|
من حكمة الخالق العظيم أنه أرسل إلينا رسلا وأنبياء وكتبا سماوية لكي نعي بأن لا أحد منا يمكنه أن يكون صاحب الحقيقة المطلقة والرأي المطلق, لأنها من خصوصيات الخالق الأحد الصمد الذي لا نحيط بشيء من علمه إلا بتقدير منه. "...إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون" المائدة 48 فنحن مخلوقات ذات بنية فسيولوجية وبيولوجية واحدة, لكن ملامحنا ونبرات أصواتنا تختلف, بصمات أصابعنا وعقولنا وأفكارنا تختلف, وإيقاعات أعماقنا ومفردات صيرورتنا كلها تختلف, وفي أبداننا أعضاء مختلفة تتفاعل مع بعضها لتحقيق الوجود البشري الحي للفرد والمحافظة على نشاطه السليم في محيطه, وعندما تفشل الأعضاء في تأدية وظائفها يتهاوى البشر في فم التراب. فبالاختلاف نكون ونعيش مهرجان وجودٍ متدفق بالألوان والصياغات المتعددة والصفات والأفكار والآراء والاتجاهات التي جميعها تصنع ما نسميه الحياة. فالحياة بأصدق تعريفاتها هي تفاعل الاختلاف والتباين. والموت يمكن تعريفه بأنه تفاعل المتشابهات. والدول المتقدمة تقر بالاختلاف وبهذا فهي تتجاوزه لأنه حالة فاعلة في كيان الوطن الذي يضمن حقوق وواجبات الجميع. فتجاوز الاختلاف يكون بالتفاعل معه بحقيقة واقعهِ وكونه قوة مولدة للحياة الحرة الكريمة التي تصنع الاقتدار وتحقق الإرادة وتبني معالم الارتقاء وبقاء الأصلح للأرض والحياة. والإقرار بالاختلاف يعني تجاوزه والانتقال إلى مرحلة البناء الإنساني والحضاري المطلق. ووفقا لهذه القاعدة والناموس الكوني بنيت الحضارات وتحققت الإنجازات الكبيرة. وكلما ازداد الإقرار بالاختلاف كلما تم تجاوزه واستخدام قدراته للبناء والتقدم. وعندما نتأمل خطوات الرسول الكريم (ص) في بداية دعوته للدين, نجد أن الإقرار بالاختلاف كان واضحا وقويا ومؤثرا في صناعة الأيام وتحديد معالم طريق واتجاهات الدعوة إلى الإسلام. وهذا يستند بقوة ووعي خلاق على معنى رسالته التي هي للناس أجمعين, فهو رسول للإنسانية وفي هذا يكمن المعنى التام للإقرار بالاختلاف, لتجاوزه والوصول إلى قلب الإنسانية ونور الله الواحد الأحد الذي خلق الناس جميعا من نفس واحدة وجعلهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا ويتفاعلوا ويؤسسوا حضارة الأرض بقدرات اختلافهم ومعاني رؤاهم المتنوعة. وقد مضى وعي تجاوز الاختلاف بالإقرار به واستثمار طاقاته لتحقيق أعظم السعادة وأكبر البناء الإنساني الذي ينفع الناس. وبهذا تفاعل العرب مع ثقافات وحضارات الدنيا التي بسطت لهم مرابعها ودخلت في دين الله أفواجا, لأنه حافظ على معالم اختلافهم ورسخ فيهم المساواة والوحدة الخالصة لرب واحد لا أحد سواه. فأصبح الناس برغم كل اختلافاتهم, لا فرق بينهم إلا بمدى تفاعلهم مع خالقهم وبارئ الأكوان والأرواح وبهذا تقرر الانتماء الحقيقي للإنسانية وتجسدت معالم الصيرورة الحضارية الكبرى. إن عدم الإقرار بالاختلاف وضرورته للوجود الأرضي سلوك سلبي, لأنه سنة كونية وديدن الوجود الحي وجوهره الحقيقي الذي لا يعلوه جوهر أو يفوز عليه مصدر, فلولا الاختلاف لما وجد الكون ولما تجرعنا الحياة وتواصلنا فيها بهذا الحب والانتماء الصادق لكل مفرداتها. فنحن نحب الألوان ولا نرغب باللون الواحد ونميل إلى هذا التنوع والاختلاف في سلوكنا وأساليب ارتباطنا بالحياة وأصولها وفروعها. والمشكلة ليست في الاختلاف وإنما في التوظيف الانفعالي لمفردات الاختلاف وتصعيد تفاعلاتها العاطفية إلى أعلى درجات الفناء. فعندما نصغي إلى الطبيعة ونتأملها بصفاء ومحبة , نجد أن المعرفة والآراء والأفكار والتجارب تدفعنا إلى التفاعل, فنحن نتفاعل لأننا نختلف أو نمتلك آراءَ وتصورات متنوعة. والأرض بودقة دوارة لتفاعل الاختلافات فتنتجها اختلافات متطورة وذات قدرة على التقدم والارتقاء. فالاختلاف نعمة وبركة من بركات الخالق العظيم, لأنه يريد لنا السعادة والرحمة والتواصل والإبداع الجميل. والآراء العلمية أو التفاعلات البشرية اللامحدودة تدفعنا للإقرار بضرورة الاختلاف وأهميته ودوره في صناعة الحضارة والتطور وإشاعة الفضيلة بين الناس أجمعين. والاختلاف يدعونا للمشاركة في بناء الحياة بكل مناهجها وسبلها ورؤاها وعطاءاتها المتنورة بتفاعلات الاختلاف المبهجة النظرة والتي هي رحم الصيرورة الأكبر, والمشاركة تعني الرعاية والعناية والمحبة والتقارب وتحرير الناس من غفلتها وجهلها وتراب ضلالتها المتراكم على بصائرها التي أرادها الله تعالى أن تتفكر في خلق السماوات والأرض وما بينهما. و"إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لألي الألباب" آل عمران 190
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |