آهٍ من العراق...وحكامه...!

 

 

مصطفى المهاجر

برزبن – استراليا

wagdinjaber@hotmail.com 

 واحداً...واحداً يرحلون، بهدوء تام وسكينة مطلقة، والكثير الكثير من الألم الذي صبته الحياة على أرواحهم...حتى جعلتها ترى في الموت راحة كبرى لها، على تلك الحياة الكدرة الملعونة...!

حينما مات أبوه مبكرا..كان قد أنهى للتو دراسته الثانوية..حالماً بالجامعة وآفاقها، وبالمستقبل المتعدد الألوان الذي ينتظره في منعطفات الحياة المقبلة...ولكن تلك الوفاة المفاجئة أربكت مخططاته، فمن سيعيل أحد عشر أخا وأختا جميعهم أصغر منه في سلم الدراسة الثانوية ...حتى صغيرتهم في المهد لم تتجاوز الأشهر الست من عمرها...وأما ترملت في أواسط العمر...!

لم يكن أمامه إلا أن يغلق باب أحلامه على المستقبل، ويشمر عن ساعديّ جده واجتهاده، ويلج ميدان الكفاح، والكدح والمعاناة لتوفير لقمة كريمة لكل تلك الأفواه التي خلفها له المرحوم، ومحاولة الاحتفاظ بهم تحت سقف آمن يصمد تحت وقع ضربات مطارق الحاجة والعوز، ويعينهم على الصعود في مدارج الدراسة، والحياة الآمنة الكريمة...

وهكذا فعل وبجدارة يُحسد عليها ..ألقى على نفسه غطاء النسيان.. ولم يعد يتذكر إلا مهمته التي نذر لها ذات فجيعة ماحقة لأحلامه...! مواصلا الليل بالنهار..عملاً وجهداً ..واهتماماً..ورعاية وحنواً أبوياً الله في قلبه...ليعينه على تجاوز أشواك العيش وصخوره...ماداً لصبره وبصيرة آماله إلى دروب مستقبل إخوانه وأخواته...واضعا جسده على خنادق طرقاتهم ليعبروا عليه إلى حيث أمتدت أنظار أشواقهم في الدراسة والحياة...

غمر نفسه في بئر الإهمال، وحاجاته الخاصة وضعها في صندوق أقفله بأقفال الحسرة والحرمان...ثم ألقاه مع مفاتحيه في قعر دجلة ذات فيضان وجداني غامر بنشوة التضحية والفداء..!! لم يفكر بالزواج..بتكوين أسرة...وانجاب أولاد...!! أو لعله فكر بذلك...ثم تذكر أسرته الكبيرة وأولاده الذين لم ينجبهم فكف أجنحة تفكيره عن التحليق في تلك العوالم الساحرة...!!

بدأت البراعم تخضر..وطلع الزهور يؤرج حياته...بدأت عيناه تبتسم وحياته تتلون بنجاحات اخوانه واخواته... لم يقل لنفسه هذا يكفي فقد أنجزت نصف المهمة .. ولم يقل له الآخرون يكفيك ذلك نحن سنواصل النصف الآخر..ظلّ على عهده مع نفسه..

ليس في العراق مرافىء للفرح.. ولا للأمان...فذات طغيان كاسح ولا إنساني...هبت عواصف حقد البعث الصدامي على العراق... واهله..فوجد صاحبنا نفسه والبقية الباقية من صغاره (وحتى أن كبروا قليلا) مشتتين بين سجون الطغيان..وما وراء الحدود.. لم يسأل أحدٌ في هذا العالم الداعر الرذيل ... لماذا؟! وكيف..؟! وبأي حق أو قانون..!

عشرون عاما في المنفى..كفاحا..وقلقا.. وترقبا .. وأنتظاراً...!

وعشرون عاما لإخوانه الثلاث الذين كانوا يافعين في طوامير فارس العروبة والإسلام..ظلاما وظلما ..وقهرا وعذابا وقلقا وانتظارا أيضاً..!

وحين سقط صنم الطاغية من الشوارع ولم يسقط من بعض العقول والنفوس...! عاد صاحبنا راكضا إلى عراقه القديم..حاملا آمال عشرين عاما من الإنتظار والقلق القاتلين... بعد أن دفن أمه في غربتها...باكية فقدان أحبتها، عاد باحثا عن إخوانه..طامعا في معانقتهم  رجالا بعد ان خلفهم صبيانا خلف قضبان الحقد البعثي والضغينة الصدامية..!

حين قرأ اسماءهم في قوائم الشهداء ...أسماء فقط ليس لهم قبور..لا جثامين ولا حتى بقية رفات..خر مغشيا عليه بجلطة دماغية...ليفيق كسيحا لا يقوى على الحركة..!! ولم يجد من حكامي وطنه الجديد أي لفتة وفاء أو رعاية أو اهتمام.. أخا وأبا لثلاث شهداء في وطن صعد حكامه الجدد على أشلاء وأسماء أولئك الشهداء!! لم يكن يملك بيتا.. ولا عملا .. ولا مصدر رزق وقد أفنى عمره وشبابه في المنفى البغيض، ولم يجد رعاية صحية .. فعاش معقدا في غرفة تسكنها أخته الأرملة التي ذهب زوجها أيضا شهيدا بحكم إعدام جائر في زمن الموت المجاني الذي خلناه جميعا قد انتهى إلى غير رجعة..!

هجمت عليه الأمراض ..وتناوله السكري – قاتله الله – تقطيعا فمن بتر أصابعه..إلى بتر ساقه..إلى تقرح جسمه..حتى أغمض عينيه الإغماضة الأخيرة في الثامن من محرم الحرام مواسيا قتلى الطفوف..مقطع الأعضاء مثلهم..في ميتة كربلائية بامتياز..بعد حياة كفاحية بائسة وعقيمة بامتياز..!!

 فرحت لخلاصه من تلك الحياة...قدر حزني عليه...ولو كنت معه ساعة وفاته لأوصيته أن لا يتردد في رفع شكواه إلى الله ليس على طغيان البعث وصدام فقط..ولكن على خلفائه أيضا..أولئك الذين لم يخشوا الله في رعاية عوائل شهدائهم..وضحايا الجلاد الذي ورثوا عرشه دون شكر الله برعاية من أوصلتهم دمائهم وأشلاؤهم إلى مراقي عروشهم الجديدة..!

وآه من العراق وحكامه الجفاة القساة..ولا عزاء للشهداء ومتعلقيهم إلا برحمةِ اللهِ وانتقامه..!!

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com