قد يعتبرني البعض مغالي، ويقول آخرون سلبي، وأنعت بالتخلف والقبلية، وقد اتهم بالتطرف والشمولية والانحراف عن المبادئ الإنسانية، ولهؤلاء أن يقولوا ما يشاءون، ولكني سأطرح رأيي تاركا للآخرين الباب مفتوحا لمناقشتي فيه وإقناعي بعقمه وانحرافه عن الواقع وهذا الرأي جاء عن قناعات مسبقة وقراءة ناضجة لتاريخ العراق الحديث، لأن الغرض من دراسة التاريخ العبرة والعضة واستلهام الدروس ودراسة التجارب وليس لمجرد دراسة أخبار الفاتحين والامتراء والخلفاء والزعماء الذين زين المؤرخين تاريخهم بما أضافوا له من مساحيق لتجميل صورته، ولعب هؤلاء دورا مزدوجا في تزييف الحقائق وقلب الموازين، وصوروا الأحداث بما يخدم المستبدين ويسيء إلى الفقراء والمحرومين، وقد عاصرنا الكثير من الأحداث ورأينا كيف تقلب الحقائق، لذلك علينا تمحيص الأمور ودراستها بعمق للخروج بأفضل النتائج، ومنها قضية حزب البعث ودوره في الحياة العراقية على وجه الخصوص، ولو درسنا تاريخ هذا الحزب منذ تشكيله لحد الآن لوجدناه حافل بالجريمة والقتل والدمار ولا يؤمن بغير القوة طريقا للوصول إلى أهدافه في التحكم والتسلط على الآخرين، فقد مارس أدوار مريبة وارتبط بعلاقات مشبوهة بأطراف خارجية بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 ومارس أعمال تتنافى وطبيعة العمل السياسي، واستند في أعماله إلى حكومة عبد الناصر والحكومة السورية في التآمر على الثورة وخلق المشاكل بوجه عملية البناء الجديد للعراق حتى تسنى لهم قلب نظام الحكم بالتعاون مع المخابرات المركزية الأمريكية كما أعترف قادتهم بذلك في مذكراتهم وهو ما يعرفه الجميع، ومارسوا من خلال حرسهم القومي أبشع الأعمال الإجرامية، وارتكبوا الموبقات وقتلوا الآلاف تحت التعذيب واغتصبوا النساء، وللعراقيين الرجوع إلى كتاب المنحرفون الصادر بعد انقلاب عارف ليجد الفضائح الكثيرة التي مارسها هؤلاء، وما قاموا به من أعمال يندى لها الجبين، ويتذكر السجناء والمعتقلين ممارسات هؤلاء وإعمالهم الجبانة والطرق الخسيسة في التعامل وقطار الموت وأفاعيل قصر النهاية، ومحاولتهم اقتحام سجن الحلة في ساعات انقلاب عارف الأولى وقتل المعتقلين، وغير ذلك من الأعمال التي يتطلب ذكرها مجلدات ومجلدات.

 وبعد انقلاب عارف لم يحاسب القتلة والمجرمين على جرائمهم، لطبيعة النظام ألعارفي الممالئ للأطراف غير الوطنية، وحاولوا الانقلاب عليه بعدة محاولات فاشلة إلا أن أسبابا طائفية ومناطقية جعلت الحكم ألعارفي يتوانى عن محاسبتهم وأعلن زعيمهم آنذاك أحمد حسن البكر توبته وأنه سينصرف لتربية المواشي، ولكن ما أن حانت الفرصة، وشاءت الظروف الدولية الغربية إزاحة الرجل الضعيف عبد الرحمن عارف وعودة البعثيين الى السلطة لوجود أدوار مستقبلية لدوائر القرار الغربي على البعث انجازه، حتى سلم عارف السلطة الى هؤلاء بدون أطلاقة واحدة واكتفى من الغنيمة باللجوء الى أسياده، وبدء البعث عهده الجديد بخطة جديدة ارتدى لها مسوح الرهبان وأظهر ندمه على ماضيه المعيب واستعداده لفتح صفحة جديدة في العلاقات الوطنية فأصدر قراره بإطلاق سراح السجناء والمعتقلين السياسيين وإعادة المفصولين الى وظائفهم، ومغازلة الكورد والشيوعيين لإقامة جبهة معهم وأستخدم سياسته المزدوجة في القتل بيد والمصافحة بالأخرى حتى أوقع القيادات بمصيدته الجديدة في محاولة للقضاء على مناوئيه من الأحزاب الوطنية العريقة، وانساقت تلك القيادات وراء الخطط البعثية بحسن نية أو قصور في النظر أو أسباب ذاتية وموضوعية لا مجال لمناقشتها الآن، وحدث ما حدث من التفاف على كل الاتفاقيات وانهارت الجبهة التي طبلنا إليها كثيرا ليكشر البعث عن وجهه القبيح ويعود الى طبيعته الحيوانية وقام بحملته الرعناء لإبادة الشعب الكردي بعد اتفاقه مع الشاه المقبور، وبعد ذلك عاد لحلفائه الآخرين فأنهى مرتكزاتهم الشعبية بالقتل والإبادة والتسقيط والتهجير، وجر البلاد الى حروب كارثية مع الجيران والأشقاء أدت الى فرض الحصار على الشعب العراقي لأماتته جوعا وكمدا حتى أصبح الشعب مهيئا لقبول أي حكم آخر يخلصه من النظام المقيت، فكان الاحتلال الأمريكي الذي اسقط النظام الصدامي ليغرق البلاد في دوامة من القتال والتصفية الجسدية وإثارة النعرة القومية والنزاعات الطائفية، ولم يحاول النظام الجديد الاستفادة من أخطاء الأنظمة السابقة بوضع الحلول الجذرية الصائبة لإنهاء مرتكزات البعث في العراق فكان القرار الأمريكي باجتثاث البعث الذي جاء دون دراسة للواقع العراقي ولا يؤدي لحل المشكلة البعثية بل زاد من تفاقمها عندما سمح للقيادات البعثية بالهروب من المواجهة لتبدأ التخطيط من جديد بالعودة الى السلطة عن طريق التحالف مع القاعدة وبعض دول الجوار التي تحاول أضعاف العراق تمهيدا للسيطرة عليه وإنهاء الروح الوطنية بزرع بذور الفتنة والاختلاف، واكتفت الأحزاب المتضررة من النظام السابق بالقرارات الفوقية دون محاولة اجتثاث هذه الجرثومة بالطرق الطبيعية ولم يتمكنوا من إنهائهم سياسيا بسبب الدعم إلا محدود للدول العربية الشقيقة لعملاء النظام السابق وأزلامه بما وفروه من دعم مادي ومعنوي، وحتى أعداء صدام كانت لهم مواقفهم الداعمة للعناصر البعثية في تدمير الدولة العراقية الجديدة، فكان أن تسرب البعثيون الى السلطة من جديد تحت واجهات متعددة، وتمكنوا من الوصول الى أعلا سلطة قرار في الحكومة العراقية، وساهموا في أفشالها داخليا وخارجيا وأعاقوا تقدم العملية السياسية بمواقفهم المحسوبة جيد، وتمكنوا من شل فاعلية الأحزاب الأخرى، لما ظهر من فشلها وعدم انتهاجها لسياسة حكيمة، وعدم معالجة مشاكل المواطن العراقي أو إعادة البناء والأعمار وتفشي الفساد الإداري والمالي الذي أصبح سمة مميزة للنظام الجديد، لضعف أجهزة الرقابة واختيار العناصر غير الكفوءة للمناصب الحساسة.

 والآن في ظل التجاذب والاصطفاف المريب لقوى داخلية وخارجية تحاول بشتى الوسائل تجميل الوجه القبيح للنظام البعثي الساقط، ومحاولة أعادته ليمارس دوره المشين في إذلال الشعب العراقي، على القوى التي تدعي النضال لإسقاط الدكتاتورية والتضرر من النظام البائد أن تعيد حساباتها وتتناسى خلافاتها الأيديولوجية وتسعى لتوحيد جهودها للوقوف بوجه النغمة الجديدة التي تحاول أعادة البعث من الشباك بعد أن اخرج من الباب، والاحتكام للشعب باستفتاء حول عودة البعثيين للساحة السياسية، لأن التجارب السابقة أثبتت أن هؤلاء لا يتخلون عن نهجهم العدواني في القتل والإبادة والدمار، وعلى الإخوة الأكراد الذين يلهثون من أجل إعادتهم ، الرجوع الى الوراء قليلا وتذكر الأعمال الإجرامية التي مورست معهم، وعمليات التهجير والقتل وانتهاك الأعراض، وعدم تغييب إرادة الشعب الكردي الذي يتعارض ونهج قيادته الداعي الى عودة البعثيين دون قيد أو شرط، وعلى الأحزاب الإسلامية تذكر الملايين من الشهداء الذين سقطوا صرعى بنادق الغي والجريمة، وان لا يتناسوا دماء الشهداء والمضحين من أبناء شعبنا العراقي الذين ذهبوا ليصل هؤلاء الى الحكم، وعلى حزب الشهداء أن يتذكر قياداته وكوادره وأعضاءه الذين اذابهم النظام البائد بالتيزاب، وليتذكروا جيدا أن الأيدي التي قتلت سلام عادل ورفاقه الأبرار لا زالت تبحث عن ضحايا جديدة لإشباع شهوتها وروحها النهمة للقتل وسفك الدماء، وان لا يتاجروا بدماء الشهداء الذين لا زالت أبصارهم ترنوا الى قاتليهم وهم ينعمون بأطايب الحياة والجاه والنعمة وأموال العراقيين التي سرقها أزلام النظام والتي تقدر ب 200 مليار دولار، وأن لا يتناسوا أن محسن الشيخ راضي الذي تلذذ يقطع أوصال الشهيد سلام عادل لا زال يقطع بأصابعه العفنة (الباجة) في مطعم الحاتي على ذكرى ما اقترفت يداه بحق الإنسانية...لعل الذكرى نافعة لمن لا يذكرون.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com