|
سجل التاريخ أسماء نساء خالدات وقفن مواقف تميزن بها، وذكرها التاريخ بكل وقار وتبجيل، وتنوعت هذه المواقف بين الثبات على المبادئ والصبر والشجاعة والبلاغة والنبوغ، وبين قوة الشخصية والجهاد في سبيل المباديء والحقوق، ولم يخل عصر من العصور من تلك النابغات والحكيمات والشاعرات والمشاركات في الثورات والمساهمات في امدادها والعمل في صفوفها، ولم تخل صفحات التاريخ من تلك النساء ورغم ان المؤرخين العرب كتبوا العديد من كتب السيرة وأخبار الرجال وتعرضوا ايضاً لأخبار النساء، كتاريخ اليعقوبي والطبري ومروج الذهب وأبن الأثير ومقاتل الطالبيين والأغاني وغيرها وخاضوا في الحوادث والأسماء، وتنوعوا في هذه الكتابات تبعاً لسطوة السلطان وأرادة الحاكم، وبين الكتابة بضمير مفتوح وتجرد تدعو اليه الكتابة التاريخية المجردة والمنصفة. غير أن المرارة احيانا تظهر في عدم انصاف تلك الأسماء التي لاتستحق الا المجد والخلود والأنحناء لتلك الأسماء التي سجلت المواقف المشرفة التي دونها التاريخ بصفحات مضيئة. ولم يغبن التاريخ رمزاً كبيراً وأسماً ساطعاً في التاريخ العربي والأسلامي مثلما غبن العقيلة زينب بنت علي بن ابي طالب عليها السلام، فقد ذكرها المؤرخون بأسطر قليلة أو بصفحات لاتفي بالغرض المطلوب ولاتتساوى مع قامتها المديدة وتأريخها المشرف، لولا ألتفاتة العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي رحمة الله عليه الذي خصها بكتيب يليق بسيرتها ومقامها واعقبه الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه (مع بطلة كربلاء)، وتأتي كتابة السيدة الجليلة بنت الشاطيء (الدكتورة عائشة عبد الرحمن) طيب الله ثراها سفراً خالداً يؤرخ حياة الأنسانة المناضلة والرمز الثوري النسوي الخالد العقيلة زينب في كتابها القيم (بطلة كربلاء) الذي يعد من اجمل المراجع التاريخية وأكثرها ثراء ووصفاً لحياة العقيلة، غير اننا لاننس الألتفاتات الجميلة لجزء من سيرة تلك المرأة التي أوردها جرجي زيدان وعلي احمد الشلبي والسيد علي الهاشمي والسيد محمد بحر العلوم وأخيراً ماتضمنه كتاب السيد خالد محمد خالد من فصل صغير خصصه في كتابه للعقيلة زينب، مع اننا لم نزل نطمح لكتاب تاريخي يؤرخ بحق حياة هذه الأنسانة التي نذرت نفسها لحياة الكفاح والمواجهة والجهاد والتضحية. لذا فأن المكتبة العربية اليوم بحاجة الى كتاب يتضمن سنوات شبابها وبروز دورها الثقافي والأنساني والريادي في الفقه والحديث والتاريخ والشريعة الأسلامية، ثم بعد ذلك تفصيل لكل الأحداث التي كانت طرفا فيها، بالأضافة الى حقيقة مرقدها الشريف المختلف عليه بين البقيع والشام ومصر. لقبت بالعقيلة، وكانت بحق عقيلة بني هاشم، وعقيلة الطالبيين ـ والعقيلة كما تذكر قواميس اللغة المرأة الكريمة بين قومها، والعزيزة المكرمة في بيتها، وزينب بنت علي ابن ابي طالب بالأضافة لكل ما ذكر فهي الواثقة من شخصيتها، والعارفة بين اهلها وقومها، والعالمة الجليلة المتعلمة على يد ابيها وجدها، والفاضلة الكاملة التي تعبر بحق عن خلق البيت العلوي، والزاهدة المتعبدة التي برهنت على ذلك الأيمان في احلك لحظات عمرها، وغير ذلك من الصفات الأنسانية التي ميزتها عن غيرها من نساء جيلها. وزينب أول بنت ولدت لفاطمة وعلي (عليهما السلام)، وكانت ولادة هذه الأنسانة الطاهرة في الخامس من شهر جمادى الأولى في السنة الخامسة للهجرة. هي ثالثة أحفاد الرسول من ابنته فاطمة الزهراء ومن الأمام علي بن ابي طالب والتي اسماها الرسول بنفسه (زينب)، كانت لصيقة ابيها وبعد ان فقدت امها وجدها في عام واحد تحملت مسؤولية البيت، فصارت اماً واختاً لتلك العائلة، وتقمصت دور فاطمة الزهراء أمها، وكانت متابعة أمينة لما تتطلبه منها الحياة من موجبات المعرفة والدين فكانت مرجعاً وملاذاً ليس لأقرانها انما حتى لمن كان أكبر منها سناً. تزوجها أبن عمها عبد الله بن جعفر بن ابي طالب وكان مشهوراً بالسخاء والشجاعة، وبعد زواجها من أبن عمها وهو أبن جعفر الطيار المشهور بذي الجناحين أزدادت تألقاً وعلماً، فكانت تحفظ الكتاب المجيد وتقوم بشرحه وتبسيطه، وعلى دراية تامة بأحاديث الرسول وسيرته وبسيرة أبيها علي بن ابي طالب. مرت على زينب الإنسانة العديد من الأحداث التي تؤثر في النفس وتهزها من وفاة جدها وأمها وموقعة الجمل وصفين ومقتل ابيها غدرا وأغتصاب حق اخيها الحسن في الخلافة الى مقتل الصحابة والأهل والأحبة، وحضورها تلك المواقع والمعارك الحاسمة. كانت تراقب الفتنة وحال الأمة بنظرات مليئة بالحكمة الثاقبة ومعرفة ما سيؤول اليه الحال، وكانت كثيراً ماتحدثت عن الخراب الذي سيحل وعن الفتنة التي ستحل بين الأمة، وعن الفئة الباغية التي ستنتصر. ومن أقوالها : من أراد أن يكون الخلق شفعاءه الى الخالق فليحمده، الم تسمع قوله سمع الله لمن حمده، فخف الله لقدرته عليك، وأستح منه لقربه منك. وبالرغم من موقف زوجها عبد الله بن جعفر وأرساله كتاباً الى الأمام الحسين بن علي مع ولديه عون ومحمد يطلب منه العدول عن الذهاب الى العراق، الا أن الأمام بقي مصراً على الخروج الى العراق لمواجهة الخليفة الباغي يزيد، حيث لايمكن أن يقر الإمام الحسين ليزيد بن معاوية أقرارا وأعترافا أنه صار أميراً للمسلمين. وعزمت العقيلة الخروج معه فهي أمينة سره، وسار معها ومع ركب الشهيد الحسين أولادها وهم يعلمون المصير والنتائج، لكنهم لم يبالوا بها من اجل أن تبقى كلمة الحق عالية وشامخة. لقد بر محمد وعون بخالهما حين بذلا روحيهما فداء له في معركته العادلة وأمام مرأى ومسمع أمهما التي كانت تزيدهما ثباتاً وتماسكا.، وكانت تحثهما على مواصلة الجهاد في سبيل الحق. ولن نتحدث بأسهاب عن واقعة كربلاء فقد تعرض لها الكتاب الأجلاء وأشبعوها تصويراً وتحليلاً، الأمر الذي ينبغي أن يتم الالتفات اليه جانب من أحداث تلك المعركة، المتمثل في القيادة النسوية وخصوصا ذلك الجانب المسكوت عنه في قافلة الحسين، حيث انيط بالعقيلة زينب مسؤولية ذلك الأمتداد التاريخي الثوري الذي زرعها في روحها أبيها الثائر والزاهد والفقيه علي بن ابي طالب (ع)، فكانت المرشد والمعلم والمرجع ومن يهدىء روع الخائفين وفزع الفازعين ووجل الأطفال وهلع النسوة، فكانت تكتم وجعها وأملها في أهلها ورمزها شقيقها القدوة الأمام الحسين.، وكانت تجسد الثبات والصبر في تلك اللحظات الحاسمة، متيقنة من ثباتها على الحق والإصرار على الانتصار للمبادئ مهما كلف الأمر. وبعد ان انتهت واقعة كربلاء بعد الزوال في العاشر من محرم تنكبت العقيلة مسؤولية البيت العلوي وحملت الراية وهي تنظر للأشلاء الممزقة والرؤوس المقطوعة والجثث المبعثرة، ولم تقل سوى ((ليت السماء أنطبقت على الأرض)). وبدأت معركتها الجهادية التي سجلت بها موقفها النموذجي في الشجاعة والثبات والجرأة والتمسك بالمباديء، فقد جمعت كل هذه الخصال في كلمة وسط تجمع الرجال الأعداء، وشعرت أنها كالعملاق حين يخاطب الأقزام، وشعرت أنها تصعد الى الأعالي وامامها سلطان يتهاوى الى الدرك والحضيض، لذا تركت عاطفتها وأمومتها، وتقلدت ما تعلمته من مباديء لتبدو ان روحها غير منهزمة وأن بدت منهكة ومتعبة من سفرها وبدت غير ذليلة فهي مع الحق وسلطانها يقف في دائرة الباطل. وحين يستفزها ابن زياد بقوله لها : (أن الله فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم، قالت له : ((الحمد لله الذي اكرمنا بنبيه محمد (ص(((. وفي دار الطاغية في مقر الأمارة تحدت السلطان ووقفت وقفتها الشهيرة التي اهتزت لها اركان السلطان وتنبأت العقيلة في خطبتها بنهاية للطاغية وبعذاب كبير للظالم الفاجر،أذ قالت في حضرة السلطان : ((أظننت يا يزيد ـ حيث أخذت علينا أقطار الارض وآفاق السماء، فاصبحنا نساق كما تساق الأسراء ـ ان بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة، وان ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، تضرب أصدريك فرحاً، وتنفض مذوريك مرحاً، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: (ولا تسحبن الذين كفروا انما نملي لهم خير لأنفسهم، انما نملي لهم ليزدادوا اثماً ولهم عذاب مهين). أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنأن، والاحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم: لأهلوا واستهلوا فرحاً ثم قالوا يا يزيد لا تشل منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك وكيف لا تقول ذلك، وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأقة، بإراقتك دماء ذرية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ونجوم الأرض من آل عبد المطلب وتهتف بأشياخك زعمت انك تناديهم فلتردن وشيكاً موردهم ولتودن انك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت. اللهم خذ لنا بحقنا، وانتقم ممن ظلمنا، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا، وقتل حماتنا. فوالله ما فريت الا جلدك، ولا حززت الا لحمك، ولتردن على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما تحملت من سفك دماء ذريته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلم شعثهم، يأخذ بحقهم (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون). وحسبك بالله حاكماً، وبمحمد صلى الله عليه وآله خصيماً، وبجبرائيل ظهيراً، وسيعلم من سول لك ومكنك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بدلاً وأيكم شر مكاناً، واضعف جنداً. ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك، اني لاستصغر قدرك واستعظم تقريعك، واستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرى. الا فالعجب كل العجب، لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفرها أمهات الفراعل ولئن اتخذتنا مغنما، لنجدنا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد الا ما قدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد، والى الله المشتكى وعليه المعول. فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك الا فند وايامك الا عدد، وجمعك الا بدد، يوم ينادي المنادي الا لعنة الله على الظالمين. والحمد لله رب العالمين، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله ان يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا) وأشعلت من وسط دار الأمارة في دمشق شرارة الثورة التي قادتها أمرأة سجل لها التاريخ العربي والأسلامي بأعتزاز وفخر كبيرين مواقف وثبات جديرين بالدراسة والتقليب. أن السنوات التي قضتها العقيلة بعد استشهاد اخيها الحسين (يختلف المؤرخين وكتاب التاريخ في المدة) فقد كانت قائدة الثورة والمحرض الأساس للأنتفاضة على الدولة الأموية، تهز اركانها وتقوض دعاماتها الواهنة، وهي مستمرة في أداء رسالتها الجهادية وانتقلت الثورة التحريضية تتحول بعدها الى شرارات اشعلت مضاجع الطغيان الأموي. وبقيت زينب ذلك الرمز النسوي الجهادي نورساً تفتخر به الأمة الأسلامية والأنسانية جمعاء، ونورسا في دروب الظلمة ومشعلاً يهتدي به الثوار والمناضلين من أجل العقيدة والمباديء. وبقيت زينب بنت علي أمينة ووفية على مباديء ابيها وشقيقها التي آمنت بها بحق لكونها كانت تمثل الصلاح والخير للناس وتدعو الى المساواة وكرامة الأنسان، ولكونها كانت في جانب أنصاف الفقراء والمعوزين والمظلومين، تلك المباديء التي حرص عليعها علي بن ابي طالب (ع)، وعلمها لبيته ومحبيه وسعى الى انتشارها كقيم انسانية واسعة، فقد بقيت تلك الشرارة متوهجة يتذكرها التاريخ والناس بتقدير وتبجيل وأحترام كرمز من رموز العطاء الأنساني ونموذج لمواقف المرأة في الثورات والأنتفاضات والحركات السياسية على مر العصور.، وكذلك في الثبات على المباديء والأصرار على الوقوف مع الحق.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |