذ يكاد يكون مغتربا في بلده، وهو مغترب في الخارج لا يكاد يلتفت إليه؛ أي لا يكاد يذكر في التراث الحقوقي العالمي منه شيء. ويتناول الاستاذ ماجد الغرباوي ( تحديات العنف) المختلفة، ويدلل على ان العنف لا يمكن ان يقود يوما ما الى شاطئ السلامة والامان، بل العنف لا يولد الا عنفا مماثلا، ناهيك عن الآثار الكبيرة الناتجة عن ممارسته. لقد بحث الاستاذ الغرباوي تحديات العنف بدراسة مسهبة اطل فيها على آثاره التدميرية في الاجتماع والسياسة والثقافة والتمدين والاقتصاد والتنمية، فمثلا اوضح كيف ان العنف يفضي الى احتكار السلطة، بعد انتزاعها بالقوة او التآمر، وقمع المعارضة، والشعب ايضا. وعندما تلجأ بعض الحكومات الى الانتخابات تحت ضغط القوة تؤول العملية الانتخابية الى ممارسة شكلية يحصل فيها الرئيس المنتخب، الذي هو الرئيس الفعلي والمرشح الوحيد، على 99,9% او 99,8% من عدد الناخبين او ربما يفوز بالتزكية. وكثيرا ما يكون الرئيس مدى الحياة، الذي تهتف له الجماهير المرعوبة بالحياة، وتفديه بارواحها ودمائها اتقاء لبطشه واضطهاده. واما المقاعد البرلمانية فمحصورة بالحزب الحاكم، او بعض مقاعد لما يسمى بالمعارضة، الا انها مهادنة للسلطة، فهي في الحقيقة معارضة شكلية، وكثير ما تكون صنيعة الحاكم نفسه، فلا تمثل رأيا مستقلا ولا يؤول لها الحكم ابدا. واما الدول التي لا تعتمد نظام الاحزاب فعادة يكون لها جهاز امن ومخابرات يحصي انفاس الشعب ويتعقب المعارضة ليقضي عليها في مهدها، ويكون همه توفير الحماية للسلطة وعلى رأسها الملك او الرئيس، فهي اجهزة امن ضد الشعب وليس لحمايته وحماية حقوقه، وهي مصدر انتاج العنف والقاء الرعب وتسويغ الاضطهاد. اذن فهذا النمط من الدول تعاني دوما من دكتاتورية الرئيس او الملك او الحزب الواحد او الاجهزة الامنية. والغريب ان الاحزاب الحاكمة تتحول بمرور الايام اداة مسخرة بيد الحاكم المستبد، لا تعارضه او اتخاذ قرارات تقاطع ارادته، ويتحول الى جهاز امني لحمايته، وبالتالي تتلخص الدولة واجهزتها المختلفة بشخص الرئيس، او تتلخص بجهاز الامن والذي يتلخص هو الآخر في رئيسه، المطيع لرئيس الدولة والحريص على تحقيق رغباته. الا ان العملية السياسة في ظل المجتمع المدني والدول الديمقراطية تختلف جذريا عنها في الدول الاخرى، فللشعب حضور حقيقي، في الدول الديموقراطية، من خلال المؤسسات والانتخابات، كما ان التنافس بين الاحزاب السياسية على السلطة لا يتعرض لأي لون من ألوان الاضطهاد، وحينئذ لا يؤول الحكم الا لمن من يكسب الانتخابات بطريقة شرعية ويختاره الشعب عبر الاقتراع، بينما يتراجع الآخر الى صفوف المعارضة ويمارس دورا حقيقيا من خلال البرلمان. يحاسب الحكومة، ويعلن عن وجهات نظر مغايرة ، ويقوّم مشاريع الدولة. لذا فالحكومة تخشى المعارضة كخشيتها من الشعب، وربما اشد اذا اخذنا بنظر الاعتبار قدرة الاحزاب السياسية على تحريك الشعب. وحينما تحقق المعارضة نجاحا في الانتخابات يتم تداول السلطة بطريقة سلمية لا ترافقها أي مظاهر للعنف. بينما ينسحب الحزب او الاحزاب الحاكمة، اذا كانت مؤتلفة، الى صفوف المعارضة. وهذا الاسلوب في ادارة العملية السياسية بالطرق السلمية يتوقف على توافر الامن والاستقرار، ويفشل مع ظهور اول بادرة للعنف تفقده مصداقيته في التداول السلمي للسلطة. لهذا يرفض المجتمع المدني وجود حق مطلق في السلطة كما هي دعاوى الحكومات الثيوقراطية، ويبقى صاحب الحق الوحيد هو الشعب، وهو المسؤول أولاً عن اختيار نوع الحكم، ملكي او رئاسي، ديني او مدني. ولما كان المجتمع المدني يشترط التداول السلمي للسلطة لذا يشكل العنف تحديا كبيرا لادارة العملية السياسية بشكل سلمي بحيث تتكافأ الفرص لجميع الاطراف، وتحفظ للجميع حقه في المشاركة السياسية والتعبير عن وجهة نظره بالحكم. أي ان العنف سيفضي الى الاستبداد الذي هو الضد النوعي للديمقراطية، وبالتالي استحالة العملية السياسية السلمية، وانما استبداد وتسلط وقمع للمعارضة واضطهاد للشعب. كما ان تسلح الاطراف والاحزاب المشاركة في الساحة السياسية، بالعنف سيشعل فتيل الصراعات المسلحة، ويتحول التراشق بالألفاظ الى تراشق بالنيران، وينقلب الحوار السياسي الى مواجهات مسلحة. لذا نزع الاسلحة وحل كافة المليشيات المسلحة التابعة للاحزاب والحركات السياسية وغير السياسية شرط اساس في نجاح اطروحة المجتمع المدني وقيام نظام متعدد يحترم الرأي الآخر ويرفض الاستبداد بالحكم ويحفظ للفرد حريته وكرامته بعد سيادة القانون وتفعيل الدستور. وكانت خاتمة الملف دراسة للباحث السوداني الراحل محمد ابو القاسم حاج حمد، عالجت قضية (الآخر وشرعة السيف)لخص فيها رؤيته للقتال والجهاد بالسيف، وارتباط شرعة السيف تاريخيا بتشكيل الامة الوسط في عصر البعثة، ثم التحوّل إلى الحوار العالمي بعد استكمال تكوين "الأمة الوسط" وإدماج الأرض المقدسة بالأرض الحرام وإنجاز الحقبة النبوية الشريفة لمهماتها التأسيسية وفق معايير "النصرة الإلهية" و "التدخل الإلهي" يتحول الأمر إلى "حوار عالمي" بمنطق "المجادلة الحسنة" حيث تتضمن "عالمية الخطاب" التوجه لاستيعاب وتجاوز كافة "المناهج المعرفية" والديانات ، واستيعاب وتجاوز كافة "الأنساق الحضارية" إظهاراً للهدى ودين الحق.هنا يأتي "التعايش الإيجابي" و "التفاعل" و "التعارف" وحتى "التسامح" ومع كافة الكتابيين من يهود ونصارى ومجوس وصابئة من الذين بقوا من الحيز الجغرافي لما "ألحق" بالأمة الوسط بموجب الآية (3) في سورة الجمعة.ولم تنص "آية الالتحاق" على أسلمة اليهود ولا النصارى من أهل الكتاب في الأرض المقدسة فمرتكز الأمة الوسط هو جزيرة العرب تعييناً ، أما القدس والشام وما حولهما " امتداد " بحكم تغيير القبلة ، فلو لم تتغير القبلة من الأرض المقدسة إلى الأرض المحرمة لفرضت الأسلمة على اليهود والنصارى بشرعة السيف نفسها. ففي الأرض المقدسة تم إقرار التعددية الدينية واستمرارية هذه التعددية بمنطق الآية: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ(145) - البقرة/ج 2. وقد حصرت مسؤولية الذكر بالعرب وليس مجرد الإسلام والإيمان ، ولذاك حباهم الله بما حباهم به ماضياً وحاضراً وهم غافلون ، إذ يظنون ما لديهم مجرد صدفة جيولوجية! أو بما يماثل عطاء الله للدول النفطية الأخرى. وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ(44)- الزخرف/ج 25. أما التعيين القطعي فقد جاءت به الآية: هَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(92)- الأنعام/ج 7 . لهذا لم تتم الأسلمة القسرية في الامتداد المقدس كما تمت في جزيرة العرب بالدعوة وشرعة السيف حيث " لا يجتمع في جزيرة العرب دينان " . وبقي الأمرــــ كما حدده القرآن ـــــ التحاقاً وليس بالضرورة الحاقاً قسرياً وكذلك دفاعاً وتدافعاً ، دينياً ووطنياً ولكن في حال الإعتداء على المسلمين وأولئك الذين خرجوا كخير أمة باتجاه الأرض المقدسة وما حولها: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(39)الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(40)- الحج/ج17. بالتحول إلى "عالمية الخطاب" وإظهار الهدى ودين الحق بعد تأسيس قاعدة الأمة الوسط بشرعة السيف يؤخذ من القرآن محددات المرحلة الجديدة تماماً كما أخذت الحقبة النبوية حظها في مرحلتها ، حيث أحاطت مطلقية القرآن بمهمات الحقبة النبوية الشريفة وحددتها بما فيها من نصرة إلهية ، ثم تحيط بما بعدها من حقب. لذلك وفي مرحلة "ما بعد التأسيس" وحين يحاول البعض إقصاء المسيحية واليهودية ، وكذلك من اليهود والنصارى أنفسهم ، - خاطبهم الله سبحانه – بأن اليهود على شيء وأن النصارى على شيء. وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(113) – البقرة/ج 1. ثم مد خطابه لمن أتى بعد اليهود والنصارى وقال نفس القول بحقه فوصفه "بعدم العلم" "والمضمر" هذا موجه للمسلمين بضرورة التتابع التاريخي. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(114)وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(115) - البقرة/ج 1. وبحكم هذه الآية تمتد حرمة المساجد إلى كافة مساجد العبادة لذوي الديانات المختلفة ، وذلك في الآية (113) الممتدة السياق عن الآية (112) ، ثم أكد الله ــــ سبحانه ـــــ على إطلاقية التوجه إليه عبر كافة الأمكنة في العالم وعبر كافة الديانات في الآية (115) فأصبح كما للآخرين مناسكهم للمسلمين مناسكهم . لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ(67)وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ(68) – الحج/ج 19. بهذا ركز القرآن "قاعدة معرفية" في العلاقة مع الديانات السماوية وهي أنها "على شيء" وذلك بمعنيين "النسبية المقدسة" بحكم تنزلها خارج الأرض الحرام ، و"الجزئية" نتيجة ما أصابها من تحريف. فوصف هذا التحريف "بالكفر" وليس بالشرك". ويمتد توصيف ما عدا القرآن بالنسبية والجزئية إلى ديانات أخرى وصفت بانتمائها الإيماني"كالصابئة" الذين يمتدون بديانتهم إلى "صحف" إبراهيم والمجوس الذين يتمثلون الألوهية "نوراً" حيث انصرفوا إلى الجانب "الرمزي". إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62) – البقرة/ج 1. وكذلك: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(69) – المائدة/ج 6. وكذلك: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(17) – الحج/ج 17. كما يفهم من " منهجية القرآن المعرفية " ، وتوضيحاتها في " جدلية الغيب والإنسان والطبيعة " أن الإنسان " كائن مطلق " تخلق عبر جدلية كونية ، فالحرية المطلقة وليس النسبية هي من شروط تخليقه الجدلي الكوني كما أوضح الله ذلك في سورة الشمس : وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا(1)وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا(2)وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا(3)وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا(4)وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا(5)وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا(6)وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7)فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8) - الشمس/ج 3. وهي حرية تمضي إلى حد " الكفر " . وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا(29) – الكهف/ج 15. وكذلك: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا(18)وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا(19)كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا(20) – الإسراء/ج 15. دون أن ينزل الله حدا شرعياً للردة في الحياة الدنيا فيشرع لقتل المرتد أو صلبه أو جلده . وجعل عذابه في الآخرة . وقد كانت أول ردة دينية هي ردة بني إسرائيل الذين عبدوا العجل ولم يشرع الله لعقوبة أو حد مع أنه - سبحانه - كان يطبق عليهم شرعة " الأصر والأغلال " وليس " التخفيف والرحمة " كما عليه شرعة الإسلام . إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ(152) – الأعراف/ج 9 . ثم كــان " الاعتذار" الإسرائيلي في الجبل وتوسل أربعين نقيباً منهم دون إمضاء عقوبة إلهية . فالله غني عن العالمين . وكل ما أتى به الله في شأن " الردة " هو إحباط عمل المرتد في الدنيا والآخرة. وفي باب نقد العدد الماضي قدم الشاعر والناقد احمد عبدالحسين مراجعة تقويمية لملف ( بسط التجربة النبوية) في العدد السابق، وشدد على ان المرجعية العميقة والمشبعة بالرؤيا لتحديث التفكير الديني تكمن في ميراث العرفاء، فإن عرفاء الإسلام هم الآباء الشرعيون للمفكرين الأحياء من المجددين، الذين تطمح كلّ كتاباتهم إلى الوصول إلى حقيقة أن كلّ خطاب دينيّ ممكنٍ هو قول على قول، وأن رسالة الإله هي من السعة والإبهام بحيث لا يمكن لنا روايتها إلا مختلطة بكلامنا الشخصيّ عنها.فقد كان قبول الدرس العرفانيّ شغل الدكتورعبد الكريم سروش، بدءاً من عنوان كتابه "القبض والبسط ..." الحامل لهذين المصطلحين العرفانيين مروراً باستشهاده المتكرّر في كتبه ومحاوراته وخطبه بكلمات المتصوفة والعرفاء، وليس انتهاءً بإشاراته هنا وهناك الدالة على إن جوهر نتائج أبحاثه رجع صدى لأبرز الكشوفات العرفانية. واهتمام سروش بالعرفان يشكل لنا مناسبة للحديث عن صلاحية حضور الدرس العرفانيّ "القديم زمناً والوجدانيّ صبغةً" في البحث الفكريّ الإسلاميّ المعاصر. فإذا كنا أشرنا إجمالاً في ما سبق إلى ضرورة تقبّل هذا الدرس كنائياً، فلا بدّ لنا الآن، عند الحديث عن مشروع سروش، أن نبسط هذه المسألة على نحو التفصيل. أحسبُ أن صفتين اثنتين جعلتا الجهد الكتابيّ العرفانيّ مختلفاً عما سواه من إرث متألهي الإسلام، وهما صفتان فرضتْهما طبيعةُ موضوع البحث العرفانيّ والمنهج المتّبع في هذا البحث على السواء، يمكننا تسمية هاتين الصفتين سريعاً: الجرأة والعمق. ليس للعارف شغلٌ سوى الله الذي هو ظاهر وباطن في آن، والعارف في سبيل التعرّف على الباطن لا بدّ له من مشاهدته في الظواهر أولاً قبل الفناء، فمطلبه أن يتقصى الغيبَ في عالم الشهادة، وأن يبصر في كلّ ظاهرٍ مسحةً باطنيّة، وبتعابيرهم "أن يرى الوحدة في عين الكثرة"، وأن "يرى في كلّ جمالٍ جلالاً"، وهو في سبيل ذلك لن ينشغل كثيراً بما يلقى بين يديه من الظواهر، أو يقف على رسوم المفاهيم والدلالات، بل يتجاوزها سريعاً إلى الجوهر المخبوء فيها والدالّ على الغيب، ولذا فإن تأويل العالم ـ نصوصاً وظواهر ـ هو أبرز سمات العارف الذي ترك التفسير لمن أسماهم بعلماء الرسوم، واختصّ من كلّ شيء بعمقه، نرى ذلك في تأويلهم للقرآن كما في فهمهم للعبادات وقراءتهم للنفس الإنسانية. ان استراتيجية عمل كهذه جعلتْنا نتوقع من العارف ما لا نتوقعه من سواه، أن نبصر في مطاوي كلماته شغفاً بقول ما لا ينقال، ولعاً باستنطاق مسكوت عنه في كل قول، ومعرفة ما لا تطيقه اللغة في المكتوب نفسه، فكما نصّ النفريّ في مواقفه (إنْ لم تعرفْ ما لا ينقال تشتّتَ في ما ينقال). وهذا سرّ عمق النصّ العرفانيّ: انه ذاهبٌ في رحلةٍ تكفّ اللغةُ فيها عن أداء وظيفتها التقليدية كأداة إيصال، وتبطل المفاهيم وتحضر الإشارات المفعمة بطاقة إيحاء كبيرة تناظر سرّانيّة بحث العارف وإلغاز موضوع بحثه. ويشير الاستاذ عبدالحسين الى مفارقةالنص العرفاني لكل انواع الخطابات الاخرى لغةً وأداءً ومنطقة اشتغالٍ رغم اشتراكه معها في مواضيع البحث، فليس نادراًً أن تجد العارف متكلماً في نصه على موضوع عقائديّ أو فقهيّ لكنه يباشرُ كلامه هذا من زاويته الفريدة التي تتساقط عندها كلّ الإعدادات المعرفية التي يتسالم عليها المتكلمون والفقهاء والفلاسفة. وهذه هي جرأة العارف: انه يسلك مع هؤلاء المتألهين جادة واحدة لكنه يفارقهم عند أول منعطفٍ يتيح له السير في طريق لا يطيق سلوكها أحد سواه، وأحسب ان في لقاء ابن رشد مع ابن عربيّ في صباه وما دار بينهما من حوارٍ عميقٍ يمنحنا مثالاً جلياً على مقدار الجرأة والعمق اللتين ميزتا العرفاء عن المتكلمين والحكماء. العمق والجرأة مِيزتا الدرس العرفانيّ إذنْ. والباحث الذي أخذ على عاتقه مهمة قبول هذا الدرس وعرض رهانات الحاضر عليه، لا بدّ له أن يتوافر بحثه على هاتين الخصلتين، إذ الجرأة لوحدها قد تجعل البحث سريع العطب، أشبه ما يكون بمداولات الحِجاج والسجال التي يكثر فيها القول الجريء لكنْ الخالي من المغزى المعرفيّ العميق، وتتراكم فيها أحكام القيمة ومفردات التفضيل دون أن ترقى هذه الأحكام الجريئة إلى مصافّ التأسيس أو تجاوز العتبات الكبرى، نظيرَ ذلك ما نجده في كتب فريقيْ الإسلام من محاججاتٍ ذات جرأة عاليّة هي في الحقيقة ليست شيئاً سوى أجوبة إسكاتيّة، لا قيمة لها سوى قيمتها الفوريّة. العمق وحده يمكن أن يلقي البحثَ في غيابة النسيان وعدم الاهتمام، فما يُهتَمُّ به على الحقيقة ويحسب له حساب هو الدرس الأكثر قدرة على مواجهة السائد المعرفيّ والأكثر استعداداً للمطاولة في هذه المواجهة. أن كثيراً من بحوث الإكاديميين العرب تتوافر على عمقٍ معرفيّ كبير لكنها تفتقر إلى الرغبة في المواجهة ما جعل من جهدهم حبيسَ دائرة ضيقةٍ يتداوله الطلبةُ والمهتمون بينما العالم الفسيح "الواقعيّ والافتراضيّ" ملكٌ للمعرفة الملقّنة التي تعاد علينا إشهاراً وتنويعاً في فضائياتٍ وجوامع ومواقع إنترنت. هذه مراجعة عاجلة للعدد الجديد من مجلة قضايا اسلامية معاصرة ، وهي بالتأكيد لا تغني عن قراءة العدد، في مجلة عودت القراء على نشر ملفات بالغة الحساسية وشديدة الاهمية ، وباصرارها على الانتقال بالتفكير الديني الى فضاءآت بديلة ومدارات جديدة، يجرؤ فيه على اقتحام الممنوع، واجتراح الاسئلة المحرمة، وتجاوز المحضورات، واقتحام الخطوط الحمراء.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |