ان المفهوم السياسي السائد عالمياً في هذه المرحلة العالمية (المصالحة الوطنية) هو وليد تاريخ قديم ومن الصعب تحديده .. ولكن نشاطه الاكثر فاعلية نجده في مستهل القرن الحادي والعشرين وخاصة في مناطق الشرق الاوسط والمثلث الافريقي الاحتقانات السياسية والدينية والطائفية التي عاشتها شعوب مناطق الشرق الاوسط والقارة الافريقية بفترات حكم النظم الثورية الشمولية القومية انعكست على شعوب هذه المناطق بشكل واضح ومتنامي .. لعل انطلاق القرن الوحد والعشرين (قرن القطب الواحد) قد افرز مع تغيراته اثمار بذور المرحلة السابقة بكل سلبياتها .. تلك الانظمة التي لايزال قسم منها في الحكم وقسم اخر يغيير في ستراتيجية بحذر شديد لعله يحافظ من خلال بعض التنازلات على كرسيه المقدس .

بذور الانقسامات السابقة اثمرت في هذه المرحلة وبشكل معقد الكثير من الصراعات والاحتقانات التي تطلبت حلول جذرية في بعض الاحيان لايقاف مد الانقسام .

لبنان الذي مزقته محاصصته في الحكم منذ العام 1943 عندما اعلن (الميثاق الوطني)* استمر بأحتقانات متصاعدة حتى انفجرت في العام 1975 وبعوامل خارجية ايضاً لتدخل البلاد بحرب اهلية طويلة الامد .. ولاداعي للخوض بالاسباب التفصيلية لها واحداثها الطويلة، بل لنشير الى تجربة خلق مصالحة وطنية في البلاد التي حاربت اهلياً لخمسة عشر عام وبتدخل اكثر من عشرة دول كبرى ومجاورة للبنان .

في العام 1990 انعقد في مدينة الطائف السعودية ميثاق لبناني عرف تاريخياَ (بأتفاقية الطائف)** لوضع حد للحرب الاهلية اللبنانية .

بناء المصالحة في لبنان بعد الحرب الاهلية الطويلة لم يكن بالامر اليسير فالكل تلطخت ايديهم بدماء بعضهم البعض والكل استجابوا لانتمائاتهم الطائفية والحزبية على حساب انتمائهم الوطني، الاخطر من ذلك ان التدخل الخارجي كان في اوجه بل وبدعوة من الفصائل اللبنانية انفسها *** .

من بدء المصالحة بلبنان كان طرفاً خارجياً .. وهنا لنا وقفة لماذا الوسيط كان خارجياً ؟ الجواب يسير (لقد ضمت الصراعات الاهلية في لبنان كل الاطراف السياسية و الطائفية في البلاد مما ادى لآنعدام الثقة بل وتطورها لعداء مفرط واتهامات طويلة بينهم، بحيث اصبحت لاتسمح لاحد المتورطين بأن يطرح نفسه كمقرب لوجهات النظر.. مما اوجب الاستعانة بالاخر الخارجي) .

الانصاف التاريخي يجعلنا نؤكد ان على الرغم من وجود نية حقيقية للكثير من الاطراف الخارجية لآتمام المصالحة في لبنان الا ان الحيادية لم تكن متكاملة في طروحات الجميع ... الامم المتحدة، الولايات المتحدة، الجامعة العربية، فرنسا، السعودية و دول ومنظمات اخرى كل هؤلاء حاولوا انجاح مصالحة لبنانية، ولكن كيف سارت العملية مع محدودية الحيادية لدى المومى اليهم اعلاه .

كان الواقع السياسي في لبنان بعيد اتفاقية الطائف متمثل بحكومة العماد عون العسكرية وبحكومة اخرى على الاساس العسكري بقيادة زعيم الكتائب (سمير جعجع) .. قوات عون وجعجع دخلوا في حرب مفتوحة ودموية .

فرنسا ايدت عون و كذلك الجامعة العربية حيث اعترفت بحكومة عون .. هذا وقد حضر عون بنفسه اتفاق الطائف كرئيساً للحكومة التي انبثقت عقب اغتيال الرئيس الياس الهراوي .

من جانب اخر نسقت السعودية مع الجامعة العربية وقيادات قومية اخرى من اجل صناعة قيادة قومية عربية لبنانية وطرحوا اسماً جديداً على الساحة اللبنانية وهو الرئيس الراحل (رفيق الحريري) وقدموا له الدعم المادي والسياسي .

الامم المتحدة عجزت عن ايقاف نزيف الدم .. اما الولايات المتحدة فلم تجد خيار لآيقاف العنف اللبناني وصناعة مصالحة الا بضرب الطرفين المتقاتلين وبالتالي احلال بدائل جديدة .

سوريا كانت اليد الامريكية في تحقيق ذلك .. فقد قصفت الطائرات السورية مقر رئاسة عون في ايار 1990 ودمرت قيادة اركانه فهرب لاجئاً الى السفارة الفرنسية ثم من هناك الى منفاه الاخير في العاصمة الفرنسية باريس .. وسرعان ما ادين سمير جعجع بأغتيال الزعيم اللبناني (داني شمعون) وعائلته بطريقة بربرية لم ينجو منها حتى الاطفال .. اودع جعجع السجن بعد ان خفف حكمه للسجن مدى الحياة بعد ان حكم بالاعدام اولاً .

الجو السياسي اللبناني بعيداً عن المتصارعيين عون وجعجع بدى اكثر مناسبة لاجراء مصالحة واعادة للاعمار بالبلاد المحطمة .. وهنا عاد دور الولايات المتحدة و الجامعة العربية لدعم اعادة الاعمار وتحقيق المصالحة بالبلاد .

الا ان نقطة جوهرية لم تحدث مما بقيت شائبة في جسد المصالحة تثير الوضع السياسي دوماً و بلا هوادة .. السوريون الذين ضربوا القيادات المتصارعة بلبنان ليبقون اللاعب الاقوى في لبنان ودون منازع، قد بقوا دون انسحاب من لبنان حتى وبعد اتمام عملية السلام والتحول نحو اعادة الاعمار والمصالحة . وبنفوذ لايضيه بهم احد .. مما افسد المصالحة .

ان الدخول بعملية تحليل الاحداث السالفة الذكر و الابحار في سبب فشل مصالحة حقيقية في لبنان يؤكد ان بقاء العوامل الخارجية او صناعة عوامل داخلية بأيدي خارجية بقية عقدة يقف عندها اي منشار سياسي .

المصالحة في لبنان ركزت على القيادات دون ان تتعمق للوصول الى الشعب ومتطلباته ومعاناته، بل لم يصل لحل مشكلات جذرية كسلاح الاحزاب و التنوع الحزبي، كما بقيت القيادات الطائفية و الحزبية تتبادل الاتهامات والتجريح فيما بينها .. مما ابقى الشارع اللبناني في غليان مستمر، وطبعاً بقاء الجيش السوري واستمرار التدخلات الخارجية كان له الدور الاسوء في عدم انجاح المصالحة .

لااحسب ان المصالحة نجحت بلبنان .. الا ان الاستفادة من اخفاقاتها ضرورة لعدم الوقوع بأخطاء من نفس القبيل .

* الميثاق الوطني بأبسط صوره هو عرف دستوري غير مدون صنع على النسق البريطاني الدستوري، وينص بتقسم السلطات بتحاصصية طائفية تعطي المسيح الموارنة منصب رئاسة الجمهورية والمسلمين السنة منصب رئاسة الوزراء والمسلمين الشيعة منصب رئاسة مجلس النواب .. كما توزع بالحصص الطائفية المناصب السياسية والوزارية والدبلماسية بالبلد (وهذه المحاصصة تعد من اسرار الاحتقان اللبناني اللامنتهي) .

** اتفاقية الطائف مشروع امريكي لف بعبائة سعودية عربية ونفذ تحت قوة عسكرية سورية .

*** تعد مشكلة الاستقواء بالخارج اهم محرك للاحتقانات والازمات بلبنان،فمنذ ان استعان الامير الشهابي بالقوى الخارجية لدعمه ببلاده حتى اصبح طلب تدخل الخارج ناموساً مظلم في مستقبل البلاد وهذا مايعكس نمو البغضاء بين ابناء البلد الواحد وخاصة لو علمنا ان اثناء الحرب الاهلية فقط حاربت في لبنان اكثر من ستة جيوش اجنبية على الاراضي اللبنانية .

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com