|
قبل أيام كنت في زيارة لمقر الحزب الشيوعي العراقي في بابل، فجلست في الصالة الكبيرة المعدة لاستقبال الضيوف وقد امتلأت برفاق الحزب وأصدقائه ومؤازريه، وقد ازدانت جدرانها بصور الخالدين من أبناء بابل الباسلة، وقد تراصت الصور لرفيقات ماجدات وشيوخ وكهول وشباب بعمر الورود، غيبهم النظام الدكتاتوري المنهار، وأعدمهم لا لشيء إلا لأنهم يناضلون لإسعاد شعبهم وتحرير وطنهم من الزمر الضالة التي هيمنت على مقدراته لسنين عجاف ذاق الشعب منهم الأمرين. كنت أتصفح الصور التي طالما تصفحتها لأعوام، فأجد الأكاديمي إلى جانب العامل والفلاح يجاوره المتعلم، والمرأة الشابة إلى جانب العجوز، والشاب إلى جوار الكهل الكبير، وأعينهم ترنوا إلى القادمين بنظرة ود وحب، ينظرون إليهم بشغف وكأنهم يستقبلون الوافدين لمقر حزبهم العتيد، وأستذكر الماضي التليد بكل ما يحمل في طياته من ساعات عصيبة وأوقات جميلة وأيام النضال البطولي لهؤلاء الذين كانوا ملأ العين والبصر وقد ملئوا الدنيا وشغلوا الناس، عندما كانوا واضعين أرواحهم على أكفهم لاستقبال الموت الذي هو دائما نهاية للمناضلين الراسخين، والأشداء الميامين الذين أنفوا الذل وارتضوا الأعالي مكان، واستذكرت ما لهم من ذكريات جميلة لا تزال طرية في أذهان من عاشرهم وعمل معهم، وأخذ شريط الذكريات الحبيبة يمر من أمام ناظري يحمل أطياف الماضي وتذكاراته المحببة للقلوب، مستعرضا أيام المد الثوري عندما كان الشيوعيون يهيمنون على الشارع العراقي، ويرسمون لأبناء شعبهم الأماني العذاب في الحياة الحرة الكريمة، وما كان من غربان الحرس القومي بعد انقلاب البعث الأسود عام 1963 عندما امتلأت السجون والمدارس والملاعب بالوطنيين الشرفاء ومواقف هؤلاء البطولية لهؤلاء في التصدي للانقلاب المشئوم والملاحم البطولية والصمود الأسطوري أما أبشع أنواع التعذيب التي مارسها زبانية البعث وطغام العهد ألعارفي البغيض، والسنين العجاف في ظل حكمهم الأخرق، وبدايات البعث عام 1968 وأيام جبهته الدامية، وما عانى الشعب من سياسته الخرقاء، وما حدث بعدها من انفلات وهجرة جماعية وإعدامات بالجملة، حيث أختار الخيرة الخيّرة من المناضلين وأودعهم أقبيته القذرة وزنزاناته البشعة، ليقوم بتصفيتهم بمختلف الطرق الهمجية، وأبقى على الخانعين الأذلاء من أمثالي الذين ارتضوا لأنفسهم الذلة والمسكنة، واحنوا رؤوسهم أمام العاصفة، وقالوا نعم لجلاديهم، وداهنوا أعدائهم وقاتليهم، بل أنحدر بعضهم إلى مهاوي التعاون وأصبح(سكين في الخاصرة) للكثير من أخوانه ورفاقه، وصار عينا عليهم يفشي أسرارهم ويكشف أخبارهم، واستذكرت قول الشاعر: وكم أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي وفيما أنا غارق في تأملاتي واستعادة ذكرياتي، تناهى إلى مسمعي صوت أجش، اختلطت فيه الحسرة بالدمعة والأنة باللوعة، فالتفت حيث مصدر الصوت، فشاهدت شيخا هماْ وقف قبالة إحدى الصور وهو يردد بقلب مفجوع بيت من الأبوذية الشجية الحزينة: عليك أنصب مئاتم حزن ما عن (لا أهدأ) أعتقد بجفاك جوز جلاي ماعن (ذابن) أصل كبرك وأصيح بصوت ماعن (معن أسم الشهيد) تعال وشوف تالي المسرحية نهضت له والرفيق أبو مروان مؤاسيا مشاركا له في نجواه وأحزانه وطلبنا منه الجلوس ليسترد أنفاسه، ويعود له هدوءه المعهود، ويبدو أن الرفيق أبو مروان كان على معرفته به، فأخذ يكلمه طالبا منه الصبر، وقدمه لي على أنه الأخ رحيم عبود والد الشهيد (معن) الذي أعدمه النظام البائد أثر الهجمة الشرسة التي طالت مناضلي حزبنا الشيوعي العراقي، وروى لي عن مآثر الشهيد وأعماله الخالدة عندما كان جذوة من النشاط والفاعلية في العمل الحزبي والطلابي، وما له من مواقف لا تزال حديث من عرفه لما عرف عنه من أقدام وجرأة وجهادية عالية، وقدرة على المواجهة حيث كان يكيل الصاع صاعين لمن يحاول التطاول على الحزب من البعثيين الجبناء، وقد طلبت من والد الشهيد تزويدي بما لديه من معلومات عن الشهيد، فوعدني خير، ويبدوا أن مشاغل الحياة أنسته ما وعدني، لذلك أوجه نداء إلى قادة الحزب الشيوعي ورفاقه ومؤازريه الالتفات إلى جانب مهم، وهو العلاقة الحميمة التي تربط بين الشيوعيين التي قد تزيد على مراتب الإخوة والصداقة والعلاقات العابرة، استذكار هؤلاء الشهداء وتشكيل لجنة(حقيقية) للبحث والتحري وجمع المعلومات عن شهداء الحزب الشيوعي العراقي، وإصدار كتاب يعنى بتأريخهم وتسجيل مآثرهم البطولية، ومراحل نضالهم تزينه الصور والوثائق عن استشهادهم وتخليدهم في السفر النضالي الخالد للشيوعيين العراقيين، لأن اللجنة المشكلة لهذا الغرض لم تكن بمستوى المسؤولية والجهادية العالية التي تدفعها لتوثيق هذا الجانب المهم في سفر الحزب الشيوعي، حزب المناضلين والشهداء والمضحين، الذين روت دمائهم أرض العراق الطاهرة، وروت نخيله وأشجاره، وصبغت أديمه فاستحال إلى شفق يظهر في سماء العراق كل يوم، وعلينا الوفاء لهؤلاء الذين ضحوا بأرواحهم من أجل حزبهم وشعبهم ووطنهم وحادوا بأعز ما يملكون: يجود بالنفس أن ضن الجواد بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود وعسى أن نرى في الأيام القادمة سعيا حثيثا للوفاء بهذا الجانب، والاهتمام الجدي بتوثيق مآثر الخالدين من أبناء شعبنا العظيم، والسعي لأنصافهم من قاتليهم واستحصال حقوقهم أسوة بالآخرين، رغم أن هؤلاء اختاروا طريقهم بمحض أرادتهم دون أن يفكروا بغنم أو مكسب، أو غنم وفائدة، ولكن تكريمهم واستذكارهم هو جزء من وفاء وفرض لازب على رفاقهم الذين لا زالت رؤوسهم مرفوعة بما قدم هؤلاء من صور رائعة للصمود والتصدي ونكران الذات، وعسى أن يكون يوم الشهيد الشيوعي الذي سيأتي بعد أيام خير مناسبة لأنصاف هؤلاء، ومواساة عوائلهم بما يشعرهم أن أبنائهم لا زالوا نصب اهتمام قيادة حزبهم ورفاقهم الذين نهلوا من ذات النبع الصافي الذي شرب منه هؤلاء.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |