قرأت ما كتبته الفاضلة الدكتورة كاترين ميخائيل، وما كتبه الأستاذ حسن حلتم المذكور عن الكرد الفيلية ومعاناتهم وضرورة أيجاد الحلول الناجعة لمشكلتهم، وقد يكون فيما أكتبه بعض التحامل أو الحيف على الأخوة الفيلية، وأن ما فيه من الحقائق ما يعرف ولا يكتب، ولكنها الحقيقة  التي أراها من وجهة نظري وعسى أن لا يكون فيها إساءة لهذه الشريحة التي لها في القلب منازل ومنازل، للعلاقات الحميمة بالكثير من أبنائها والعيش معهم كواحد منهم من عهود الصبا الى خريف العمر، فقد كنا وإياهم في منطقة واحدة نحتفل بالعلاقات الاجتماعية، ونعنى بالجيرة والمناطقية، فكيف اذا كانت الميول واحدة، والاتجاهات متقاربة، لذلك كنا وإياهم كالعائلة الواحدة ليس بيننا وبينهم الا ما حرم الله، نتقاسم حلو الحياة ومره، في ألفة ومحبة لا تكون الا بين الأقرباء والعصبة الواحدة،  ولم أشعر في يوم ما أنهم يختلفون عنا في شيء، فهم عراقيون صميمون لم تشب عراقيتهم شائبة أو تملأ قلوبهم نعرة، لإطلاعي على مكنوناتهم وما تخفيه دواخلهم لبوادر لا يستطيع الإنسان كتمانها في لحظات انفعالية لا شعورية، فكنا نتحلق أمام شاشة التلفزيون في نقل مباشر لمباراة هامة و رغم كرهنا لنظام صدام الجائر وتمنياتنا بفشله وتعاطفنا مع الخصم على قاعدة عدو عدوي صديقي، الا أني لاحظت تفاعلهم اللاشعوري مع الفريق العراقي، عندما سجل العراق هدف الفوز في تلك المباراة، رغم أن المتخلفين يحسبونهم على الجانب الآخر، ولعل حبهم للعراق وأيمانهم به وطن، قدموا لأجله التضحيات، وشاركوا في النضال والدفاع عنه، كان السبب وراء معاناتهم وما أحاق بهم من ويلات ومآسي لم تحدث للكثيرين، وأن توجهاتهم السياسية كانت وراء الحرب المعلنة عليهم من صدام وجلاوزته.

لقد كان لتربيتنا البعيدة عن الانغلاق والتقوقع والتزمت والتعصب وراء هذه العلاقات الحميمة معهم، أضف لذلك ما يجمعنا من مبادئ وجوار وعلاقات اجتماعية وثيقة، وكان لإبائنا وأجدادنا منذ القديم ذات العلاقات معهم، لذلك ما أن كشر البعث عن أنيابه القذرة أوائل السبعينيات وقام بتسفير طائفة منهم، حتى أخذ الآخرين يشعرون بما يبيت النظام لهم، ولكن عراقيتهم لم تجعلهم يتوخون الحذر، ويحسبون حساب القادم وما تخبئه الأيام،  في تصفية ممتلكاتهم والتهيؤ لتوجهات السلطة،  وما أن حدثت الخلافات العراقية الإيرانية بعد الثورة، حتى كشر النظام عن أنيابه وأفصح عن نواياه، فما أسرع ما قام زبانيته وعصاباته الأمنية باعتقالهم ونهب أموالهم والاستيلاء على ممتلكاتهم وتسفيرهم  ورميهم على الحدود العراقية الإيرانية، فكان التهجير ألقسري شاملا لمئات العائلات في مدينتنا الصغيرة، وكنت يومها خارج مدينتي، وعندما عدت في اليوم التالي وجدت أهلي في حالة مريعة من الكآبة والوجوم، فخلت أن داهية أو مصيبة قد أحاقت بهم، وأدرت عيني في الوجوه متسائلا فكان خبر تسفيرهم مصحوبا بالآهات والدموع، وكانت ليلة ليلاء  أخذت أستعرض فيها وجوه الأحبة ممن رحلوا نتيجة الحقد الأعمى للنظام المقيت، وفي اليوم التالي لم أشعر الا وصوت خشن ينادي يا أهل الدار، فتحولت الى باحة الدار الخلفية حيث مصدر الصوت، فرأيت شخصا لو شاهدته في زحام لأمسكت جيبي خوفا من السرقة، وكان لا يفصل بيتينا سياج لعظم العلاقة ومتانة الآصرة ، وسهولة التزاور بدلا من اللف والدوران وطرق الأبواب، وسألني بصلف وخشونة لماذا لا يوجد سياج بين الدارين، فقلت له للعلاقة الحميمة التي جعلت منا أهل، فقال يبدو أنك متأثر عليهم، فقلت له ومن لا يتأثر لما يصيب أناس طيبين، فقال تعال وقع على محضر محتويات الدار، فقلت له ومن أين لي أن أعرف أن المحتويات كاملة لم تسرق، ثم أردفت وأني عسكري ولا علاقة لي بالأمور المدنية، وجاء شرطي آخر يرتبط معنا بعلاقة وكان قد سمع الحديث فقال لصاحبه(عيفه مخبل)أي اتركه أنه مجنون، فتركني وهو يقول عجيب .....عجيب ، وكنت حينها غير متحسب للعواقب وموطن نفسي حتى الموت، لأن الحرب المهلكة لابد أن ينالني رذاذها فما قيمة الموت اذا تقدم يوما أو تأخر أيام.

هذه المقدمة بداية لإعلان انحيازي الكامل إلى جانبهم، واهتمامي بقضاياهم،  لأن موقفي موقف المتعاطف، وأين الشجي من الخلي، كما يقال ، لذلك يكون في كلامي بعض التحامل أو العتاب الرقيق فأرجوا قبوله على علاته، وأن يأخذ بنظر الاعتبار طبيعة العلاقة وأسباب الحرص على معالجة هذا الأمر ومن هذه الزاوية بالذات.

أن العيب أو الخلل الكامن في قضية الكورد الفيلية، أنهم أضاعوا المشيتين،  فهم ليسوا عربا ليأخذ العرب جانبهم، والدفاع عنهم، وليسوا كردا ليقف الكرد معهم في طرح قضاياهم وتبنيها بما يملكون من ثقل في الوقت الحاضر، وليسوا فرسا ليكون الفرس حماة مدافعين عنهم، أو يقفوا الى جانبهم، فقد توزعوا بين هذه الأطراف وتفرقت كلمتهم بين المشايع للعرب ممن يحاول السير بركابهم والركض ورائهم، أو المؤيد للكرد والمدافع عن قضيتهم لحد الانصهار معهم دون أن يكون للكرد ذات التوجهات معهم، وبين من ضاع في زخم الطائفية وذاب صوته في زحامها دون أن يستطيع تقديم شيء لقومه ويستعيد لهم حقوقهم، في الوقت الذي كان عليهم تبعا للمعادلة السائدة في هذه الأيام توحيد جهودهم في جبهة متراصة بعيدا عن التكتلات القومية والطائفية، والسعي لاستعادة حقوقهم واثبات وجودهم كقومية لها مقوماته، لا أن يكونوا موزعين على جميع الأطراف فاقدين لهويتهم، بالاعتماد على أطراف لها مصالحها البعيدة عن مصالحهم وأهدافهم.

لقد قتل النظام البائد عشرات الآلاف منهم، وهجر عشرات الألوف من عائلاتهم، فتوزعوا على المنافي والمهاجر، وعاشوا المأساة الكبرى في مخيمات اللاجئين التي لا تسكنها الدواجن الغربية، تفتك بهم الأمراض والأوبئة، وتحت رحمة العوامل الجوية، دون أن يلقوا عطفا أو اهتمام من الدول التي هجروا إليه، فهؤلاء يعتبرونهم عربا عراقيين، والعراق يعتبرهم فرسا إيرانيين، والكرد يحاولون الاستفادة منهم دون أن يقدموا لهم أي شكل من أشكال الدعم،  وما بين حانه ومانه ضاعت لحانه، وضاعت قضيتهم بين هذه المكونات، في الوقت الذي يجب أن تكون قضيتهم أولى القضايا التي يحاكم عليها رموز النظام السابق، لأنها أول مواجهة واضحة، وأكبر جريمة ارتكبت بحق مواطنين عراقيين أبرياء، قتل رجالهم ورملت نسائهم وشرد أبنائهم وسلبت ممتلكاتهم، لا لشيء الا لأنهم لم يسيروا في فلك النظام السابق، ولم يؤمنوا بتوجهاته وبسبب ميولهم السياسية والدينية المعروفة، ومواقفهم الرافضة للنظام، والغريب أنهم لا زالوا يعانون التهميش والإقصاء، ولا زالت دورهم بأيدي غاصبيه، وأبنائهم في خيام اللاجئين أو المنافي القصية، دون أن تفكر الحكومة العراقية بإعادة الحق لأصحابه الشرعيين، وتسعى لاسترجاع ممتلكاتهم التي لا زال عملاء النظام البائد ينعمون به، ولم تحاول تعويضهم عن أموالهم غير المنقولة والبضائع التي نهبت منهم، والأثاث المباع في المزاد العلني، والنقود المودعة في المصارف، والذهب الذي سرقه منهم رجال الشرطة والأمن، ولم تعاد الجنسية للكثيرين منهم،  أو يحضون بالرعاية بتعيين أبنائهم أسوة بمن أدعوا التضرر دون أن يكونوا في عداد المتضررين، وفي الوقت الذي كان النظام البائد يرفض تعيين الذين يرتبطون بهم بوشيجة نسب، أو ينتسب للجامعات والمعاهد، فهل هذه العدالة الاجتماعية التي نسعى لتحقيقها.

أن مشكلة الكرد الفيلية لا يمكن لأي طرف حلها أو أيجاد العلاج له، الا بوحدة أبنائه، وتماسكهم ليكونوا قوة فاعلة تفرض وجودها في تقرير مصيرهم والمطالبة بحقوقهم، وإذا ظلوا على هذه الفرقة والتشرذم، فسيكونون سلما يرتقيه الآخرين، وهم جالسين على التل يتفرجون.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com