طرح السيد ساترفيلد المسؤول الرئيسي عن الملف العراقي في وزارة الخارجية الأمريكية جملة من الأراء والتصورات عن الوضع العراقي الراهن عبر صحيفة الشرق الأوسط, داعيا الى إستمرار الحكومة العراقية الحالية ومفضلا عدم تغييرها في الوقت الراهن. ويعكس هذا الطرح رؤية لتيار عريض في الإدارة الأمريكية يدعو إلى بقاء الوضع في بغداد على ماهو عليه حتى نهاية هذا العام.

وقبل الخوض في مناقشة هذا الطرح لابد من الأشارة إلى أن الدافع الأساسي وراء مثل هذه الطروحات هو حالة الحرج الشديد التي تمر بها الأدارة الأمريكية الحالية وهي على أبواب الأنتخابات الرئاسية والتي حمي وطيسها منذ الأن, وخاصة بعد خسارة الجمهوريين لأنتخابات الكنغرس الذي يهيمن عليه اليوم غرمائهم الديمقراطيون ,الذين ترنو أعينهم نحو المكتب البيضاوي الذي يطمعون بالجلوس عليه خلال الأربع ولربما الثمان سنين القادمة.

ولذا فإن الشغل الشاغل للأدارة المريكية اليوم هو سحب البساط من تحت ارجل الديمقرطيين وعدم السماح لهم بإستغلال الوضع العراقي الراهن من أجل تحقيق مكاسب إنتخابية, ولقد نجحت الأدارة الأمريكية في هذا الطريق وذلك من خلال نجاح سياستها في العراق والتي أثمرت عن تغيير موازين القوى في المعركة مع القاعدة والتي منيت بهزيمة كبيرة في الأونة الأخيرة. ويبدو ان هذا النجاح الذي تحقق على الصعيد العسكري قد شجع الأدارة الأمريكية على المضي قدما في تحقيق نجاحات على الصعيد السياسي الذي تعثر كثيرا ومنذ تشكيل حكومة المالكي.

 ويبدو بأن صناع القرار في الأدارة الأمريكية وعلى رأسهم ساترفيلد قد عزموا على تحقيق تقدم على الصعيد السياسي في العراق يمكن إستثماره لتحقيق مكاسب في الأنتخابات الرئاسية القادمة. وتبدو ملامح التحرك الأمريكي الجديد واضحة للعيان وهي ترتكز على مبدأ إستيعاب القوى السياسية العراقية بمختلف توجهاتها وإنتمائاتها السياسية والطائفية والعراقية , وبالشكل الذي يمكن الأدارة الأمريكية من الأمساك بجميع خيوط اللعبة في العراق.

ولقد كانت أولى ثمرات هذه السياسة هو سقوط رئيس الوزراء نوري المالكي بشكل كامل في أحضان السياسة الأمريكية وخضوعه المطلق لكامل توجهاتها وبهذا الشكل السريع الذي لم يكن يتوقعه الأمريكيون انفسهم. فرئيس الوزراء العراقي كان يعتبر واحدا من أشد المعارضين للحرب الأمريكية في العراق وقد قاد الجناح المتشدد داخل حزب الدعوة الذي كان يدعى إسلاميا, ليقاطع جميع مؤتمرات المعارضة التي عقدتها الأدارة الأمريكية قبيل سقوط نظام صدام .

وبعد السقوط أطلق المالكي دعوته الشهيرة لأجهاض المشروع الأمريكي في العراق وقبل إنتقاله ألى أرجاء أخرى من منطقة الشرق الأوسط.

 إلا إنه تحول وبسرعة البرق ألى اكبر عراب للمشروع الأمريكي في المنطقة,بل إنه أصبح حجر الزاوية في السياسة الأمريكية اليوم لا لشيء سوى التشبث بالسلطة وعدم السماح للأخرين بمنافسته وجناحه الحزبي عليها ولو إقتضى الأمر التخلي عن جميع الثوابت الفكرية والسياسية التي ناضل حزب الدعوة وقدم عشرات الالاف من انصاره ضحايا  في سبيلها . إلا أن دنيا هارون الرشيد التي حذر مؤسس حزب الدعوة مريديه منها قد تمكنت من إيقاعهم في حبائلها وبشكل سريع جدا لم يكن يتوقعه احد.

 فلقد تحولت الدولة العراقية الى غنيمة يتقاسمها المالكي وجناحه الحزبي وحلفائه تاركين العراق يأن تحت وطأة الإرهاب ووطأة الخدمات المتردية والوضع الأقتصادي المتهريء فيما تفكر الحكومة ونواب البرلمان في كيفية زيادة مرتباتهم وإمتيازاتهم التي لم يكونوا يحلموا يوما بالحصول عليها لعدم كفائة وأهلية الكثير منهم لذلك .

 لقد شجع هذا السقوط السريع للمالكي وجناحه الحزبي في أحضان الأدارة الأمريكية هذه الإدارة على السعي لأستيعاب جميع القوى السياسية العراقية وتحويلها إلى أداة طيعة بيدها .ولذا فقد أعطت هذه الأدارة الأشارة للقوى السياسية العراقية بضرورة دعم المالكي وحكومته ,ولم تجد هذه القوى بدا من الألتزام بالموقف الأمريكي هذا لا عن قناعة ولكن خوفا من دخول علاقة هذه القوى بالأدارة الأمريكية في نفق مظلم ستكون نتائجه كارثية على العراق والمنطقة.

 فالقوى الوطنية العراقية وحتى الأدارة الأمريكية لديها قناعة كاملة بأن الحكومة العراقية الحالية ورئيسها قد فشلوا فشلا ذريعا في تحقيق أي تقدم في العراق وعلى مختلف الأصعدة. فالسياسة الأمنية لهذه الحكومة كادت ان تؤدي بالعراق الى الهاوية خاصة وبعد ان عارض المالكي تشكيل مجالس الصحوة والتي يعود لها الفضل الكبير في دحر تنظيم القاعدة وتقهقره. واما على صعيد تحقيق مصالحة وطنية حقيقية فلقد فشل رئيس الوزراء العراق فشلا ذريعا في هذا الطريق وفضل بقاءجناحه الحزبي ممسكا بالوزارات الشاغرة بدلا من إبداء مرونة مع القوى المنسحبة والسعي لأعادة هذا القوى المنسحبة الى احضان الحكومة والذي كان سيؤدي وبلا شك الى تحقيق إنفراج كبير على الصعيد السياسي وعلى جميع الأصعدة الأخرى, غير ان روح التسلط والتشبث بالسلطة قد سيطرت على عقلية الحزب الحاكم ومنعته من تحقيق أي تقدم في هذا المجال.

 واما على صعيد علاقات العراق مع محيطه الأقليمي والعربي بالخصوص فلم ينجح المالكي في فك طوق الحصار, وذلك بتطمين الدول العربية المجاورة للعراق وتبديد مخاوفها وتبديل رؤيتها للوضع العراقي لمرحلة ما بعد السقوط, بل أنه لم يسعى في هذا الطريق ولم يخطو أي خطوة في هذا الأتجاه وأضحى العراق معزولا عن محيطه العربي الذي هو إمتداد له.

 واما على الصعيد الدولي فلم تتمكن الحكومة الحالية من مد جسور التعاون مع المجتمع الدولي ولم تتمكن ولحد هذه اللحظة من جذب رؤوس الأموال الأجنبية فضلا عن الشركات الأجنبية التي تعتبر حاجة العراق ماسة لها لأعادة إعماره , ويعود سبب كل ذلك الى تلكؤ الحكومة في تفعيل قانون الأستثمار الذي سيسحب البساط من تحت أرجل المفسدين في العراق وهم كثر في الحكومة الحالية.

 ومع كل ذلك تدعو الأدارة الأمريكية الى دعم المالكي وحكومته وفي ذلك ترتكب الأدارة الأمركية خطأ تأريخيا كبيرا ستكون له إنعكاسات كارثية على العراق وعلى الأدارة الأمريكية نفسها. فجهابذة السياسة المريكية يرون بأن الوضع العراقي الراهن ينبغي عدم المساس به في الوقت الراهن ولحين إنتهاء الأنتخابات الرئاسية خوفا من تخلخله وبالتالي تحوله الى ورقة بيد الديمقراطيين ربما ستكون الورقة الرابحة التي ستوصلهم الى البيت البيض.

 ولذا فهم يسعون لدعم الحكومة الحالية ولأستيعاب معظم القوى السياسية وحملها على دعم الحكومة الحالية. إلا أن الخطأ الكبير في هذه السياسة يتمثل  في تطويع معظم القوى السياسية العراقية وتحويلها الى اداة طيعة بيد الأدارة المريكية وفي ذلك مخاطر كبيرة وأولها هو إنقلاب الشارع العراقي على القوى السياسية الحاكمة والتخندق في خندق العداء للولايات المتحدة الأمريكية وبالتالي تحول الشارع العراقي الى فريسة تقع بيد كل القوى المتطرفة ومن مختلف الأتجاهات وحينها سيدخل العراق في نفق مظلم يصعب على الأدارة الأمريكية السيطرة عليه وحينها ستتكبد هذه الأدارة خسائر فادحة وستكون خسارة الأنتخابات الرئاسية الأمريكية اهونها, فيما سيكون تحول العراق الى مستنقع للقوات الأمريكية هو احد الأحتمالات المرجحة خاصة وأن هناك قوى إقليمية تسعى لحصول ذلك.

 ولذا فأن الأدارة الأمريكية مدعوة لتغيير سياستها في العراق وإيقاف مسلسل أخطائها وذلك بعدم المراهنة على طرف دون اخر وعدم إجبار القوى السياسية  العراقيةعلى دعم حكومة ضعيفة وفاشلة ورئيس وزراء فاشل, وذلك بترك القوى السياسية العراقية تتفق فيما بينها وتتوصل الى حل للمأزق السياسي الذي يمر به العراق اليوم فإن في ذلك خير للعراق وللأدارة الأمريكية ذاتها.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com