أن الأسس التي قامت عليها الأنظمة الرأسمالية لا تسمح بإقامة مجتمع العدالة والمساواة، مجتمع الكفاية والعدل، ولا تستجيب لتطلعات الشعوب في الحياة الحرة الكريمة، لذلك يبقى الصراع الطبقي هو السمة المميزة في مثل هذه الأنظمة لأنه ينمو بنموه، ويتنامى بتناميها ، وكلما أستطاع رأس المال التمدد والتقدم ، كلما ازدادت حدة الصراع لتفاقم الأزمة الاقتصادية وهبوط المستوى ألمعاشي للطبقة العاملة، وكلما شهدت الرأسمالية نموا مضطردا ، كلما ازدادت المعانات، وتطلعت القوى العاملة لمواجهاتها ورفع الظلم والحيف عنه، وبدت الحاجة ماسة لنضالها للوصول لغدها الموعود وبناء الاشتراكية التي تضمن مساواتها وحصولها على حقوقه، وتمس الحاجة لبناء المجتمع الاشتراكي المزدهر على أسس قويمة من العدالة الاجتماعية والمساواة ونبذ الاستغلال وإشاعة الرفاهة الاجتماعية، التي لا تستطيع الرأسمالية تحقيقها لدوافعها المبنية على الأثرة والاستغلال.

والحتمية التاريخية لسقوط الرأسمالية كما تنبأ فلاسفة الاشتراكية العلمية ماركس وأنجلز، لم يكن نتيجة فلسفة طوباوية أو أراء خيالية، أو قفزا على الواقع ومما هات له، بل جاءت استنادا لدراسة متعمقة للتاريخ الإنساني وفهم عميق لطبيعة المجتمعات، وفق أسس علمية تستند لتجارب رائدة كانت معينا في استكناه الواقع وإيجاد الدواء الشافي لأدوائه، وستنهار الرأسمالية كما انهارت الأنظمة التي سبقتها في الظهور وجاءت على أنقاضه، كالعبودية والآقطاعية وستكون الاشتراكية هي قدر البشرية والحتمية التاريخية إلى لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها أو إغفاله، لأنها الأساس الواقعي لبناء المجتمع الإنساني الخالي من الاستغلال والتسلط والفوارق الطبقية التي تأخذ بخناق الكادحين.وهي النظام الأمثل الذي يستجيب لتطلعات البشرية وطموحها المشروع في الحياة الحرة الكريمة، الخالية من الفوارق بين الطبقات.

أن هذا الانهيار المريع والسريع، والنكسة التي لحقت بالحركة الشيوعية، يدفعنا لدراسة العوامل والأسباب التي أدت إلى حدوثه، وأين تكمن مواقع الخطأ التي أدت أليه، وهل جاء لأسباب موضوعية أو ذاتية أو نتيجة عوامل أخرى من خارجه، أو هو نتيجة أمراض كامنة في طبيعته، أو الأسس التي أرتكز إليه، أم في التطبيق غير الخلاق عبر المسيرة الطويلة التي صاحبت البناء، ، وعلينا أيجاد السبل الكفيلة بتجاوز هذه الانتكاسة، وإعادة البناء على أسس لا تحمل في داخلها العوامل التي أدت إلى هذا الفشل المريع، وأن نتجاوز الأخطاء التي صاحبت الفترة السابقة من خلال تشخيصها وإيجاد الحلول اللازمة لها.

لقد اختلفت الآراء، وتباينت الأفكار في تلمس هذه الأسباب ودراسته، فالمتطرفون لا يجدون في تلك الدولة القائمة ما يصح أن يقال فيه أنه تجربة اشتراكية، وأن الثورات التي جاءت بتلك الأنظمة لم تحمل الصفة اللازمة للاشتراكية، وإنها تجارب لم تقترب من لب الاشتراكية أو تدخل في صميمها وإنما اتخذت أسمها فخانها التطبيق، وهي افتئات على الفكر الاشتراكي وتطبيق قاصر لفلسفتها التي جاء بها معلمو الاشتراكية وواضعي أسسها النظرية القويمة،  والبرجوازيين يثنون على الرأسمالية وإنها النظام الكامل والنهج الذي يستحق الاحتذاء والسير على هديه، والنظام الأوفق للإنسانية لما يحمل في طياته من عوامل مساعدة في أرضاء النزعة الإنسانية المبنية على الأثرة وحب التملك، وأن الأنظمة الاقتصادية الأخرى لا يمكن لها أن توازي أو تصل لما وصلت إليه الرأسمالية في الممارسة والتطبيق، وأن ما يقال عن صراع الطبقات أثبت عدم صحته وجدواه في معالجة أدواء المجتمعات، وبنائها على أسس خالية من الصراع والتجاذب بين تياراتها المتعارضة .

أن هذه الآراء لا يمكن الركون إليها والتسليم بها على أنها مسلمات لا تقبل النقض والتأويل، دون محاولة دراستها من خلال الوقائع الصحيحة بعيدا عن الهوى والتعصب والعزة بالإثم، وبحيادية تستند للبحث العلمي، فالثورات الاشتراكية التي اندلعت في أماكن مختلفة من العالم، ومنها الثورة الروسية في أكتوبر 1917 لم تكن وليدة الصدفة أو مغامرة غير محسوبة النتائج، وثورة عابرة توفرت لها فرص النجاح، دون استنادها لظروف تاريخية سابقة ومبادئ معروفة كانت من الأهداف التي تسعى لتحقيقها والنضال لتحويلها إلى واقع معاش، لقد جاءت نتيجة صراع طويل للتخلص من الظلم والتسلط والاستغلال الذي أناخ بكلكله على الشعب الروسي، والتخلص من السلطة القيصرية التي سامت شعبها العذاب، نتيجة الهيمنة الإقطاعية واستحواذها على الأرض ووسائل الإنتاج، واستغلالها للشعوب ومعاملتها معاملة الأرقاء، وقد وصلت الأمور أن يكون للمالك قتل فلاحيه واقنانه، دون أن يكون عرضة للسؤال لأنهم لا يختلفون عما يملك من ماشية أو حيوانات، لذلك نرى أغلبية الجماهير سارت وهي تحمل الراية الحمراء للتخلص من الظلم والاستغلال والتسلط وما صاحب ذلك من عمليات انتقامية تعبر عن مدى الكره الذي تكنه الشعوب لحكامها.

أن انتصار ثورة أكتوبر خلق توازن جديد، بعد أن كان العالم كله تحت تسلط وهيمنة الرأسمالية، فأصبح فيه القطبين الرئيسيين متمثلين بالمعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، وقدمت الجمهورية الفتية الكثير للدول النامية، ودفعتها للتقدم في بناء اقتصادها الوطني، والتخلص من الهيمنة الاستعمارية ، وكانت مساعداتها للدول النامية للتخلص من ربقة وقيود الرأسمال الأجنبي، وبناء اقتصادها الوطني على أسس متينة خالية من تأثير الرساميل الأجنبية، للدول الفقيرة ، وأن المساعدات التي قدمتها لحركات التحرر خير دليل على أيمانها بالمثل السامية والمبادئ النبيلة، وبفضل هذه الجمهورية تحررت الكثير من الشعوب واستطاعت بناء دولتها الوطنية، دون أن يكون لهذه المساعدات دافعها الاستعماري، كما هو الحال فيما تقدمه الدول الرأسمالية الذي كان مشروطا بالتبعية والاستحواذ والهيمنة، ودون أن تفكر باستعبادها كما هو حال الدول التي كانت تسير في الفلك الرأسمالي.

أن المساعدات التي كانت تقدمها الدولة السوفيتية لم تكن من فائض أنتاجها أو مما زاد عن حاجته، بل كانت تقتطعه من أفواه شعوبها وعلى حساب تقدمها وتطوره، وكان لهذه المساعدات أثرها في أضعاف الاقتصاد السوفيتي، لعظم المسئوليات المترتبة عليه، ومن الأمثلة البسيطة على ذلك المساعدات التي قدمتها الحكومة السوفيتية للشعوب العربية في حربها مع إسرائيل، عندما دمرت العسكرية الإسرائيلية القوة العسكرية الكبيرة لمصر وسوريا عام 1973 وتمكنت في سويعات من تدمير هذه الترسانة التي كانت في حينها من أكبر ترسانات الأسلحة في المنطقة، وأنهت مقومات الجيش المصري الذي كان في هزيمته يضاهي أسرع العدائين في العالم، ولولا الموقف السوفيتي وتدخله السريع لإيقاف العدوان لاجتاحت إسرائيل هاتين الدولتين، وأنهت وجودهم، وبعد تلك الخسارة المريعة كان على الروس أعادة تسليح هاتين الدولتين بما يمكنهما من أعادة بناء قوتهما المسلحة ، وبناءها لتكون قادرة على حفظ التوازن ومواجهة العدوان، دون أن تكون لهما القدرة على الوفاء بأثمان تلك الأسلحة.

أن الدارس الموضوعي يستطيع تلمس الأسباب والعوامل المؤدية إلى هذا الانهيار من خلال دراسته لطبيعة الثورة البلشفية، وماهية الشعب السوفيتي والمرتكزات والأسس التي تم البناء عليهم، فأن حدوث أول ثورة اشتراكية في بلد كالإتحاد السوفيتي، لابد أن يحاط بممارسات قد تضر بالتجربة أو تسيء إليها تبعا لتخلف ذلك البلد وعدم أهليته لهذه للثورة، وما كان عليه المجتمع من تخلف وضمور، وقد عملت ذات العيوب والأمراض التي حفل بها المجتمع عمله، ولم تسعى لإصلاح تلك العيوب والقضاء عليه، رغم العمليات الترقيعية التي لم تصل للب المشكلة أو تتمكن من إنهائه، فكان لتلك الآفات التي تنهش في المجتمع أن تأخذ طريقها لتكون عقبة كأداء وعائق كبير، مما أدى إلى تضخمها واستفحاله، ففتكت فيها تلك الأمراض وتمكنت من وأدها وإفشالها.

فالنظرية الماركسية في معرض تحليلها ودراستها لأساليب البناء الاشتراكي، ووضعها الأسس السليمة لأقامته، حتمت أن يتم ذلك في بلد رأسمالي تتوفر فيه الأسباب لحتمية الثورة، لتوفر القوى العاملة صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير الجديد، بعكس روسيا البلد المتخلف الذي كان في مرحلة الإقطاعية ولم يصل لمرحلة الرأسمالية، وبذلك لم تكن مهيأة لتكون الدولة السليمة لبناء الاشتراكية وفق الأسس والمبادئ التي وضعها ماركس، وحسب أساليب التطور الحتمي للمجتمعات البشرية.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com