|
العراق يعني شاطئ الماء, أو البحر وسمي العراق عراقا لأنه على شاطئ دجلة. ويقال استعرقت الإبل إذا رعت قرب البحر وكل ما اتصل بالبحر من مرعى فهو عراق. وأهل الحجاز يسمون ما كان قريبا من البحر عراقا, وقيل سمي العراق عراقا لأنه استكفّ أرض العرب. وقيل سمي عراقا لتواشج عروق الشجر والنخيل, كأنه أراد عرقا ثم جمع على عراق. وأعرق القوم أي أتوا العراق. والعراق مأخوذة من عروق الشجر وهي بلاد منابت الشجر. والعوارق الأضراس. والأعراق: من عرق كل شيء أي أصله والجمع أعراق وعروق. ورجل معرق في الحسب والنسب. وأعرق الرجل أي صار عريقا أي كريما. وعروق كل شيء أطباب تشعَّب منه واحدها عرق, والعروق: عروق الشجر والواحد عرق, وأعرق الشجر وعرق وتعرق أي امتدت عروقه في الأرض. والعراق في معناه تشابك جذور الحياة وتفاعلها المتلاحم من أجل العطاء الأوفر, وهو التعبير الأصدق عن الخصب والنماء, فيه نهران يجريان للالتحام ببعضهما, ونخيل متكاثف ومتكاتف مع الشجر ومتفاعل مع جذوره لينسج ملحمة التوحد الحي تحت التراب وفوقه. وهكذا فأن ما فوق أرض العراق متشابك بقوة معبرة عن قوة تلاحم جذور العطاء وطاقة النماء. ولهذا فالعراق لجميع العراقيين ولا يمكنه أن يكون لأحد دون غيره, ولا يتفق مع حضارته وطبيعة نشأته التاريخية أن يكون أعراقا متفرقة وليس عراقا موحدا, لأن السعي نحو خلخلة النسيج العراقي المتلاحم كالسعي نحو تفريق جذور النخيل والشجر وبهذا يتحقق الموت والقحط والخراب. ويبدو أن العراق وفق المفهوم النفسي والفكري والحضاري, عبارة عن بودقة ذوبان الأعراق لصناعة سبيكة العراق.وما يجري في عالمنا المشوه, هو محاولة تذويب السبيكة وتحرير عناصرها من تفاعلات القوة والاقتدار ورميها في تفردها وضعفها وتبعيتها لمجهول. فالعراق سبيكة الأعراق, ولا يمكنه أن يتحول إلى فرق وأحزاب وطوائف وتجمعات تقاتل بعضها, لأن ذلك ليس من طبعه الحضاري وأخلاقه وقيمه التاريخية. العراق بلد الاختلاف المتفاعل الخلاق وبلد جهابذة الفكر الإسلامي وموطن الأئمة والقادة والشعراء وكل مناهج التفكير الإسلامي والعربي والعلمي, وعلى أرضه بزغت أنوار التنوع والتجدد والتطور والنماء لتكون رحمة للناس أجمعين. وعلى ترابه اخترعت الحروف وكتب البشر أول قصائده وحكاياته ومسرحياته ورواياته وعهوده ومواثيقه, ووضع دستوره الأرضي الذي لم يسبقه دستور, وشرح فيه ضوابط السلوك الإنساني المتحضر والذي يحقق السعادة الأرضية, ويساهم في رعاية الفضيلة ومناهضة الرذيلة. العراق الذي تماسكت فيه أعراق الوجود والحضارة لتصنع منه رمزا خلاقا وحيا لروعة الاختلاف والتنامي الإبداعي الأصيل, لا يمكن لأحد أن يقطعه من جذوره الحضارية ويمحو ألوانه ويصب الزيت على رأس فسيفساء وجوده الاجتماعي الجميل, بأزياء أبنائه المختلفة ووجوههم النضرة ولهجاتهم المتعددة ولغاتهم الرائعة المتنوعة, وأفكارهم ومذاهبهم ودياناتهم وأغنياتهم ورقصاتهم ودبكاتهم وكل معاني فلكلور الوجود العراقي المتصل بأعماق الوعي الإنساني المجيد. العراق كل حي فيه يستمد نبضه من قلبه الكبير الذي لا يحتمل أن ينقطع أو يبتعد عنه في أي حال من الأحوال. والأعراق تؤلف عراقا والعراق لا يمكنه أن يحيا بدون اختلاف ومن غير ألوان وتنوعات مثلما النخيل والأطيار والمياه التي لا يعجبها إلا التنوع والاختلاف الجميل. بلد العقول الإسلامية الأصيلة المعبرة عن فكرها والدولة العربية الإسلامية في أوجها وقمة عظمتها وسطوعها الحضاري والفكري وفي غاية قوتها وبنائها المعبر عن جواهر الأفكار التي جاء بها خاتم الأنبياء والمرسلين. ففي العراق كل الأفكار والرؤى والتصورات والإسلامية ومنذ أن انتشر نور الإسلام وراح يسعى ككرة الضوء المنيرة التي تزداد حجما وسطوعا مع الأيام. العراق تحول إلى ينبوع دافق لكل ما يتعلق بالدين من شؤون وشجون وكل ما يرتبط بالفكر الإنساني من توجهات وتطلعات ذات قيمة إبداعية صادقة. العراق أريج النسمات الروحية والخلجات النفسية وصدى الإيمان واليقين والبرهان والإمعان بأعماق الحق والإنسان. العراق المبني بأذرع آلاف السنين ومئات الأجيال التي حملت إرادتها وشيدت معالم عزتها في درب الوجود الأكبر العظيم. العراق المولود من رحم سومر وأكد وبابل وآشور. وكل الحضارات التي حاولت أن تضيف شيئا إلى مسيرة الارتقاء الأرضي كانت تحج إلى العراق ومنه تطل على الأرض. ولا توجد إمبراطورية أرضية تسيدت إلا وكان لها في العراق شأنا ووطرا من سومر إلى اليوم. فاسألوا كسرى والاسكندر المقدوني والدولة الإسلامية وآل عثمان ومن جاء بعدهم وستعرفون أن الذي يريد أن يمسك الأرض من عنقها عليه أن يتمكن من العراق, وتلك حقيقة الأحداث والتداعيات التي يصعب تفسيرها, لكن مسيرة التاريخ الأرضي تشير إلى أن العراق هو الموضع الذي يمكن أن تمسك الأرض منه وتدار وفقا لما تشاء القوة الماسكة به. وكان العرب في أول انطلاقتهم للسيطرة على الأرض قد أمسكوا بالعراق ومنه انطلقت أعظم الفتوحات وبسبب أهميته تم اتخاذ أرضه مسرحا للتفاعلات الحضارية التي انطلق بها العرب في دولة العباسيين فأنارت دروب الإنسانية بالإضافات الأصيلة المقدامة وفتحت أبواب العلوم والآداب فأنجبت جهابذة العقول البشرية ومؤسسي علومها الحية كالرياضيات والهندسة والفيزياء والفلك والكيمياء والطب وكل ما يخطر على بال من علم ورأي وتصور. عراق الأعراق والإنسان والتنوعات والعطاءات اللامحدودة, هو الذي يكون ويتألق ويتحقق أما أي اتجاه ضد دمج الأعراق, أو محاولة لتفريق العروق والجذور والأصول, فأنها قتل لأيكة العراق الوارفة التي يتظلل بوجودها كون المسيرة الإنسانية وتسقيها مياه النهرين دجلة والفرات في رحلة ما بين الأزل والأبد. وهذا الجواهري ينادي: "ناشدتكم بالواهبين نفوسهم نكران ذاتٍ منهم وسماح لا تتركوا الوطن الحبيب لفرقةٍ نهبا يُجاء بسرحه ويراح وتحضنوه وإن تفرّى دونه حِضنٌ, وإن يبست عليه الراح لُموا الصفوف عليه يتسع المدى بكم, وترحب بالصفوف الساح وتعاطفوا, إن الحياة وشائج ومن القلوب إلى القلوب لقاح ما مثله وطن تَلوّن أرضه حسنا كما تتلوّن الأقزاح"
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |