مجتمعات الجنوب برعاية دول الشمال!

 

 د. سّيار الجميل

www.sayyaaljamil.com

 ان ترسبات الايديولوجيات التي سيطرت على كل حياتنا في القرن العشرين، لم تزل راسخة حتى اليوم في عقول وضمائر بعض العرب،  من دون التخّلي عنها او التخلص منها أبدا، برغم كل التبدلات الجذرية اليوم .. ان فراغا سياسيا وفكريا هائلا تمر به حياتنا المعاصرة بسبب انسحاب تيارين اساسيين  من تفكيرنا وواقعنا معا : اولاهما الفكر القومي الذي سيطر على عواطف الناس الهائمين لمدة 30 سنة 1949 – 1979، لكي يحل بدله الاسلام السياسي الذي سيكمل عام 2009 قرابة ثلاثين سنة من حياته لتبدأ مأساة جديدة وربما سينتج حالة خلاص .. ولكننا نجهل طبيعتها وعناصرها . اما ثانيهما، فكان يتمّثل بالشيوعية العالمية التي سادت في منطقتنا على مرحلتين : مرحلة التأسيس 1919- 1949 ومرحلة الحرب الباردة التي تبلورت  لما بعد  الحرب الثانية وحتى العام 1979 مرورا بعهد الوفاق بين المعسكرين وقد ختم حياته بانهيار المنظومة الاشتراكية نهاية القرن العشرين ..

لم يكن هناك من بدائل الا اختراق العولمة والسيطرة الكابيتالية  (= انتقال الرساميل في العالم)  اثر التحول التاريخي عن مرحلة الامبريالزم (= الهيمنة السياسية) .. وفي ظل المتغيرات السريعة، وجد عالم الجنوب نفسه ضائعا، خصوصا بعد انهيار المنظومة الاشتراكية .. فلا القومية العربية ولا الشيوعية العالمية ولا الاسلام السياسي لها القدرة على الوقوف امام هذا المارد الجديد الذي غير حياتنا، وشرخ تفكيرنا، وجعلنا جزءا من هوامشه .. وليس باستطاعة عالمنا في الجنوب العيش من دون عالم الشمال . وبلا مكابرة، ليس لدى عالم الجنوب القدرة على ان يبقى لساعات قلائل واقفا على رجليه .. بسبب عدم امتلاكه مفاتيح الحياة المعاصرة ومصادر الطاقة والهيمنة على علاقات الانتاج من خلال  الشركات ورؤوس الاموال عابرة القارات .. هنا أسأل : هل تنفع مع عالم الشمال ما تبقى لدينا نحن من فضلات ايديولوجية ومن استعراضات فارغة ومن شعارات طنانة ومن اشعار واقوال ومأثورات؟ هل تنفع معه هذه الاساليب المضحكة التي يزاولها القادة وتمارسها النخب وتؤمن بها المجتمعات في بيئاتنا التي تملؤها التناقضات؟

 من باستطاعته مقاومة هذا المارد الكاسح الذي يقبض على انفاس العالم ؟ اية ادوار واية مواقف يمكننا اتخاذها من اجل ان يلتفت الينا؟ اية حقوق مضاعة على مدى مائة سنة يمكنها ان تعود الى قبضتنا ونحن لا ندري كيفية التعامل معه؟  لماذا امتلكت شعوب اخرى الوعي بهذا العصر  في حين تعطلت قدراتنا وتجمدت عقولنا واصبحنا لا نفهم الا لغة الشتائم والتخوين والكراهية وتراكمات الاحقاد، بل ممارسات التكفير والقتل والتفخيخ؟

من علم ملايين الناس الاقانيم السوداء؟ من علمهم الكسل واهمال الزمن والتواكل والاستسلام للمجهول؟ من قيد افكارهم وسجنها في الغرف المظلمة؟ من جعل تصوراتهم لا تبتعد اكثر من الاكل والنوم وتلبية حاجات نداء الطبيعة؟ ان زمننا هذا قد خلق للاذكياء والمبدعين الخلاقين والوعاة والحرفيين والمكتشفين .. ولا مكان فيه للطغاة والاغبياء والكسالى المتكلسين والهائمين الخياليين .. ان زمننا الذي يمضى نحو الامام سيصبح غير زمننا، وان المكان الذي نعيش فيه سيكون غير مكاننا .. العالم كله يدخل في اطوار غير اطواره التي الفناها في الماضي . ان  عالم الشمال لا يهمه الا كيف يحافظ على قوته وتكنولوجيته وتطور حضارته ونظم معلوماته ومصالح اقتصاداته .. الخ 

انه لا يمكنه البتة ان يتأخر عن سيرورته المتسارعة من اجل ان يفهم معنى عبارة معينة او نص كلاسيكي قديم او شعار سياسي لا يعني له شيئا .. انه يهمه كيف يستحوذ على الايدي العاملة الرخيصة ويهمه كيف يسّوق بضاعته الكمالية واسلحته الفتاكة وسلعه الجديدة .. انه بقدر ما يهمه الانتاج وتحسينه يهمه ملايين المستهلكين ..  مئة سنة مرت ولم تحقق القومية العربية اهدافها .. فهل ننتظر مائة سنة اخرى حتى ننتظر احلام الاسلام السياسي؟ لقد انتهت الشيوعية العالمية من فوق الارض بعد ان انتحرت على ايدي اصحابها .. ولم يزل هناك من يصفق للبروليتاريا ويسبح  باسم صراع الطبقات ! انتهى بعض الحكام المتوحشين الذين حكموا بالحديد والنار .. ولم يزل هناك من يمجد ذكراه بالرغم من كل ما اقترفه من جرائم وطغيان !

المهم، ماذا نفعل اليوم ازاء العالم كله؟

سيكون الجواب حتما مجرد فوضى كلامية وشعارات سياسية واستعراضات انشائية ومواعظ دينية ومأثورات تاريخية وخطابات عاطفية واشعار وجدانية واقاصيص شعبية ومؤتمرات فكرية وندوات سياسية وحزبية واعلاميات تلفزيونية وفضائية .. ان كلها لا تنفع ابدا .. اننا ان جمعنا كل مقترحات ومشروعات ومطالبات وتظاهرات الدنيا كلها، فهي لا تساوي قلامة ظفر ازاء قرار يوقعه حاكم من الحكام .. او قانون تشرعه سلطة عليا . وعليه، فان النخب العليا في اي مجتمع مطالبة بالضغط على الحكومات من اجل التغيير والتبديل في المناهج السياسية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية .. وكل ما من شأنه ان يأخذ بالتحولات التاريخية من دون اي طفرة لا اساس لها من الصحة، ومن دون اي قفزة نوعية واهية، ومن دون حرق للمراحل على مستوى السلطة والشعب ياكل بعضه بعضا .. المطلوب تغيير جذري في النهج وانفتاح حقيقي على العصر .. مطلوب ان نكون واضحين في مقاصدنا واهدافنا ومنهجنا بعيدا عن اللف والدوران وعن اللعب بالتناقضات وعن ثنائية التراث والمعاصرة وعن ازدواجية المعايير وعلينا ان نسلك طريق التفكير المدني وفرض القانون ..

 العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com