عرف الشاعر الحاج رسول محيي الدين بقصائده الرائعة الخالدة، وخصوصا في رثاء الأئمة الأطهار، وفاجعة العالم الإسلامي في ملحمة ألطف الخالدة، وكانت قصيدته (يحسين بظمائرنه)نشيد الثوار في انتفاضة آذار/1991 الباسلة، وكان لقصائده (تربية حيدر)و(خذ يا محمد)أثرها في أغناء القصيدة الحسينية بالصور الرائعة المستمدة من التاريخ العربي الإسلامي، وقد أخذت تلك القصائد ـ إضافة لقصائد أخرىــ مكانها في أذهان الناس، وأصبحت علامة بارزة اقترنت باسمه، فخلد بخلودها وذاع صيته من خلاله،  وله الكثير من القصائد المعبرة عن شؤون وشجون الشعب العراقي، صب من خلالها جام غضبه على الحكومات المتعاقبة بعد ثورة الرابع عشر من تموز، دعت السلطات الحاكمة آنذاك إلى اعتقاله عدة مرات، ومنعه من أرتقاء المنابر.

  وقد  نشرت عنه الكثير من المقالات في الصحافة العراقية، في الداخل والخارج، في سفراته الكثيرة وإلقاءه القصائد للجالية العراقية في الولايات المتحدة الأمير كية،  وسوريا والأردن ولبنان وكلها تشير إلى روائعه في الأئمة من آل البيت، وقد غاب عن بال الكثيرون قصائده الأخرى في الجوانب الاجتماعية والسياسية، رغم أنها تعد من المبتكرات الجميلة في الشعر الشعبي، وكان لها الصدى المؤثر في الأوساط الأدبية والسياسية، بما تضمنت من آراء حرية بالإشادة والتقدير، وسنتناول في هذا المقال واحدة منها هي(المئذنة الملتوية)، التي عدت من الملاحم الشعبية، وقام بنشرها شيخ المحققين المرحوم علي الخاقاني صاحب دار البيان، والمؤلفات الموسوعية في الأدب العربي، والباحث الميداني في الفولكلور العراقي الذي أغنى المكتبة الشعبية بمؤلفاته عن فنون الأدب الشعبي، والتي أصبحت من مراجع الدارسين لهذه الأدب الأصيل.

  طبعت هذه الملحمة بكراس سنة 1968، وهي قصيدة ألقاها الشاعر في حفل كبير أقيم بمناسبة توزيع أراضي سكنية لعمال البريد والبرق، وعمال بيع النفط في النجف الأشرف، بمساعي متصرف لواء كربلاء السيد جابر حسن حداد في 30/12/1967 قدم لها الفقيد الخاقاني مقدمة ضافية وافية، شرح فيها ظروف القصيدة وموجبات نظمه، ودور الشاعر الشعبي في رصد الأحداث والإشادة بالجيد منه، والتنبيه لما يحتاج إلى الإصلاح والتهذيب، وقد تطرق الشاعر من خلالها إلى نكسة حزيران، وما رافقها من ذيول، ومحاكمة التيارات التي كانت وراء النكسة، والقوى الأخرى التي استفادت من الجهل والتردي لتجني على حسابه مكتسبات خاصة به، متناسية آلام الآخرين وأوجاعهم، ومعاناتهم بسبب الفقر وتردي الأوضاع المعاشية، في الوقت الذي كان فيه هؤلاء بجنون الملايين باستغلال جهود الطبقات الشعبية.

 وقد أشاد في بداية القصيدة بجهود المسؤولين في توفير السكن المناسب للكادحين والطبقات المسحوقة من عمال وكسبة،  وفيها يربط بين الساعين لعمل الخير، وأولئك الذين يجمعون الأموال بأسم الله، ليحتجنوها لأنفسهم وأقاربهم ومن يلوذ بهم من الأتباع والمريدين، ويشيدون القصور والعمارات من أموال اليتامى والمساكين:

بذرة الخير السعه ألتأسيسها          ينتفع بثنين بذره وذكريات

عن جهوده تعوضه من أيقيمها      والجهد للخير ثروة مكرمات

الثروة بين أنفاقها وتكديسها          موت دائم لو ربح ثاني وحياة

خير منحه التستر على الناس دور    وخير أنسان النفع إنسانها

والحياة ويه الأمم سبحه وتدور      وتشكر الله لحصلت أثمانها

 ثم يجري مقارنة بين ما كان عليه الحال في خلافة الأمام علي أبن أبي طالب (ع) وزهده وتقواه وتورعه وتعففه عما في أيدي الناس، ومساواته بين المسلمين بغض النظر عن أحسابهم، ومدى قربهم أو بعدهم عنه، وما عليه حال المتسيدين في هذه الأيام من حياة مترفة لاهية،  ينهبون بيت مال المسلمين، ويقطعون الأ قطاعات لأبنائهم وأقاربهم وأزلا مهم ومن يلوذ بهم من النفعيين والمرتزقة، ويشيدون العمارات، ويقتنون أفضل الأثاث والرياش:

شفنه حامي الجار حي شفناه ميت       أكله قرص شعير لابس مدرعه

لا قصور مشيده من الكون كريت         بلا قوائم أجنحتها مشرعه

لا أواني الذهب بخزانة البيت             بيها أحجار الكريمة مرصعه

ثوب خام وللسكن بيت بأجور               ونعل من ليف النخل وأغصانها

وچم عقيل بچويته يون ويجور                أو بني العم ربعت من عثمانها

    وليس هذا العصر وحده يحتاج إلى المحاكمة، فالتاريخ يحوي في طياته الكثير ممن يدعون الناس إلى البر والتقوى وينسون أنفسهم، ويطلبون من الآخرين الشح والتقتير، في الوقت الذي يتمتعون فيه بأطايب الحياة، وعندما يموتون تقام لهم الفواتح  الكبيرة التي تتصف بالبذخ والإسراف والأنفاق غير المعقول، وقد تمتعوا في حياتهم، ويعدون الناس بالجنان وحور العين في أخرتهم:

بكل عصر يرقد مثيله على السرير       ويرى المسلم حاير بأيجاره

ياكل ويشبع ويروه من العصير            ويرى المسلم جايع بلا چاره

ينزع ويلبس بأصواف الحرير             وغيره حافي وملتحف بأطماره

وبس يموت يشيعونه الرب غفور        والفواتح تعمر بقرآنهــــــــــــا

وللفقير الصابر بيوم النشور              حور تنتظره على باب أجنانها

ويختتم المورد التالي، بمقولة الأمام الثائر أبي عبد الله الحسين(ع) (وأصبح الدين لعقا على ألسنتهم) مشيرا إلى فلان وفلان ممن تزيوا بزي رجال الدين، وارتدوا مسوحه، وهم في حقيقتهم من طلاب السلطة والجاه، فوجدوا في الدين ما يحقق طموحاتهم الرخيصة في الحياة، فتراه يدور على ألسنتهم دون النفاذ لقلوبهم:

لعق هالدين وعلى الألسن يدور   يحوط بيه أفلانها وفلتانهـــــــا

وحين عن در المعاش يصح قصور      تنفصل عنه ويقل ديانها

ويصف مثل هؤلاء المتلبسين بلباس الدين بسلفهم (أبن الراوندي) الذي جاء عنه في أمثالنا الشعبية(مثل أبن الراوندي يعلم عالصلاة وما يصلي)فهم يدعون الناس إلى الزهد والبر والتقوى ومجالدة النفس ألأمارة بالسوء، ولا يتورعون عن طمس الحقوق، وهدر الكرامات، وسرقة الأموال واستغلالها لأغراضهم الخاصة، وتوزيعها على أرحامهم ومن يلوذ بهم من المرتزقة، الذين يزينون لهم هذه الأعمال البعيدة عن الدين:

هالوكت صاير حچينه بهالمثل               حچي الراوندي يگول الشايفه

عالصلا يامر الناس وعالعمل                وهو يرائي وكل صلاته زايفه

مهزله بها المستوى يگول البصل            ريحتك يا ثوم نتنه وجايفه

لون ما متشبع بريح البخور                   چان يشتم ريحته وصنانها

هاي طلاب الصلاح بها لعصور             شبچ صياد الفرق ..... بالوانها

ثم يقارن بين هؤلاء الذين يدعون الإصلاح والسعي للجهاد، والدفاع عن المستضعفين، وواقعهم الحقيقي الذي يخفي في طياته الكثير مما يثير التساؤل، فهو لم يشاهد أحدهم قد شمر عن ساعده وارتدى لآمة الحرب للدفاع عن الوطن أو أبناءه، أو المشاركة في المعارك المصيرية، بل أن الكثيرين منهم يختبئون خلف واجهات بعيدة عن الروح الجهادية، ويبررون لأنفسهم التخاذل بحجج واهية لا تصمد أمام العقل والمنطق، وكذلك التجار الذين يستغلون الأزمات لجني الأموال الطائلة على حساب الفقراء والمساكين، وهم في ذات الوقت يتلبسون بلباس الدين، ويحصلون على الدعم والمساعدة من رجال الدين، الذين وجدوا في هؤلاء التجار بقرة حلوب توفر لهم الحياة الكريمة والعيش الرغيد:

يا هو شاهد مصلح بثوب الفتل       مستعد للحرب معلن للجهاد

ياهو شاهد تاجر ألما يستغل          سوق سوداء ويضم قوت المواد

ياهو شاهد حاكم الروحه نفور        أعله اليهود أو صابته بميدانها

الحمل من يثگل هله تمدله الظهور   وغير رجلك ما چوت نيرانها

ثم يعرج على القضية الفلسطينية، في أشارة إلى نكسة حزيران/1967 بمقاطع عديدة تطرق فيها إلى التشرذم العربي الإسلامي، أمام التحديات الغربية، ويشير في نهاية المقطع إلى الصاروخ العربي الذي حقق المعجزة بإغراق البارجة الإسرائيلية (أيلات) بعد أن كنا نحلم برمي اليهود في البحر:

چنه نعلن يجب بالأبحر تغور     حتى تصبح مأكل لحيتانهـــــــا

حقق المعجز الصاروخ الجسور   الدولة غرگت بارجه بأمچانها

 وفي المقطع التالي أشارة إلى أن غرق هذه البارجة قد أراح النفوس، وأعاد للأذهان الملاحم العربية مع الطغاة والمحتلين، ويتساءل هل إغراقها يغني عن سيناء، أو فتاة عربية هتك خدرها اليهود، ويجيب أن عار الهزيمة لا تمحوه بارجة أغرقت وأصبحت طعما للنيران:

ايه يا أيلات ريحتي النفس     من غرگتي أنعاد لينه الاعتبار

لاچن أرد أنشد يأيلات بهمس  عگب ذيچ الفاجعة وذاك الدمار

أنتي عن سيناء لو عن القدس   لو عوض عن الفتاة البل خمار

تروح ألف أيلات مثلچ بالبحور وبعد الف تحرگ النار أركانها

ما تساوي لا وحگ هتك الخدور  حرمه عربيه يهودي هانها

  ثم يدعوا الشعوب العربية، للثورة على أوضاعها الفاسدة، التي أدت إلى هذا الانهيار المريع، والتخاذل المخزي، في مقاطع يختتمها بقوله:

المشكلة تحتم على الوادم تثور    وتحفر الموشي بحدود أوطانها

لو تگوم تضحي وتصفي الأمور  لو تروح تنام يم نسوانهــــــــا

  وفي ختام ملحمته الخالدة، يناجي ذكرى الرسول الكريم، بما وصل إليه الإسلام من التشرذم والتمزق، وابتعاد عن الأ صول الإسلامية السليمة، وانصراف بعض دعاته عن مناهج الحق القويم، واستثمارهم له لمصالحهم الشخصية:

طاب عيشك يا محمــــــــد يا جريح       أگعد وشوف اليهيج آلامك

وين عدل الحاكم الحــــــق الصريح       اليلتزم بالقاصر من أيتامك

أوين حكم المرجع الديني الصحيح        اليعمل ويحكم على قرآنك

وين أقوال أبــــــو الحملات الجسور    لو أبيتن وبحسك سعدانها

البل يمامه النائية وذيچ الثغـور أتجوع وآنه من الأكل مبطانها

لقد أدت هذه الصرخة المدوية في سماء النجف، إلى إثارة الكثير من المشاكل للشاعر، ودفعت البعض لمحاربته بمختلف الأسلحة، بما فيها التشهير وقطع الأرزاق، ولكنه صمد أمام ذلك، وأعلنها ثورة ضارية ضد المتلبسين بأردية التقوى، وله الكثير من القصائد التي أثارت غضب السلطات الحاكمة آنذاك سيكون لنا عودة إليها في دراسات قادمة.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com