قد لا أدلي بجديد في تبيان الأسباب وراء الانهيار المريع للمعسكر الاشتراكي وطليعته الاتحاد السوفيتي والتحولات الدراماتيكية في الحركة الشيوعية العالمية، ومحاولات البعض عزوا هذا الانهيار لطبيعة الفلسفة الماركسية ناسين أو متناسين أن هذه النظرية لم تفقد بريقها بعد ولا زالت صالحة للارتقاء بالعالم إلى أعلا المستويات في العدالة والمساواة وبناء المجتمع بناءا سليما لا يمكن لنظرية أخرى أن توصله لمستواه، ولا ينكر إنسان أن هذا الانهيار والانتكاس في الحركة الشيوعية أدى إلى اختلال التوازنات الدولية، وهيمنة القطب الواحد التي بدأت تظهر تجلياتها الآن في ظل التداعيات الخطيرة التي أخذت بالبروز والتنامي لانعدام القوى الأخرى التي تدعي القدرة والتفوق والإمكانية على المواجهة من أثبات وجوده، لاحتوائها على ذات الأمراض التي تنخر في المجتمع الرأسمالي ولا تمثل شيئا جديدا مغايرا لتصوراته وتوجهاته في التغيير الطبقي والاقتصادي بل قد تزيده في التردي نحو الانغلاق والهيمنة الاقتصادية بما تحاول تركيزه من خلال إيديولوجيتها التي لا تختلف من حيث الجوهر عن الإيديولوجية الرأسمالية في زيادة الاستغلال ولكن بطرق مغايرة تستند لأفكار علوية جعلتها هي البديل في الهيمنة وبسط النفوذ،  وهذه الأحادية جعلت العالم كرة عائمة تتقاذفها الأمواج العاتية ولا يقر لها قرار.

أن هذا الحدث المهم يدفعنا إلى البحث عن الأسباب الكامنة وراء هذه الانتكاسة، التي أدت إلى عودة الحركة الشيوعية عشرات السنين إلى الوراء، رغم أن الدعايات المشوهة والأراجيف التي يطلقها دعاة الرأسمالية وذيولها الرجعية المحلية والبرجوازية القلقة، حاولت تصوير الأمر على أنه دليل على عقم الفكر الشيوعي وطوباويته وعدم صحته أو قدرته على القراءة السليمة للحركة التي تسير المجتمعات، وقصور الثورة الاشتراكية بوصفها البديل الأفضل للنظم الرأسمالية، وانتصار الرأسمالية ودليل ديمومتها وبقائها وصلاحيتها للبشرية، وإنها خير ما وصل إليه الفكر الإنساني عبر العصور والأزمان بدليل بقائها وفرضها لتصوراتها وانحسار الأفكار المناوئة لها وانتهائها مهما طال الزمن ومرت السنون، وعجز البشرية عن إيجاد البديل الناجح أو ما يوازي فكرها العقيم.وأن هذه الدعاوى لغو فارغ لا يمكن الركون إليه، وهذه الانتكاسة دليل على أن الأنظمة الرأسمالية هي الأفضل والأجدى بالأتباع، وهي القمينة بحل مشاكل العالم ومواجهة المعضلات والمصاعب التي تقف بوجه تطوره وتقدمه،  ناسين أو متناسين أن الرأسمالية مرت بظروف مختلفة أجبرتها على الانكسار والتراجع، ولكنها تمكنت من تجاوز أزمتها لأسباب بعيدة عن الخطأ والصواب وأن الجواد الذي يكبو في المضمار قد يتمكن من تجاوز هزيمته بالانتصار في جولة قادمة، وأن الفرق الرياضية كثيرا ما تتجاوز خسارتها بفوز كاسح في لعبة أخرى تعيد لها القها واسمها في عالم الرياضة، وأن خسارة الملاكم لا تعني إن خصمه هو الأقوى، لأنه قد ينتصر عليه في منازلة أخرى.

وهذه الانتكاسة لا يمكن أن تحجب عيوب الرأسمالية، أو تلغي قصورها كنظرية اقتصادية ونظام اقتصادي قائم على الظلم والتعسف والاستغلال الطبقي، ويسعى لمنفعة الأقلية وتحقيق مصالحها على حساب الأكثرية الرازحة تحت نير الفقر والاستغلال الطبقي، وأن الرأسمالية المهيمنة على مقدرات الشعوب طيلة قرون لم تتمكن من تحقيق العدالة والمساواة أو تحقق الحياة الحرة الكريمة للشعوب رغم شعاراتها البراقة ودعاواها الزائفة بحقوق الإنسان، وهذه النكسة لا يمكن أن تخفي الشوائب والنواقص التي تحفل بها المجتمعات الرأسمالية، أو إغفال الجرائم الكبرى التي ارتكبتها الأنظمة الرأسمالية بحق الشعوب في أرجاء المعمورة، ولا يمكن أن تزيل أهدافها في الهيمنة على العالم والسيطرة على مقدرات الشعوب الفقيرة، ودول العالم الثالث المتخلفة واستعبادها في المجالات الاقتصادية والعسكرية والثقافية، وخوضها غمار حربين عالمتين وثالثة تخطط لها أشعلت من خلالها نيران الخلاف بين شعوب العالم وجعلتها تخوض صراعا دامي، وجعلت الحروب الأهلية الداخلية تنهش في الشعوب المتخلفة، التي دائما ما تكون ورائها الأصابع الغربية الساعية لأشغال الشعوب بحروب منهكة تبعدها عن التفكير بمستقبلها أو واقعها الذي تعيش فيه أو السبب وراء نكبتها تلك، وما أدت إليه حروبها من قتل للملايين وإعاقة وفقدان مئات الملايين ، وتدمير المرتكزات الأساسية والبني التحتية للدول التي ابتليت بهول الحرب ومعاركها الطاحنة، والمعارك التي أظهرت الرأسمالية بصورتها البشعة وكشفت حقيقتها وبربريتها الفاضحة في الإبادة الجماعية، وجرائمها في فيتنام الباسلة ودول أمريكا اللاتينية، وما يجري في أفغانستان والعراق من دمار رهيب دليل واضح على عقم الركون إليها وتصديق وعودها في السعي لبناء الديمقراطية وإشاعة الحريات وبناء العالم الحر ورفاه الشعوب وتقدمها.

ولو عقدنا مقارنات بسيطة عما قدمته الاشتراكية، وما هو عليه حال الدول الرأسمالية ، لوجدنا أن البطالة التي مدت أطناب في الدول الغربية ذات الأنظمة الرأسمالية ووصلت إلى أعلا مستوياتها حسب الإحصاءات الصادرة عن مراكزها التخصصية، وأن الملايين تنام في الأنفاق والمجاري ولا تجد المأوى المناسب له، وتنوء بمستوى متدني ، في حين أنها انعدمت أو كادت في البلدان الاشتراكية المنهارة، أو التي لا زالت تسير في خطها الاشتراكي، في الوقت الذي لا تزال الكثير من الدول الرأسمالية رغم تقدمها العلمي والتكنولوجي تعاني من البطالة، مما دفعها لإيجاد أسواق جديدة من خلال عملياتها الحربية التي توسعت هذه الأيام لانتشال اقتصادها من خطر الانهيار.

أن هذا البون الشاسع فيما وصل إليه النظامين، لا يمكننا أن ننكر أن التقدم الكبير والتطور الحضاري في المجتمعات الرأسمالية وإشاعة الحريات الديمقراطية، وإقرار مبادئ حقوق الإنسان، وضمان احترام الحرية الشخصية للفرد، هي أفضل مما وصلت إليه في البلدان الاشتراكية، إلا أن ذلك لا يعني أن الرأسمالية منحت أبنائها هذه الحريات اختيارا أو أيمانا أو أنها من ضمن أولوياته، بل أنها منحتها هذه الحقوق وهي صاغرة بسبب النضال الدائب الجاد لتلك الشعوب، التي ناضلت من أجل الحصول على تلك الحقوق والامتيازات، ولا زالت تناضل من أجل نمائها والالتزام بها وتطويرها تبعا لتطور المجتمع وتطلعات الإنسان، ورغم ما تعامل به شعوبها إلا أنها تظن على الشعوب الأخرى بجزء من هذه الحقوق، وتسعى لدعم أعتا الأنظمة الدكتاتورية في قمع شعوبه، وإبادتهم إذا حاولوا الحصول على نزر يسير من هذه الحقوق، وأحسن مثال على ذلك النظام ألصدامي الذي أعانته الدول الرأسمالية وأمدته بأسباب البقاء، وسكتت عن جرائمه البشعة في الإبادة الجماعية واستخدام الأسلحة المحرمة وكبت الحريات والتجاوز على حقوق الإنسان، وتزويده بالأسلحة المحرمة والدعم العسكري والمادي عن طريق صنائعها في المنطقة، رغم علمها بدمويته واستهتاره بكل القيم والموازين الإنسانية، وعندما رأت أن لا فائدة من بقائه سارعت لإرسال أساطيلها لإنهائه بعد أن أصبح يشكل خطرا على حلفائها ومصالحها في المنطقة، وهيأ لها الأسباب لاحتلال العراق والهيمنة على مقدراته، واحتلال منطقة الخليج لتحقيق أحلامهم التوسعية وإستراتيجيتهم في المنطقة ومحاصرة الأنظمة التي لا تسير في فلكهم، وما جره احتلالهم البغيض من كوارث على العراق والمنطقة ستظهر أثاره المستقبلية في القادم من السنين.

يتبع

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com