|
الديمقراطية والتقدم الاجتماعي
فلاح أمين الرهيمي إن تفسير التاريخ يأتي من خلال النظام الاقتصادي السائد في تلك المرحلة من الزمن والتي تعكس طبيعة الإنتاج والتبادل التجاري الذي ينتج عنه التنظيم الاجتماعي الذي ينشأ عليه التاريخ السياسي والفكري لتلك المرحلة . إن كل ظاهرة في الوجود لها أسبابها ومسبباتها وعواملها والحلول المضادة لها عن طريق القوانين الموضوعية العلمية التي تتحكم بهذه الظاهرة التي تعتمد على ديالكتيكيتها في الوصول إليها ومعرفتها والتي تؤدي إلى ظهور ديالكتيك جديد مستوحى من تلك الظاهرة حسب القوانين والحقائق العلمية المادية المرتبطة بها والذي يؤدي إلى اكتشافها والتحكم بها . إن الأحداث التاريخية وتطور المجتمعات لا تخضع إلى حتميات ميكانيكية في صيرورتها ومصائرها بل إنها تنهج نهجاً عاماً مرتبطاً بالتقدم الاقتصادي والإنتاجي بقوانين علمية تستطيع بواسطتها الوصول إلى المعرفة والحقيقة الموضوعية والظواهر المختلة الذي يعتبر مقياس علمية الفكر والمعرفة . في تطور المجتمعات وتقدمها . إن المجتمع المتقدم والمتطور لا يتحقق في المحصلة بناء على رغبات إنسانية بيروقراطية متعالية على الشعب والواقع الموضوعي أو اعتماداً على أمنيات عاطفية مجردة بل إن عملية تحقيق المجتمع المتطور والمتقدم تقوم على إرادات إنسانية مؤمنة بالديمقراطية والتقدم الاجتماعي والتفاعل والانصهار مع جماهير الشعب وطوحها في بناء المستقبل المشرق السعيد والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وتكون قادرة على امتلاك المعرفة العلمية والوعي الفكري الخلاق من خلال ممارسة الديمقراطية والحوار الفكري واحترام الرأي والرأي الآخر والشفافية في التعامل والنقاش الهادف والنقد البناء والإحساس والشعور العالي بالمسؤولية الإنسانية تجاه الفرد والمجتمع ، إن الديمقراطية ليست ثوباً جاهزاً نلبسه أو سلعة نقتنيها ونحتفظ بها أو أدوات أو وسائل للتنمية والتطور قادرة على تغيير المجتمع التقليدي وتقدمه وتحويله من مجتمع تسوده تقاليد وعلاقات العشيرة والقبيلة والطائفة إلى مجتمع المؤسسات ودولة القانون . يقول العالم الاجتماعي الراحل الدكتور علي الوردي : ((إن طبيعة القيم الاجتماعية التي تسود الناس فترة طويلة من الزمن ، إنها لا تتغير بنفس السرعة التي تتغير فيها ظروفهم المعاشية)) حينما ننظر إلى تجربة الديمقراطية عندما سادت في أوروبا فإنها تجاوزت الكثير من المعوقات والمطبات من المداخل الاجتماعية وفق عملية التطور المعقدة والصراع والنزاعات استمرت مئات السنين ولم تأت بعملية قيصرية أو بناء على أفكار فولتير ومونتسكيو وروسويل حتى إن هؤلاء المفكرين أنفسهم إنتاج عملية طويلة من التطور مرت بها متجاوزة (الأنا العليا) التي تتمحور حولها القيم الأخلاقية . إن المرحلة السابقة التي أناخت برعبها وكوارثها وعبثها ومآسيها على صدور أبناء الشعب العراقي والتي استمرت لأكثر من أربعة عقود من الزمن (رحل خلالها أجيال من العراقيين وولدت أجيال أخرى) والتي خلقت وأفرزت روحية أنانية ونفسية مضطربة يخيم عليها الخوف والقلق والرعب فأنتجت وأنجبت الأمراض النفسية والحقد والكراهية في المجتمع الواحد وجعلت منه مجتمعاً منغلقاً فتوقفت فيه مسيرة الحياة والإبداع المناخية لطبيعتها وحركة ديناميكيتها نحو التقدم وتطور مسيرة التاريخ إلى أمام وأصبح الفرد العراقي يحتمي تحت خيمة الطائفية والعشيرة وخضع لقرار الحاكم المطلق وشيخ العشيرة أو الطائفة وأصبح فكره منغلقاً يبحث عن مصالحه الأنانية الخاصة به وعن ذاته وتوجهاته المادية والمعنوية في المجتمع الذي يعيش فيه وكمل يقول الجاحظ : ((إذا سادت في المجتمع القيم المعنوية فإن القيم المادية تزول وبالعكس إذا سادت في المجتمع القيم المادية فإن القيم المعنوية تزول)) . إن الخطوات الآنية المهمة والأولوية لتجاوز تلك المرحلة والمستحقات الأخرى التي تجثم على صدور أبناء الشعب العراقي دراسة تلك الظاهرة التي تكمن وراء ظهورها عوامل وأسباب موضوعية وإقليمية وعالمية وجميع جوانبها بعيون ثاقبة لأن تفسير أي شيء لا يكون مجدياً إلا إذا تعاملنا معه من خلال ما يحيط به من أسباب وظروف وعوامل التي أدت إلى ظهور وديمومته واستمراريته وإن الظاهرة العراقية يمكن أن نشبهها بالحفرة التي نريد تجفيفها في الوقت الذي تصب فيه الينابيع والروافد من كل جانب وفي هذه الحالة يجب ردم جميع المنابع والروافد حتى ينقطع عنها الماء وتجف هذه الينابيع والروافد مستحقات كثيرة كالبطالة وأزمة الخدمات والفساد الإداري والمهجرين والبطاقة التموينية وغيرها . إن الظاهرة العراقية لا تتعلق حلولها ومعافاتها وصحتها بطائفة معينة أو قومية أو حزب أو فئة وإنما هي قضية ومأساة شعب بكامله لذلك فإنها تستوجب صحوة ويقظة جماهيرية واسعة تشمل جميع الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية وعقد الندوات وبالأساس تتحمل الدولة المسؤولية الأولى لأنها أكبر وأوسع إمكانية مادية ومعنوية من الطائفة والقومية والحزب ، وهنالك ظاهرة أخرى لا تقل أهمية عن السابقة وإنما إذا جرى تفعليها وتنشيطها فستترك أثراً فعالاً في الوعي الفكري الخلاق وثقافة الجماهير الواسعة وهي ظاهرة الأكثرية الصامتة واللامبالاة التي تخيم عليها نتيجة تقصير واضح من الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني في احتضان هذه الشريحة الواسعة من أبناء الشعب وإن أحد الأسباب والعوامل لهذه الظاهرة ليست إعادة الثقة والعلاقة معها وإنما تكمن أسباب نفسية ومتراكمات سابقة يجب على الأحزاب التقدمية دراستها واستيعابها إضافة إلى أوضاعها الاقتصادية فإن هنالك ظاهرة التذبذب الشخصي والاضطراب النفسي الذي يصيب الإنسان عند الانتقال والتحول من مرحلة إلى أخرى والصراع الداخلي الذي يعانيه بما غرس في عقله الباطني من أحداث وسلوك وتصرفات سابقة والحالة والأوضاع الذي يعيشها الآن فإن الطباع والاستقرار الذي تعود عليه والتهميش والاغتراب الذي مارسته معه الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وعدم قيام هذه الأحزاب والمنظمات بأي عمل لاحتضانهم ودراسة ظروفهم من سلبيتهم وعدم ثقتهم وأملهم بتغير وضعهم وظروفهم نحو الأحسن وهنالك قاعدة تقول : ((إن التأخر في إنجاز الإيجابيات تؤدي إلى إفراز السلبيات)) إن الأحزاب التقدمية والديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني والحركات السياسية لم تستوعب مرحلة ما بعد سقوط نظام صدام حسين والتحول الكبير الذي حدث ولم تستغل الوعي الفكري المخزون في ذاكرة الجماهير وثقافتها التقدمية والديمقراطية وإنما واجهت تلك الجماهير الواسعة والمتلظية بشواظ الاضطهاد والإرهاب من العهد السابق أفكار ورؤيا واجتهادات جديدة لم تفهمها ولم تستوعبها وإنما نشأت وخلقت في شخصية نظامان متناقضان من القيم مما أدى إلى الاضطراب النفسي والتذبذب الفكري وإن أصبح تائهاً في دوامة الأوراق المختلطة والمختلفة والأمواج المتلاطمة والعواصف العاتية وبدلاً من أن تستغل تلك القابليات والجهود الإنسانية المثقلة قلوبها بالوطنية والحب والإنسانية واجهت التهميش والإهمال مما خلق الإحباط وخيبة الأمل في تلك النفوس المعذبة والمكتوية بنار الإرهاب والاضطهاد والحرمان فأصبح شخصية مزدوجة بين فكرتين ورأيين واجتهادين مختلفين كل واحد يدفعه نحو تقدير أفكار وقيم معينة والآخر يدفعه نحو تقدير وتأييد أخلاق متناقضة مع الأولى وأصبح يعيش في حياته سلوكين مختلفين من حيث لا يدري . إن عملية التغير يجب أن يرافقها ثقافة ووعي جماهيري لاستيعاب المرحلة وذلك من خلال الاعتماد على القوى الحية والواعية والمتمرسة في العمل والنضال الجماهيري والذي يؤدي إلى بناء قاعدة جماهيرية واسعة تستوعب المرحلة التي يعيشها وعياً وثقافة وفكراً والتي من خلالها تمارس النشاط الديمقراطي التي تفتحت آفاقها لكي يمارس المواطن العراقي الحوار الفكري البناء واحترام الرأي والرأي الآخر والحرية والنشاط السياسي بشفافية وشعور بالمسؤولية ويستطيع أن يشخص ويختار الرجل المناسب للمكان المناسب عند ذلك يتقدم المجتمع نحو الأفضل،وإن الديمقراطية ليست مجرد وسيلة لتحقيق غاية أو وسيلة تكتيكية من أجل تحقيق غاية لمرحلة معينة وإنما النضال الديمقراطي هو بالأحرى وسيلة وغاية على السواء لأنه يمكن الشعب لإنجاز عمل ما والشعب يمكن الديمقراطية من توطيد وترسيخ أسسها ودورها في تطور وتقدم الوعي الفكري الخلاق الذي يعتبر الحافز الذي يحرك جميع الإمكانات المتاحة ويدفعها للتفاعل مع الواقع الموضوعي برؤية قوامها الحقيقة والتدبر الصادق للعلاقات السائدة في المجتمع وتأهيل ما تعطل منها كي نستعيد طموحاتنا في حياة يجدر بها أن تتجدد رؤيتنا لمعطياتها وإفرازاتها مما يؤدي إلى أن يكتسب الشعب خبرة عملية ويكتسبون وعياً فكرياً وإدراكاً سياسياً مما يؤدي إلى ترسيخ وصيانة الوعي الفكري والثقافي للشعب وتعزيز الثقة والإيمان بالأهداف الذي يناضل من أجلها الشعب وتكون المحصلة النهائية تحسين ظروف وحياة الشعب سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |